فصل
في حُكمِ الصَّلاةِ في عُلوِّ المقبَرَةِ ، وَبيان ِ أَنهَا باطِلة ٌ، لِتَحَقق ِ العِلةِ وَعُمُوْمِ الأَدِلة
أَمّا الصَّلاة ُ في عُلوِّ المقبَرَةِ ، وَعُلوِّ بقِيَّةِ الموَاضِعِ المنْهيِّ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا : فقدِ اخْتَلفَ مُحَرِّمُو الصَّلاةِ فِيْهَا في ذلك :
فقالَ مُحَققوْهُمْ : لا فرْقَ بَيْنَ سُفلِهَا وَعُلوِّهَا ، لأَنَّ الاسْمَ يتناوَلُ الجمِيْعَ ، وَالحكمُ مُعَلقٌ باِلاسْم .
وَقالوْا : وَيَدْخُلُ في كلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا ، مَا يَدْخُلُ فِيْهِ مُطلقُ البَيْعِ وَالهِبَةِ مِنْ حُقوْق ٍ، مِنْ سُفلِهِ وَعُلوِّهِ ، اعْتِبَارًا بمَا يقعُ عَليْهِ الاسْمُ عِنْدَ الإطلاق ِ، فمَنْ باعَ دَارًا : دَخَلَ في ذلِك َ سُفلهَا وَعُلوُّهَا ، لِوُقوْعِ الاسْمِ عَلى الجمِيْعِ عِنْدَ الإطلاق ِ، وَلأَنَّ الحكمَ تَعَبُّدٌ ، فيناط ُ بمَا يَدْخُلُ في الاسْم .
ثمَّ قالَ المحَرِّمُوْنَ لِلصَّلاةِ في عُلوِّ المقابرِ: إنْ كانَ قدْ بُنِيَ عَلى المقابرِ :
· بناءٌ مَنْهيٌّ عَنْهُ كمَسْجِدٍ ،
· أَوْ بناءٌ في مَقبَرَةٍ مُسَبَّلةٍ :
كانتِ الصَّلاة ُ في عُلوِّ هَذَيْن ِ المبْنَيَيْن ِ : صَلاة ً مُحَرَّمَة ً غيْرَ صَحِيْحَةٍ ، لأَنهُمَا مَوْضِعَان ِ مُحَرَّمَان .
أَمّا الأَوَّلُ : فلأَنهُ صَلى في مَسْجِدٍ في القبوْرِ ، وَاتخاذ ٌ لِلقبوْرِ مَسَاجِدَ ، وَدُخُوْلٌ في لعْن ِالنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الكِتَابِ عَليْهِ . فإنهُمْ لمّا اتخذُوْا الأَبنِيَة َ عَلى قبوْرِ أَنْبيَائِهمْ وَصَالِحِيْهمْ : لعِنوْا عَلى ذلِك َ، سَوَاءٌ صَلوْا في قرَارِ المبْنَى أَوْ عُلوِّه .
أَمّا الثانِي: فلأَنَّ الصَّلاة َ فِيْهِ صَلاة ٌعَلى مَكان ٍ مَغْصُوْبٍ ، وَالخِلافُ في صِحَّةِ الصَّلاةِ في المكان ِ المغْصُوْبِ مَعْلوْمٌ مَشْهُوْرٌ ، مَعَ تَحَقق ِ العِلةِ الأُوْلىَ فِيْهِ كذَلِك .
أَمّا إنْ كانَ الميِّتُ مَدْفوْنا في دَارٍ ، أَعْلاهَا باق ٍ عَلى الإعْدَادِ لِلسُّكنَى : فذَكرَ بَعْضُ الأَصْحَابِ جَوَازَ الصَّلاةِ فِيْه .
وَالذِي عَليْهِ المحَققوْنَ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ ، حَنَابلة ً وَغيْرَهُمْ ، وَالذِي يَدُلُّ عَليْهِ كلامُ الإمَامِ أَحْمَدَ ، وَأَكثرِ أَصْحَابهِ : أَنهُ لا يُصَلى فِيْهِ ، لأَنَّ هَذَا البناءَ مَنْهيٌّ عَنْهُ ، وَهُوَ تابعٌ لِلقرَارِ في الاسْم .
وَلأَنَّ الصَّلاة َ في عُلوِّ هَذَا المكان ِ باِلنِّسْبةِ إلىَ الميِّتِ ، كالصَّلاةِ في أَسْفلِه .
وَلأَنَّ حِكمَة َ النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ القبْرِ : هُوَ مَا فِيْهِ مِنَ فتْحِ ذرِيْعَةٍ لِلشِّرْكِ ، وَمُشابهَةِ أَهْل ِ الكِتَابِ ، باِلتَّعْظِيْمِ المفضِي إلىَ اتخاذِ القبوْرِ أَوْثانا .
وَهَذِهِ الحِكمَة ُ مَوْجُوْدَة ٌ باِلصَّلاةِ في قرَارِ الأَبنِيَةِ وَعُلوِّهَا ، سَوَاءٌ قصَدَ المصَلي ذلِك َ، أَوْ تشَبَّهَ بمَنْ يَقصِدُ ذلِك َ، وَخِيْفَ أَنْ يَكوْنَ
ذرِيْعَة ً إلىَ ذلك .
وَقدْ ذكرَ ذلِك َ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ في«شَرْحِ العُمْدَةِ» ، وَرَجَّحَهُ بمَا سَبَقَ (2/471-475).
وَكذَلِك َ الحالُ في كلِّ مَا دَخَلَ في اسْمِ المقبَرَةِ ، مِمّا حَوْلَ القبوْرِ : لا يُصَلى فِيْه .
فعَلى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكوْنَ المنْعُ مُتَنَاوِلا ً لِحَرِيْمِ القبْرِ المفرَدِ ، وَفِنَائِهِ المضافِ إليْهِ ، قالهُ الأَصْحَابُ ، وَذكرَهُ وَرَجَّحَهُ شَيْخُ الإسْلامِ في «شَرْحِ العُمْدَةِ»(2/461).
وَهُوَ الذِي تَدُلُّ عَليْهِ الأَدِلة ُ كمَا سَبَقَ ، وَإخْرَاجُ هَذِهِ الموَاضِعِ مِنْ عُمُوْمِ الأَدِلةِ ، تَحَكمٌ غيْرُ مَقبوْل .