![]() |
وَكذَلِك َ مَالِك ٌ فِي«الموَطإ»: رَوَى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا: أَنهُ كانَ إذا دَخَلَ المسْجِدَ قالَ:«السَّلامُ عَليْك َ يَا رَسُوْلَ اللهِ ، السَّلامُ عَليْك َ يَا أَبا بَكرٍ، السَّلامُ عَليْك َ يا أَبةِ» ثمَّ يَنْصَرِف . وَفي«سُنَن ِ أَبي دَاوُوْدَ»(2041) عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قالَ:«لا تتخِذُوْا قبْرِي عِيْدًا ، وَصَلوْا عَليَّ فإنَّ صَلاتكمْ تبْلغنِي حَيْثمَا كنتمْ». وَفِي«سُنَن ِسَعِيْدِ بْن ِ مَنْصُوْرٍ»: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ حَسَن ِ بْن ِ حَسَن ِ بْن ِ عَلِيِّ بْن ِ أَبي طالِبٍ رَأَى رَجُلا ً يَخْتَلِفُ إلىَ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَدْعُوْ عِنْدَهُ فقالَ:(يَا هَذَا ! إنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«لا تَتَّخِذُوْا قبْرِي عِيْدًا ، وَصَلوْا عَليَّ، فإنَّ صَلاتَكمْ حَيْثمَا كنتمْ تبْلغنِي» فمَا أَنتَ وَرَجُلٌ باِلأَندَلس ِ مِنْهُ إلا َّ سَوَاء). وَفِي«الصَّحِيْحَيْنِ» عَنْ عَائِشَة َرَضِيَ الله ُ عَنْهَا : عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قالَ فِي مَرَض ِ مَوْتِهِ:«لعَنَ الله ُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى ، اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيائِهمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا فعَلوْا ، وَلوْلا ذلِك َ لأُبرِزَ قبْرُهُ ، وَلكِنْ كرِهَ أَنْ يُتَّخذَ مَسْجِدًا [خ(435) م(531)]. وَهُمْ دَفنوْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا خِلافَ مَا اعْتَادُوْهُ مِنَ الدَّفن ِ فِي الصَّحْرَاءِ ، لِئَلا ّ يصَليَ أَحَدٌ عِنْدَ قبْرِهِ وَيتخِذَهُ مَسْجِدًا ، فيتخذَ قبْرُهُ وَثنًا . وَكانَ الصَّحَابة ُ وَالتّابعُوْنَ – لمّا كانتِ الحجْرَة ُ النَّبَوِيَّة ُ مُنْفصِلة ً عَن ِ المسْجِدِ إلىَ زَمَن ِ الوَلِيْدِ بْن ِعَبْدِ الملِكِ (ت96ه) -: لا يَدْخُلُ أَحَدٌ إليْهِ ، لا لِصَلاةٍ هُنَاك َ، وَلا تمَسُّحٍ باِلقبرِ ، وَلا دُعَاءٍ هُنَاك َ، بَلْ هَذَا جَمِيْعُهُ إنمَا كانوْا يَفعَلوْنهُ فِي المسْجد . وَكانَ السَّلفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتّابعِينَ إذا سَلمُوْا عَلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَرَادُوْا الدُّعَاءَ:دَعَوْا مُسْتَقبلِي القِبْلةِ ، وَلمْ يَسْتَقبلوْا القبْر . وَأَمّا الوُقوْفُ لِلسَّلامِ عَليْهِ صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ وَسَلامُهُ : فقالَ أَبوْ حَنِيْفة َ: «يَسْتَقبلُ القِبْلة َ أَيضًا ، وَلا يَسْتَقبلُ القبرَ». وَقالَ أَكثرُ الأَئِمَّةِ:«بَلْ يَسْتَقبلُ القبْرَ عِنْدَ السَّلامِ خَاصَّة». وَلمْ يَقلْ أَحَدٌ مِنَ الأَئِمَّةِ :«إنهُ يَسْتَقبلُ القبْرَ عِنْدَ الدُّعَاء». وَليْسَ فِي ذلِك َ إلا َّ حِكاية ٌ مَكذُوبة ٌ، ترْوَى عَنْ مَالِكٍ ، وَمَذْهَبُهُ بخِلافِهَا . وَاتفقَ الأَئِمَّة ُ عَلى أَنهُ لا يَتَمَسَّحُ بقبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلا يُقبله . وَهَذَا كلهُ مُحَافظة ٌ عَلى التَّوْحِيْدِ ، فإنَّ مِنْ أُصُوْل ِ الشِّرْكِ باِللهِ : اتخاذَ القبوْرِ مَسَاجِدَ ، كمَا قالَ طائِفة ٌ مِنَ السَّلفِ فِي قوْلِهِ تَعَالىَ:{ وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً }. قالوْا :«هَؤُلاءِ كانوْا قوْمًا صَالِحِينَ فِي قوْمِ نوْحٍ ، فلمّا مَاتوْا عَكفوْا عَلى قبوْرِهِمْ ، ثمَّ صَوَّرُوْا عَلى صُوَرِهِمْ تمَاثِيْلَ ، ثمَّ طالَ عَليْهمُ الأَمَدُ فعَبَدُوْهَا». وَقدْ ذكرَ البُخارِيُّ فِي«صَحِيْحِهِ»(4920) هَذَا المعْنَى عَن ِ ابْن ِ عَبّاس . وَذكرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبَرِيُّ وَغيْرُهُ فِي«التَّفسِيرِ» عَنْ غيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلف . وَذكرَهُ وَثِيْمَة ُ وَغيْرُهُ فِي«قصَص ِ الأَنبياءِ» مِنْ عِدَّةِ طرُق . وَقدْ بَسَطتُ الكلامَ عَلى أُصُوْل ِ هَذِهِ المسَائِل ِ فِي غيْرِ هَذَا الموْضِع . وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الأَحَادِيْثَ فِي السَّفرِ لِزِيَارَةِ المشَاهِدِ التي عَلى القبوْرِ : أَهْلُ البدَعِ مِنَ الرّافِضَةِ وَنحْوِهِمْ ، الذِيْنَ يُعَطلوْنَ المسَاجِدَ ، وَيُعَظمُوْنَ المشَاهِدَ ، يَدَعُوْنَ بيوْتَ اللهِ التي أَمَرَ أَنْ يُذْكرَ فِيْهَا اسْمُهُ ، وَيُعْبَدَ وَحْدَهُ لا شَرِيْك َ لهُ ، وَيُعَظمُوْنَ المشَاهِدَ التي يُشْرَك ُ فِيْهَا ، وَيُكذَبُ ، وَيُبْتَدَعُ فِيْهَا دِيْنٌ لمْ يُنَزِّل ِ الله ُ بهِ سُلطانا . فإنَّ الكِتَابَ وَالسُّنَّة َ، إنمَا فِيْهمَا ذِكرُ المسَاجِدِ دُوْنَ المشَاهِدِ ، كمَا قالَ تَعَالىَ:{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }. وَقالَ تَعَالىَ:{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }. وَقالَ تَعَالىَ: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }. وَقالَ تَعَالىَ:{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً }. وَقالَ تَعَالىَ: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا }. وَقدْ ثبتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في«الصَّحِيْحِ»:أَنهُ كانَ يَقوْلُ :«إنَّ مَنْ كانَ قبْلكمْ ، كانوْا يَتَّخِذُوْنَ القبوْرَ مَسَاجِدَ ، أَلا فلا تَتَّخِذُوْا القبوْرَ مَسَاجِدَ ، فإني أَنهَاكمْ عَنْ ذلك» ، وَالله ُ أَعْلم)اه كلامُ شَيْخِ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله . |
فصل وَكانتْ فتْوَاهُ هَذِهِ نَحْوَ سَنَةِ(709ه) وَبَعْدَ سِنِينَ : أَنكرَ فتيَاهُ هَذِهِ جَمَاعَة ٌ مِنْ أَهْل ِ البدَعِ سَنَة َ(726ه) ، وَحَصَلَ لهُ رَحِمَهُ الله ُ بسَببهَا ، مِحَنٌ عَظِيْمَة ٌ، وَضَجَّ المبطِلوْنَ مِنْهَا ، وَشَرِقوْا بهَا ، وَلمْ يَسْتَطِيْعُوْا دَفعَهَا ، فكذَبوْا عَليْهِ ، وَحَرَّفوْا مُرَادَهُ ، لِينفرُوْا النّاسَ مِنْهُ ، وَيَحْمِلوْا بذَلِك َ عَليْهِ ، وَزَعَمُوْا أَنهُ يُحَرِّمُ زِيَارَة َ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطلقا ، وَمَزَاعِمَ أُخْرَى كاذِبة ً، وَكتبُوْا إلىَ السُّلطان ِ بذَلِك َ، فحَبسَهُ سُلطانُ مِصْرَ بقلعَةِ دِمَشْقَ ، بكتَابٍ وَرَدَ مِنْهُ في شَهْرِ شَعْبَانَ سنة (726ه). قالَ الحافِظُ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدِ بْن ِعَبْدِ الهادِي المقدِسِيُّ(ت744ه) في«العُقوْدِ الدُّرِّيةِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذِهِ الفتْيَا كامِلة ً(ص330-341): (هَذَا آخِرُ مَا أَجَابَ بهِ شَيْخُ الإسْلامِ ، وَالله ُ سُبْحَانهُ وَتعَالىَ أَعْلم . وَلهُ مِنَ الكلامِ في مِثْل ِ هَذَا كثِيرٌ كمَا أَشَارَ إليْهِ في الجوَاب . وَلمّا ظفِرُوْا في دِمَشْقَ بهَذَا الجوَابِ : كتبوْهُ وَبعَثوْا بهِ إلىَ الدِّيارِ المِصْرِيةِ ، وَكتبَ عَليْهِ قاضِي الشّافِعِيَّةِ :«قابلتُ الجوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَال ِ المكتوْبِ عَلى خَط ِّ ابْن ِ تَيْمية َ فصَحَّ». إلىَ أَنْ قالَ :«وَإنمَا المخزِي جَعْلهُ : زِيَارَة َ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقبوْرِ الأَنْبيَاءِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالىَ عَليْهمْ أَجْمَعِيْنَ مَعْصِيَة ً باِلإجْمَاعِ، مَقطوْعًا بهَا» هَذَا كلامُه . فانْظرْ إلىَ هَذَا التَّحْرِيْفِ عَلى شَيْخِ الإسْلامِ ، وَالجوَابُ ليْسَ فِيْهِ المنْعُ مِنْ زِيَارَةِ قبوْرِ الأَنْبيَاءِ وَالصّالِحِينَ ، وَإنمَا ذكرَ فِيْهِ قوْليْن ِ: في شَدِّ الرَّحْل ِ، وَالسَّفرِ إلىَ مُجَرَّدِ زِيَارَةِ القبُوْر . |
