ذكر الإمام ابن القيم عن بعض الحكم مما حدث فى غزوة أحد
ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى فِيمَا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَهُوَ تَمْحِيصُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُوَ تَنْقِيَتُهُمْ وَتَخْلِيصُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْ آفَاتِ النُّفُوسِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ خَلَّصَهُمْ، وَمَحَّصَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَتَمَيَّزُوا مِنْهُمْ، فَحَصَلَ لَهُمْ تَمْحِيصَانِ: تَمْحِيصٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَتَمْحِيصٌ مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَهُوَ عَدُوُّهُمْ.ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى وَهِي مَحْقُ الْكَافِرِينَ بِطُغْيَانِهِمْ وَبَغْيِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ، ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ حُسْبَانَهُمْ وَظَنَّهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِدُونِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى أَعْدَائِهِ، وَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ بِحَيْثُ يُنْكَرُ عَلَى مَنْ ظَنَّهُ وَحَسِبَهُ.فَقَالَ:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: 142][آلِ عِمْرَانَ: 142] ، أَيْ وَلَمَّا يَقَعْ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَيَعْلَمُهُ، فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَعَلِمَهُ فَجَازَاكُمْ عَلَيْهِ بِالْجَنَّةِ، فَيَكُونُ الْجَزَاءُ عَلَى الْوَاقِعِ الْمَعْلُومِ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى مُجَرَّدِ عِلْمِهِ فِيهِ دُونَ أَنْ يَقَعَ مَعْلُومُهُ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ عَلَى
هَزِيمَتِهِمْ مِنْ أَمْرٍ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ وَيَوَدُّونَ لِقَاءَهُ.فَقَالَ: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] [آلِ عِمْرَانَ: 143] .قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمَّا أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ بِمَا فَعَلَ بِشُهَدَاءِ بَدْرٍ مِنَ الْكَرَامَةِ رَغِبُوا فِي الشَّهَادَةِ، فَتَمَنَّوْا قِتَالًا يَسْتَشْهِدُونَ فِيهِ، فَيَلْحَقُونَ إخْوَانَهُمْ، فَأَرَاهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ وَسَبَّبَهُ لَهُمْ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْهَزَمُوا إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] .وَمِنْهَا: أَنَّ وَقْعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ مُقَدِّمَةً وَإِرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَثَبَّتَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى انْقِلَابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ إنْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قُتِلَ، بَلِ الْوَاجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى دِينِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَيَمُوتُوا عَلَيْهِ أَوْ يُقْتَلُوا، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَعْبُدُونَ رَبَّ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَلَوْ مَاتَ مُحَمَّدٌ أَوْ قُتِلَ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ، فَكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَمَا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخَلَّدَ لَا هُوَ وَلَا هُمْ، بَلْ لِيَمُوتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّوْحِيدِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا بُدّ مِنْهُ سَوَاءٌ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَقِيَ، وَلِهَذَا وَبَّخَهُمْ عَلَى رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ، لَمَّا صَرَخَ الشّيْطَانُ إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] [آلِ عِمْرَانَ: 144] ، وَالشَّاكِرُونَ هُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ، فَثَبَتُوا عَلَيْهَا حَتَّى مَاتُوا أَوْ قُتِلُوا، فَظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الْعِتَابِ، وَحُكْمُ هَذَا الْخِطَابِ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَثَبَتَ الشَّاكِرُونَ عَلَى دِينِهِمْ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ وَأَعَزَّهُمْ، وَظَفَّرَهُمْ بِأَعْدَائِهِمْ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ.ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَفْسٍ أَجَلًا لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ، ثُمَّ تَلْحَقَ بِهِ، فَيَرِدُ النَّاسُ كُلُّهُمْ حَوْضَ الْمَنَايَا مَوْرِدًا وَاحِدًا، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهُ وَيَصْدُرُونَ عَنْ مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ مَصَادِرَ شَتَّى، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ أَنْبِيَائِهِ قُتِلُوا وَقُتِلَ مَعَهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