قصة الثلاثة العظماء الذين أخرجهم الجوع
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلقاؤنا في هذا الموضوع يدور حول الثلاثة العظماء الذين أخرجهم الجوع: نبي، وصديق، وشهيد، أخرجهم الجوع! كان ذلك في الصدر الأول من هذه الأمة المرحومة المكرمة بهذا النبي العظيم.
نص الحديث:
روى الحديث الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى-بإسناد صحيح عن أبي هريرة - - قال: [خرج النبي - - في ساعة لا يخرج فيها، ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر فقال: (ما جاء بك يا أبا بكر؟). فقال: خرجت ألقى رسول الله - - وانظر في وجهه والتسليم عليه. فلم يلبث أن جاء عمر فقال: (ما جاء بك يا عمر؟) قال: الجوع يا رسول الله! فقال رسول الله - -: (وأنا قد وجدت بعض ذلك)، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري، وكان رجلاً كثير النخيل والشاء، ولم يكن له خدم فلم يجده، فقالوا لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء، فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها فوضعها، ثم جاء يلتزم النبي - - ويفدِّيه بأبيه وأمه، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطاً، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه فقال النبي - -: (أفلا تنقيت لنا من رطبه) فقال: يا رسول الله! إني أردت أن تختاروا أو قال: تخيروا من رطبه وبسره، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله - -: (هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد) فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً، فقال النبي - -: (لا تذبحن ذات در) قال: فذبح لهم عناقاً أو جدياً فأتاهم بها فأكلوا، فقال النبي - -: (هل لك خادم؟) قال: لا. قال: (فإذا أتانا سبي فأتنا) فأُتي النبي - - برأسين ليس معهما ثالث فأتاه أبو الهيثم، فقال له الرسول - -: (اختر منهما) فقال: يا نبي الله! اختر لي، فقال النبي - -: (إن المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به معروفاً) فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته، فأخبرها بقول رسول الله - - فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي - - إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق!! فقال النبي - -: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي). قال أبو عيسى الترمذي - رحمه الله - هذا حديث حسن صحيح غريب.([1])
شرح الحديث:
الحديث يقول فيه أبو بكر الصديق - -: خرجت ألقى رسول الله - - وانظر في وجهه والتسليم عليه، فلم يلبث أن جاء عمر! فقال النبي - -: (ما جاء بك يا عمر؟) قال: الجوع يا رسول الله! وفي رواية مسلم: خرج رسول الله - - ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر! فقال: (ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة) أي: الساعة غير المعتادة التي لا يخرج فيها الناس عادة، قالا: الجوع يا رسول الله! قال رسول الله: (وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما)([2]) وهذا فيه بيان ما كان عليه النبي - - وكبار أصحابه في التقلل من الدنيا، وما ابتلوا به من الجوع، وضيق العيش في أوقات. فقال لهم: (فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم) وأبو الهيثم - - اسمه مالك بن التَّيَّهان، فقال النبي - -: (قوموا) فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار، وكان مالك بن التيهان - - رجلاً كثير النخل والشاء, والشاء: هي الغنم جمع شاة, فوجدوا الرجل, ولم يكن عنده خدم، فقالوا لامرأته: أين صاحبك؟ وفي رواية مسلم: فلما رأتهم المرأة قالت: مرحباً وأهلاً! فقال لها رسول الله - -: (أين فلان) فقالت: خرج يستعذب لنا الماء، أي: يطلب لنا الماء العذب الذي لا ملوحة فيه، ثم بعد ذلك جاء أبو الهيثم - - بقربة يزعبها, ومعنى يزعبها: أي أنه احتملها وهي ممتلئة، يتدافع بها ويحملها لثقلها، فلما رأى النبي - - هش له غاية الهشاشة, والتزمه وعانقه وضمه لجناحه، ثم انطلق بهؤلاء الثلاثة الضيوف الكرام إلى حديقته الغناء ذات الشجر، فجاء بقنو وهو العذق من الرطب، فيه بسر وتمر ورطب، نفس العذق فيه بسر وتمر ورطب! ولما جاء به وضعه بين أيديهم, فقال - عليه الصلاة والسلام -: (أفلا تنقيت لنا من رطبه) أي هلا اخترت من الرطب! فقال أبو الهيثم: إني أردت أن تختاروا أو تخيروا من رطبه وبسره.. التمر قبل أن يصبح رطباً يكون بسراً، وبعد ذلك يتحول إلى رطب.. تمر النخلة أول ما يطلع يكون طلحاً، ثم بعد ذلك يصبح بلحاً، ثم بعد ذلك يصبح بسراً، ثم بعد ذلك يصبح رطباً، ولما أكل النبي - - قال: (هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة)، وفي رواية مسلم: فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله - - لأبي بكر وعمر: (والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم) ولما أراد الرجل أن يذبح لهم شاة، قال النبي - -: (لا تذبحن ذات دَرٍ) يعني: ذات لبن، (إياك والحلوب) فذبح لهم عناقاً وهي الأنثى من أولاد المعز، أو جدياً من أولاد المعز، وهو الذكر يسمى: جدياً وقدمه إليهم. ثم سأله النبي - -: هل له خادم في هذا المال، يحتاج إلى من يخدمه؟! قال: لا. قال: (فإذا أتانا سبي) أي أسارى من أسرى المشركين (فأتنا). فجيء إلى النبي - - برأسين من العبيد، وجاء أبو الهيثم، فقال النبي - عليه الصلاة والسلام -: (اختر واحداً منهما) فقال أبو الهيثم: أنت اختر لي يا رسول الله! فقال النبي - - توطئة وتمهيداً قبل الاختيار: (إن المستشار مؤتمن) يعني الذي يطلب منه الرأي والشورى, والنصيحة، فلابد أن يؤدي الأمانة، ولا يجوز له أن يخونه؛ بأن يكتم ما به مصلحة له فأشار - عليه الصلاة والسلام - إلى واحد منهما، قال: (خذ هذا فإني رأيته يصلي) أي: ظهرت عليه آثار الصلاح، وكان يصلي، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فأعطاه العبد، وقال له: (استوص به معروفاً) أي: اصنع به معروفاً، وأحسن إليه. ثم إن النبي - - لما أعطاه هذا العبد ورجع إلى بيته، قال بعد ما سألته المرأة: النبي - - أوصاني بأن استوصي به خيراً، فقالت المرأة: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي - - إلا أن تعتقه، يعني: أحسن شيء تستوصي به خيراً أن تعتقه، فقال الرجل: هو عتيق! فمتى ما تلفظ الإنسان بالعتق فهو عتيق فقال النبي - عليه الصلاة والسلام - - في إثر ذلك -: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان) والبطانة: هم خاصة الرجل الذين يعرفون أسراره لثقته بهم، شبهَّهم ببطانة الثوب؛ لأن البطانة مما يلي الجسد من الداخل، فشبه الخاصة، وأهل سره وأهل ثقته بالبطانة من قربهم بالرجل ومن علمهم بباطنه وحقيقة أمره وأسراره، ثم قال: (بطانة تأمره بالمعروف) وهو ما عرفه الشرع، وحكم بحسنه (وتنهاه عن المنكر) وهو ما أنكره الشرع ونهى عن فعله، (وبطانة لا تألوه خبالاً) يعني: لا تقصر في إفساد أمره؛ كقوله -تعالى-: ((لا يألونكم خبالاً))([3]) يعني يأمرونهم بالشر، ويسعون في إفسادهم (ومن يوق بطانة السوء فقد وقي), هل كان النبي - عليه الصلاة والسلام - له بطانتان؟ قيل: إن المراد بالبطانتين في حقه - - الملك وشيطان النبي - عليه الصلاة والسلام – ولكن الله أعانه عليه فدخل في الإسلام، وقيل: أسلم، يعني: سلم من شره، فما من نبي ولا غيره من الخلفاء إلا وله بطانتان، وقال - عليه الصلاة والسلام -: (من ولي منكم عملاً فأراد الله به خيراً جعل له وزيراً صالحاً، إن نسي ذكره، وإذا ذكر أعانه) ولو أن الإنسان لم يوجد له بطانة من أهل الخير، فإن نفسه أمارة بالسوء، فقد وقى الشر كله.