وَزِيَارَة ُ القبُوْرِ مِنْ غيْرِ شَدِّ رَحْل ٍ إليْهَا مَسْأَلة ٌ، وَشَدُّ الرَّحْل ِ لِمُجَرَّدِ الزِّيارَةِ مَسْأَلة ٌ أُخْرَى . وَالشَّيْخُ لا يَمْنَعُ الزِّيارَة َ الخالِية َ عَنْ شَدِّ رَحْل ٍ، بَلْ يَسْتَحِبُّهَا وَيَنْدُبُ إليْهَا . وَكتبُهُ وَمَنَاسِكهُ تَشْهَدُ بذَلِك َ، وَلمْ يَتَعَرَّض ِ الشَّيْخُ إلىَ هَذِهِ الزِّيارَةِ فِي الفتْيَا ، وَلا قالَ:«إنهَا مَعْصِيَة ٌ» ، وَلا حَكى الإجْمَاعَ عَلى المنْعِ مِنْهَا ، وَالله ُسُبْحَانهُ وَتعَالىَ لا تَخْفى عَليْهِ خَافِيَة . وَلمّا وَصَلَ خَط ُّ القاضِي المذْكوْرِ إلىَ الدِّيارِ المِصْرِيَّةِ : كثرَ الكلامُ ، وَعَظمَتِ الفِتْنَة ُ، وَطلِبَ القضَاة ُ بهَا ، فاجْتَمَعُوْا وَتكلمُوْا ، وَأَشارَ بَعْضُهُمْ بحَبْس ِ الشَّيْخِ ، فرَسَمَ السُّلطانُ بهِ ، وَجَرَى مَا تقدَّمَ ذِكرُه . ثمَّ جَرَى بَعْدَ ذلِك َ أُمُوْرٌ عَلى القائِمِيْنَ في هَذِهِ القضِيَّةِ ، لا يُمْكِنُ ذِكرُهَا في هَذَا الموْضِع . وَقدْ وَصَلَ مَا أَجَابَ بهِ الشَّيْخُ فِي هَذِهِ المسْأَلةِ إلىَ عُلمَاءِ بَغْدَادَ ، فقامُوْا في الانْتِصَارِ لهُ ، وَكتبُوْا بمُوَافقتِهِ ، وَرَأَيتُ خُطوْطهُمْ بذَلِك َ، وَهَذَا صُوْرَة ُ مَا كتبوْا) ثمَّ أَوْرَدَهَا ابنُ عَبْدِ الهادِي رَحِمَهُ الله ُ ، وَرَحِمَهُمْ . وَذكرَ الحافِظ ُ عَلمُ الدِّيْن ِ أَبوْ مُحَمَّدٍ القاسِمُ بنُ مُحَمَّدِ بن ِ يُوْسُفَ البرْزَالِيُّ(ت739 ه) في«تارِيْخِهِ»: أَنَّ شَيْخَ الإسْلامِ اعْتقِلَ بقلعَةِ دِمَشْقَ ، عَصْرَ الاثنيْن ِ سَادِسَ عَشْرَ شَعْبَانَ سَنَة َ (726ه). ثمَّ قالَ : وَفي يَوْمِ الجمْعَةِ عَاشِرِ الشَّهْرِ المذْكوْرِ: قرِئَ بجَامِعِ دِمَشْقَ الكِتَابُ السُّلطانِيُّ ، الوَارِدُ باِعْتِقالِهِ وَمَنْعِهِ مِنَ الفتيا . وَهَذِهِ الوَاقِعَة ُ سَببهَا : فتيا وُجِدَتْ بخطهِ في السَّفرِ وَإعْمَال ِ المطِيِّ إلىَ زِيارَةِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ عَليْهمُ الصَّلاة ُ وَالسَّلامُ ، وَقبوْرِ الصّالحِيْن)اه مِنَ«البدَايَةِ وَالنِّهَايَة»(14/107). |
وَقالَ الحافِظ ُ العِمَادُ ابْنُ كثِيْرٍ في«البدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ»(14/108) في حَوَادِثِ سَنَةِ (726ه) : ثمَّ يَوْمَ الخمِيْس ِ[11/11/726ه] دَخَلَ القاضِي جَمَالُ الدِّين ِابنُ جملة َ، وَناصِرُ الدِّين ِ مَشَدُّ الأَوْقافِ ، وَسَأَلاهُ عَنْ مَضْمُوْن ِ قوْلِهِ في مَسْأَلةِ الزِّيارَة . فكتَبَ ذلِك َ في دَرْجٍ ، وَكتبَ تَحْتَهُ قاضِي الشّافِعِيَّةِ بدِمَشْقَ:«قابَلتُ الجوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَال ِ المكتوْبِ عَلى خَطِّ ابْن ِ تَيْمية َ» إلىَ أَنْ قالَ:«وَإنمَا المخزِي جَعْلهُ زِيارَة َ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقبوْرِ الأَنبيَاءِ صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهمْ مَعْصِيَة ً باِلإجْمَاعِ ، مَقطوْعًا بهَا». قالَ ابْنُ كثِيْرٍ بَعْدَهُ :فانظرْ الآنَ هَذَا التَّحْرِيْفَ عَلى شَيْخِ الإسْلامِ ، فإنَّ جَوَابهُ عَلى هَذِهِ المسْأَلةِ ، ليْسَ فِيْهِ مَنْعُ زِيَارَةِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِيْنَ ، وَإنمَا فِيْهِ ذِكرُ قوْليْن ِ في شَدِّ الرَّحْل ِ، وَالسَّفرِ إلىَ مُجَرَّدِ زِيارَةِ القبوْر . وَزِيارَة ُ القبوْرِ مِنْ غيْرِ شَدِّ رَحْل ٍ إليْهَا مَسْأَلة ٌ، وَشَدُّ الرَّحْل ِ لِمُجَرَّدِ الزِّيارَةِ ، مَسْأَلة ٌ أُخْرَى . وَالشَّيْخُ لمْ يَمْنَعِ الزِّيارَة َ الخالِيَة َ عَنْ شَدِّ رَحْل ٍ، بَلْ يَسْتَحِبُّهَا وَيَنْدُبُ إليْهَا ، وَكتبهُ وَمَنَاسِكهُ تَشْهَدُ بذَلِك َ، وَلمْ يتعَرَّضْ إلىَ هَذِهِ الزِّيارَةِ في هَذَا الوَجْهِ مِنَ الفتْيَا ، وَلا قالَ «إنهَا مَعْصِيَة ٌ»، وَلا حَكى الإجْمَاعَ عَلى المنْعِ مِنْهَا ، وَلا هُوَ جَاهِلٌ قوْلَ الرَّسُوْل ِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «زُوْرُوْا القبوْرَ فإنهَا تذَكرُكمُ الآخِرَة» ، وَالله ُ سُبْحَانهُ لا يَخْفى عَليْهِ شَيْءٌ ، وَلا يَخْفى عَليْهِ خَافِيَة ٌ، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ })اه. |
فصل وَقدِ انْتَصَرَ لِشَيْخِ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله ُ، وَذبَّ عَنْهُ ، وَبَيَّنَ مُرَادَهُ ، وَرَجَّحَهُ وَأَظهَرَهُ : جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ مِنْ أَرْبابِ المذَاهِبِ كافة ً، وَعَلى رَأْسِهمْ عُلمَاءُ بَغْدَاد . وَضَلَّ آخَرُوْنَ عَنْ عِلةِ نهْيِّ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَابطِهِ في شَدِّ الرِّحَال ِ إلىَ غيْرِ المسَاجِدِ الثلاثةِ : فعَارَضُوْهُ – مَعَ أَنهُ في«الصَّحِيْحَيْن»- بإجْمَاعِ العُلمَاءِ عَلى جَوَازِ شَدِّ الرِّحَال ِ إلىَ الثغوْرِ ، وَطلبِ العِلمِ ، وَالتِّجارَةِ ، وَزِيارَةِ الأَرْحَامِ ، وَغيْرِ ذلِك َ مِمّا هُوَ مَشْرُوْعٌ ، أَوْ صَرَفوْا مَعْنَاهُ عَنْ حَقِيْقتِهِ بصَوَارِفَ غيْرَ صَحِيْحَةٍ ، وَعَمُوْا عَنْ سَببِ الحكمِ وَعِلتِه . قالَ شَيْخُ الإسْلامِ مُبَيِّنًا العِلة َ الصَّحِيْحَة َ المعْتَبرَة َ في ذلِك َ، وَرَادًّا عَلى أُوْلئِك َ المتوَهِّمِيْنَ - كمَا في«مَجْمُوْعِ الفتاوَى»-(27/249-250) فالمسَافِرُ إلىَ الثغوْرِ، أَوْ طلبِ العِلمِ ، أَوِ التجَارَةِ ، أَوْ زِيَارَةِ قرِيبهِ : ليْسَ مَقصُوْدُهُ مَكانا مُعَيَّنًا إلا َّ باِلعَرَض ِ، إذا عَرَفَ أَنَّ مَقصُوْدَهُ فِيْهِ ، وَلوْ كانَ مَقصُوْدُهُ في غيْرِهِ لذَهَبَ إليْه . فالسَّفرُ إلىَ مِثْل ِ هَذَا ، لمْ يَدْخُلْ في الحدِيْثِ باِتفاق ِ العُلمَاءِ ، وَإنمَا دَخَلَ فِيْهِ مَنْ يُسَافِرُ لِمَكان ٍ مُعَيَّن ٍ، لِفضِيْلةِ ذلِك َ بعَيْنِهِ ، كالذِي يُسَافِرُ إلىَ المسَاجِدِ وَآثارِ الأَنْبيَاءِ ، كالطوْرِ الذِي كلمَ الله ُ عَليْهِ مُوْسَى ، وَغارِ حِرَاءَ ... وَمَا هُوَ دُوْنَ ذلِك َ مِنَ الغارَاتِ وَالجِبَال)اه كلامُهُ رَحِمَهُ الله . وَقالَ آخَرُوْنَ قوْلُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إلا َّ إلىَ ثلاثةِ مَسَاجِدَ»: اسْتثناءٌ مُفرَّغٌ ، وَالتَّقدِيْرُ فِيْهِ:«إلىَ مَسْجِدٍ» أَي : لا تشدُّ الرِّحَالُ إلىَ مَسْجِدٍ إلا َّ إلىَ المسَاجِدِ الثلاثة . فأَجَازُوْا كلَّ سَفرٍ - وَإنْ كانَ سَفرًا لِبُقعَةٍ فاضِلةٍ ، أَوْ يُزْعَمُ فضْلهَا ، أَوْ قبْرٍ وَغيْرِهِ – وَلمْ يَمْنَعُوْا إلا َّ مَنْ سَافرَ لِمَسْجِدٍ غيْرَ هَذِهِ الثلاثةِ ، وَجَعَلوْا ذلِك َ هُوَ الضّابط َ! وَهَذَا غيْرُ صَحِيْح . وَلوْ سَلمْنَا لهمْ ذلِك َ، وَجَعَلنَا التَّقدِيْرَ في ذلِك َ الاسْتِثْنَاءِ المفرَّغِ:«إلىَ مَسْجِدٍ»: لكانَ النَّهْيُ عَن ِ السَّفرِ إلىَ مَسْجِدٍ غيْرِ الثلاثةِ باِللفظِ ، وَعَنْ سَائِرِ البقاعِ وَالأَمَاكِن ِ التي يعْتقدُ فضْلهَا باِلتَّنْبيْه وَالفحْوَى ، وَطرِيْق ِ الأَوْلىَ . فإنَّ المسَاجِدَ وَالعِبَادَة َ فِيْهَا ، أَحَبُّ إلىَ اللهِ مِنَ العِبَادَةِ في تِلك َ البقاعِ باِلنَّصِّ وَالإجْمَاع . فإذا كانَ السَّفرُ إلىَ البقاعِ الفاضِلة - باِلنَّصِّ وَالإجْمَاعِ-: قدْ نهيَ عَنْهُ : فالسَّفرُ إلىَ المفضُوْلةِ أَوْلىَ باِلتَّحْرِيْمِ وَأَحْرَى . وَالصَّوَابُ : أَنَّ التَّقدِيْرَ في هَذَا الاسْتِثْنَاءِ هُوَ:«إلىَ بُقعَةٍ وَمَكان ٍ يُظنُّ فضْلهُ» أَي : لا تشدُّ الرِّحَالُ إلىَ بُقعَةٍ يُظنُّ فضْلهَا ، إلا َّ إلىَ ثلاثةِ مَسَاجِد . وَعَلى كِلا التقدِيْرَيْن ِ في هَذَا الاسْتِثْنَاءِ : يَحْرُمُ شَدُّ الرِّحَال ِ، إلا َّ إلىَ ثلاثةِ مَسَاجِد . إذا تقرَّرَ هَذَا الحكمُ وَاسْتقرَّ : عَلِمْتَ أَنَّ شَدَّ الرِّحَال ِ إلىَ قبوْرِ الأَوْلِيَاءِ وَالصّالِحِيْنَ : مُنْكرٌ عَظِيْمٌ ، وَإثمٌ جَسِيْمٌ ، وَضَلالة ٌ عَمْيَاءُ ، وَجَهَالة ٌ جَهْلاء . وَأَنَّ ذلِك َ المسَافرَ قدْ سَافرَ مَأْزُوْرًا في سَفرِ مَعْصِيَةٍ ، لا يَجُوْزُ لهُ فِيْهِ الجمْعُ وَلا القصْرُ ، وَلا التَّرَخُّصُ برُخص ِ المسَافِرِيْن . فإنْ كانَ صَائِمًا : لمْ يَجُزْ لهُ الإفطارُ ، وَإنْ كانَ مُصَليًا : لمْ تصِحَّ صَلاتهُ إلا َّ باِلإتمَام . ثمَّ إذا عَلِمْتَ أَنَّ كلَّ شَادِّ رَحْل ٍ وَمُسَافِرٍ إلىَ تِلك َ المشَاهِدِ وَالقبوْرِ : لمْ يُسَافرْ لها ، إلا َّ لأَجْل ِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا ، رَجَاءَ بَرَكةِ بقعَتِهَا : عَلِمْتَ أَنَّ أُوْلئِك َ المسَافِرِيْنَ ، قدْ بَلغوْا في الضَّلال ِ مَبْلغا عَظِيْمًا . بَلْ لا يَخْلو أُوْلئِك َ المسَافِرُوْنَ المرْتحِلوْنَ إلىَ القبوْرِ ، مِنْ دُعَاءِ أُوْلئِك َ المقبُوْرِيْنَ ، وَالاسْتِغاثةِ بهمْ ، وَرَجَاءِ نفعِهمْ ، وَغيْرِ ذلِك َ مِمّا هُوَ شِرْك ٌ وَكفرٌ باِللهِ مُخْرِجٌ مِنَ المِلةِ ، لا يَقبَلُ الله ُ مِنْ فاعِلهِ عَدْلا ً وَلا صَرْفا . فهَذَا البابُ الذِي خَشِيَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى أُمَّتِهِ مِنْهُ قدْ فتِحَ ، وَهَذَا نهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ اتخاذِهَا مَسَاجِدَ قدْ أُوْتِيَ : فكانَ ذرِيْعَة ً إلىَ إشْرَاكِهمْ باِللهِ وَكفرِهِمْ ، كمَا كانَ ذرِيْعَة ً لِشِرْكِ الأُمَمِ قبْلهُمْ . |
فصل في بيان ِحَال ِالأَحَادِيْثِ المرْوِيَّةِ في فضْل ِ زِيَارَةِ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنهَا مَوْضُوْعَة ٌ، مَعَ كوْن ِ زِيَارَةِ قبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرْبَة ً مِنَ القرَبِ ، وَطاعَة ً مِنَ الطاعَاتِ ، بشَرْطِ أَنْ لا يَكوْنَ ذلِك َ بشَدِّ رَحْل ٍ إليْه أَمّا مَا يَحْتَجُّ بهِ بَعْضُ المبْطِليْنَ ، مِمّا يُرْوَى في هَذَا البابِ مِنْ أَحَادِيْثَ ، كحَدِيْثِ «مَنْ حَجَّ وَلمْ يَزُرْنِي: فقدْ جَفانِي» ، وَحَدِيْثِ «مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبي فِي عَامٍ وَاحِدٍ : ضَمِنْتُ لهُ عَلى اللهِ الجنة»: فليْسَ لهمْ حُجَّة ٌ في شَيْءٍ مِنْهُ ، وَكلُّ مَا في هَذَا البابِ ، مَوْضُوْعٌ لا يَصِحُّ ، ولا يُحْتَجُّ بمِثلِه . وَقدْ جَمَعَهَا الحافِظ ُ محمَّدُ بْنُ أَحْمَدِ بْن ِعَبْدِ الهادِي المقدِسِيُّ رَحِمَهُ الله ُ في كِتَابهِ«الصّارِمِ المنْكِي ، في الرَّدِّ عَلى السُّبْكِيّ» ، وَتكلمَ فِيْهِ عَلى كلِّ حَدِيْثٍ بمَا يَشْفِي وَيَكفِي ، وَبَيَّنَ أَنهَا جَمِيْعًا بَاطِلة ٌ لا تَصِحّ . قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ(27/216) : (وَقدْ يَحْتَجُّ بَعْضُ مَنْ لا يَعْرِفُ الحدِيْثَ ، باِلأَحَادِيْثِ المرْوِيَّةِ في زِيَارَةِ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كقوْلِهِ:«مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي : فكأَنما زَارَنِي فِي حَيَاتِي» رَوَاهُ الدَّارَقطنيّ (2/278). وَأَمّا مَا ذكرَهُ بَعْضُ النّاس ِ مِنْ قوْلِهِ:«مَنْ حَجَّ وَلمْ يَزُرْنِي: فقدْ جَفانِي»: فهَذَا لمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنَ العُلمَاء . وَهُوَ مِثْلُ قوْلِهِ:«مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبي فِي عَامٍ وَاحِدٍ : ضَمِنْتُ لهُ عَلى اللهِ الجنة». فإنَّ هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ باِتفاق ِ العُلمَاءِ ، وَلمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ ، وَلمْ يَحْتَجَّ بهِ أَحَدٌ ، وَإنمَا يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بحدِيثِ الدَّارَقطنيّ. ثمَّ قالَ رَحِمَهُ الله ُ(27/216-219) : (وَلكِنَّ هَذَا وَإنْ كانَ لمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنَ العُلمَاءِ فِي كتبِ الفِقهِ وَالحدِيْثِ ، لا مُحْتَجًّا وَلا مُعْتَضِدًا بهِ ، وَإنْ ذكرَهُ بَعْضُ المتأَخِّرِيْنَ : فقدْ رَوَاهُ أَبوْ أَحْمَدَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي«كِتَابِ الضُّعَفاءِ»(8/248) لِيبيِّنَ ضَعْفَ رِوَايتِه . فذَكرَهُ بحدِيْثِ النُّعْمَان ِ بْن ِشِبْل ٍ البَاهِلِيِّ البَصْرِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نافِعٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«مَنْ حَجَّ وَلمْ يَزُرْنِي: فقدْ جَفانِي» قالَ ابْنُ عَدِيٍّ(8/249):«لمْ يَرْوِهِ عَنْ مَالِكٍ غيْرُ هَذَا !». يَعْنِي : وَقدْ عُلِمَ أَنهُ ليْسَ مِنْ حَدِيْثِ مَالِكٍ ، فعُلِمَ أَنَّ الآفة َ مِنْ جِهَتِه . قالَ يُوْنسُ بْنُ هَارُوْنَ:«كانَ النُّعْمَانُ هَذَا مُتَّهَمًا». وَقالَ أَبوْ حَاتِمٍ ابْنُ حِبّانَ:«يأْتِي مِنَ الثقاتِ باِلطامّات». وَقدْ ذكرَ أَبوْ الفرَجِ ابْنُ الجوْزِيُّ هَذَا الحدِيْثَ في «الموْضُوْعَاتِ»(2/217) ، وَرَوَاهُ مِنْ طرِيْق ِ أَبي حَاتِمٍ ابْن ِ حِبّانَ: «حَدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ عُبيْدٍ حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن ِ النُّعْمَان ِ بْن ِ شِبْل ٍ حَدَّثنا جَدِّي عَنْ مَالِك». ثمَّ قالَ أَبو الفرَجِ(2/217):«قالَ أَبوْ حَاتِمٍ : النُّعْمَانُ يَأْتِي عَن ِ الثقاتِ باِلطامّات . وَقالَ الدَّارَقطنيُّ : الطعْنُ في هَذَا الحدِيْثِ مِنْ مُحَمَّدِ بْن ِ مُحَمَّدٍ ، لا مِنْ نُعْمَان»اه . وَأَمّا الحدِيْثُ الآخَرُ:«مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبي في عَامٍ وَاحِدٍ : ضَمِنْتُ لهُ عَلى اللهِ الجنَّة»: فهَذَا ليْسَ في شَيْءٍ مِن الكتبِ ، لا بإسْنَادٍ مَوْضُوْعٍ ، وَلا غيْرِ مَوْضُوْع . وَقدْ قِيْلَ : إنَّ هَذَا لمْ يُسْمَعْ في الإسْلامِ ، حَتَّى فتحَ المسْلِمُوْنَ بَيْتَ المقدِس ِ، فِي زَمَن ِ صَلاحِ الدِّين(ت589ه). |
فلِهَذَا لمْ يَذْكرْ أَحَدٌ مِنَ العُلمَاءِ لا هَذَا وَلا هَذَا ، لا عَلى سَبيْل ِ الاعْتِضَادِ ، وَلا عَلى سَبيْل ِ الاعْتِمَاد . بخِلافِ الحدِيْثِ الذِي قدْ تقدَّمَ : فإنهُ قدْ ذكرَهُ جَمَاعَة ٌ وَرَوَوْهُ ، وَهُوَ مَعْرُوْفٌ مِنْ حَدِيْثِ حَفص ِ بْن ِ سُليْمَانَ الغاضِرِيِّ - صَاحِبِ عَاصِمٍ - عَنْ ليْثِ بْن ِ أَبي سُليْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ قالَ : قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَنْ حَجَّ فزَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي : كانَ كمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي»([1]). وَقدِ اتفقَ أَهْلُ العِلمِ باِلحدِيْثِ عَلى الطعْن ِ في حَدِيْثِ حَفص ٍ هَذَا دُوْنَ قِرَاءَتِه . قالَ البَيْهَقِيُّ فِي«شُعَبِ الإيْمَان»(3/489):«رَوَى حَفصُ بْنُ أَبي دَاوُوْدَ - وَهُوَ ضَعِيْفٌ - عَنْ ليْثِ بْن ِ أَبي سُليْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ حَجَّ فزَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي : كانَ كمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي». قالَ يَحْيَى بْنُ مَعِيْن ٍ عَنْ حَفص ٍ هَذَا :«ليْسَ بثقةٍ ، وَهُوَ أَصَحُّ قِرَاءَة ً مِنْ أَبي بَكرٍ ابْن ِ عَيّاش ٍ ، وَأَبوْ بَكرٍ أَوْثقُ مِنْه». وَفي رِوَايةٍ عَنْهُ:«كانَ حَفصٌ أَقرَأَ مِنْ أَبي بَكرٍ ، وَكانَ أَبوْ بَكرٍ صَدُوْقا ، وَكانَ حَفصٌ كذّابا». وَقالَ البُخارِيُّ :«ترَكوْه». وَقالَ مُسْلِمُ بْنُ الحجّاجِ :«مترُوْك». وَقالَ عَلِيُّ بْنُ المدِيْنِيِّ :«ضَعِيْفُ الحدِيْثِ ، ترَكتهُ عَلى عَمْد». وَقالَ النَّسَائِيُّ :«ليْسَ بثقةٍ ، وَلا يُكتَبُ حَدِيْثه» وَقالَ مَرَّة ً: «مَتْرُوْك». وَقالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ البَغدَادِيُّ :«لا يُكتَبُ حَدِيْثهُ ، وَأَحَادِيْثهُ كلهَا مَنَاكِيْر». وَقالَ أَبوْ زُرْعَة َ:«ضَعِيْفُ الحدِيْث». وَقالَ أَبوْ حَاتِمٍ الرّازِيُّ:«لا يُكتَبُ حَدِيْثهُ ، وَهُوَ ضَعِيْفُ الحدِيْثِ لا يَصْدُقُ ، مترُوْك ُ الحدِيْث». وَقالَ عَبْدُ الرَّحْمَن ِ ابْنُ خِرَاش ٍ:«هُوَ كذّابٌ مترُوْك ٌ يَضَعُ الحدِيْث». وَقالَ الحاكِمُ أَبوْ أَحْمَدَ :«ذاهِبُ الحدِيْث». وَقالَ ابْنُ عَدِيٍّ(3/276):«عَامَّة ُ أَحَادِيْثِهِ عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ ، غيْرُ مَحْفوْظة». وَفي البَابِ حَدِيثٌ آخَرُ رَوَاهُ البزّارُ وَالدّارَقطنيُّ(2/278) وَغيْرُهُمَا ، مِنْ حَدِيْثِ مُوْسَى بْن ِ هِلال ٍ: حَدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نافِعٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ زَارَ قبْرِي : وَجَبَتْ لهُ شَفاعَتِي»([2]). قالَ البَيْهَقِيُّ (3/490) - وَقدْ رَوَى هَذَا الحدِيْثَ ، ثمَّ قالَ-: «وَقدْ قِيْلَ:«عَنْ مُوْسَى عَنْ عُبَيْدِ اللهِ» وَسَوَاءٌ «عَبْدُ اللهِ» أَوْ«عُبَيْدُ اللهِ» فهُوَ مُنْكرٌ عَنْ نافِعٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ ، لمْ يَأْتِ بهِ غيْرُه»اه. وَقالَ العُقيْلِيُّ(4/170) في مُوْسَى بْن ِ هِلال ٍ هَذَا:«لا يتابعُ عَلى حَدِيثِه». وَقالَ أَبوْ حَاتِمٍ الرّازِيُّ :«هُوَ مَجْهُوْل». وَقالَ أَبوْ زَكرِيّا النَّوَاوِيُّ في«شَرْحِ المهَذِّبِ»(8/252) لمّا ذكرَ قوْلَ أَبي إسْحَاقَ «وَتسْتَحَبُّ زِيَارَة ُ قبْرِ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِمَا رُوِيَ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قالَ:«مَنْ زَارَ قبْرِي : وَجَبتْ لهُ شفاعَتِي»» قالَ النَّوَاوِيُّ:«أَمّا حَدِيْثُ ابْن ِ عُمَرَ : فرَوَاهُ أَبوْ بَكرٍ الرّازِيُّ وَالدّارَقطنيُّ وَالبَيْهَقِيُّ بإسْنَادَيْن ِ ضَعِيْفيْن ِ جِدًّا»اه)اه كلامُ شَيْخِ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله . وَخُلاصَة ُ أَحَادِيْثِ البابِ : مَا قالهُ شَيْخُ الإسْلامِ في مَوْضِعٍ آخرَ-كمَا في«مَجْمُوْعِ فتَاوَاهُ»(1/356) وَالأَحَادِيْثُ المرْوِية ُ في زِيارَةِ قبرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كلهَا ضَعِيْفة ٌ، بلْ كذِبٌ)اه. * * * [1] - رَوَاهُ الطبَرَانِيُّ في«المعْجَمِ الكبير»(12/406) وَ«الأَوْسَطِ»(1/201) وَابْنُ عَدِيٍّ في«الكامِل» (3/272) وَالدّارَقطنيُّ في«سُننِه»(2/278) وَالبَيْهَقِيُّ في«شُعَبِ الإيْمَان»(3/489). [2] - رَوَاهُ الدُّوْلابيُّ في«الكنَى وَالأَسْمَاءِ»(2/64) وَالبَيْهَقِيُّ في«شُعَبِ الإيْمَان»(3/490) وَالعُقيْلِيُّ في«الضُّعفاء»(4/170). |
فصل فِي نقض ِشُبُهَاتِ المعْتَرِض ِعَلى تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ مُطلقا في المقابرِ وَعِنْدَ القبور أَمّا مَا ظنهُ هَذَا المعْتَرِضُ حُجَّة ً وَدَلِيْلا ً فِي مَقالِهِ فاسْتَدَلَّ بهِ ، فليْسَ كذلك . وَقدْ ذكرَ خَمْسَة َ أَدِلةٍ أَجَازَ بهَا الصَّلاة َ فِي المقبرَةِ بزَعْمِهِ وَليْسَ فِي شَيْءٍ مِمّا ذكرَهُ حُجَّة ٌ، وَهَذَا بيانُ رَدِّهَا : أَمّا دَلِيْلهُ الأَوَّلُ : فقوْلهُ: قوْلُ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا» [خ(335)، (438) م(521)] ، وَهَذَا يَعُمُّ الأَرْضَ كلهَا) انتهَى كلامُه . وَهَذَا بَاطِلٌ ، فإنَّ الأُمَّة َ مُجْمِعَة ٌ عَلى تَخْصِيْص ِ هَذَا العُمُوْمِ ، وَأَنَّ مِنَ الأَرْض ِمَا ليْسَ بطهُوْرٍ ، وَلا مَسْجِدٍ تَصِحُّ فِيْهِ الصَّلاة . ثمَّ اخْتَلفوْا في مُخَصِّصَاتِ ذلِك َ العُمُوْمِ ، مَعَ إجْمَاعِهمْ عَلى بَعْضِهَا . وَمِنْ ذلِك َ: إجْمَاعُهُمْ عَلى تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ عَلى الأَرْض ِ النَّجِسَةِ وَبطلانِهَا لِغيْرِ المضْطرِّ ، وَاخْتَلفوْا في المضْطرّ . وَهُوَ عُمُوْمٌ مُقيَّدٌ أَيْضًا بأَحَادِيْثِ النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ فِي المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، وَقدْ تقدَّمَ طرَفٌ مِنْهَا . وَمُقيَّدٌ بأَحَادِيْثَ أُخْرَى عَنْ مَوَاضِعَ أُخْرَى كذَلك . قالَ القاضِي أَبوْ بكرٍ ابنُ العَرَبيِّ فِي«عَارِضَةِ الأَحْوَذِيِّ»(2/114-115) بَعْدَ حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة َوَالحمّامَ» قالَ: الحدِيْثُ الصَّحِيْحُ «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا». وَهِيَ خَصِيْصَة ٌفضِّلتْ بهَا هَذِهِ الأُمَّة ُ عَلى سَائِرِ الأُمَمِ ، في حُرْمَةِ سَيِّدِ البَشرِ ، لا يُسْتَثْنى مِنْهَا إلا َّ البقاعُ النَّجسَة ُ وَالمغْصُوْبة ُ، التي يَتَعَلقُ بهَا حَقُّ الغير . وَكلُّ حَدِيْثٍ سِوَى هَذَا : ضَعِيْفٌ ، حَتَّى حَدِيث السَّبْعَةِ مَوَاطِنَ ، التي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا : لا يَصِحُّ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقدْ ذكرَهُ التِّرْمِذِيّ (346) . وَالموَاضِعُ التِي لا يُصَلى بهَا ، ثلاثة َ عَشرَ مَوْضِعًا : الأَوَّلُ المزْبَلة ُ، وَالمجْزَرَة ُ، وَالمقبرَة ُ، وَالحمّامُ ، وَالطرِيْقُ ، وَأَعْطانُ الإبل ِ، وَظهْرُ الكعْبَةِ ، وَأَمَامَك َ جدَارُ مِرْحَاض ٍ عَليْهِ نَجَاسَة ٌ، وَالكنِيْسَة ُ، وَالبيْعَة ُ، وَفي قِبْلتِك َ تمَاثِيلُ ، وَفي دَارِ العَذَاب)اه. وَقدْ ذكرَ ابْنُ العَرَبيِّ هُنَا اثنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا ، وَلمْ يَذْكرِ الثالِثَ عَشَرَ ! وَلعَلهُ الحشُّ ، أَوِ الأَرْضُ المغْصُوْبة . أَمّا الحنابلة ُ: فقدْ ذكرُوْا عَشَرَة َ مَوَاضِعَ ، هِيَ : المقبَرَة ُ، وَالمجْزَرَة ُ، وَالمزْبلة ُ، وَالحشُّ ، وَالحمّامُ ، وَقارِعَة ُالطرِيْق ِ، وَأَعْطانُ الإبل ِ، وَظهْرُ الكعْبَةِ ، وَالموْضِعُ المغْصُوْبُ ، وَالموْضِعُ النَّجِس . |
وَقدْ ذكرَهَا شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ في«شَرْحِ العُمْدَةِ» (2/425) ، ثمَّ قالَ وَأَمّا ثلاثة ٌمِنْهَا : فقدْ تَوَاطأَتِ الأَحَادِيْثُ وَاسْتَفاضَتْ باِلنَّهْيِّ عَن ِالصَّلاةِفِيْهَا ، وَهِيَ : المقبرَة ُ، وَأَعْطانُ الإبل ِ، وَالحمّامُ . وَسَائِرُهَا جَاءَ فِيْهَا مِنَ الحدِيْثِ مَا هُوَ دُوْنَ ذلك)اه. وَالمسْأَلة ُمَبْسُوْطة ٌ فِي كتبِ الفِقهِ ، وَلا تخْفى . وَلمّا ذكرَ أَبوْ محمَّدٍ ابْنُ قدَامَة َ فِي«المغنِي»(2/468-469) قوْلَ مَن ِاسْتَدَلَّ بعُمُوْمِ قوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا» وَنَحْوِهِ : خَصَّصَهُ أَبوْ محمَّدٍ بقوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ الحمّامَ وَالمقبَرَة». ثمَّ قالَ وَهَذَا خَاصٌّ مُقدَّمٌ عَلى عُمُوْمِ مَا رَوَوْه). وَقالَ (2/480) فِي الحدِيْثِ الأَوَّل ِ- أَي حَدِيْثَ «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا»- وَهُوَ صَحِيْحٌ مُتَّفقٌ عَليْهِ ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْهُ المقبَرَة ُ، وَالحمّامُ ، وَمَعَاطِنُ الإبل ِ بأَحَادِيْثَ صَحِيْحَةٍ خَاصَّةٍ ، ففِيْمَا عَدَا ذلِك َ يبقى عَلى العُمُوْم). وَكذَلِك َ أَبوْ حَاتِمٍ ابْنُ حِبّانَ في«صَحِيْحِهِ» لمّا رَوَى(4/595) (1697): حَدِيثَ حُذيفة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «فضِّلنَا عَلى النّاس ِ بثلاثٍ : جُعِلتِ الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدًا ، وَجُعِلَ تُرْبتهَا لنا طهُوْرًا ، وَجُعِلتْ صُفوْفنَا كصُفوْفِ الملائِكة» وَهُوَ عِنْدَ الإمَامِ أَحْمَدَ فِي«مُسْندِهِ»(5/383) ومُسْلِمٍ فِي«صَحِيْحِه»(522): خَصَّصَ ابنُ حِبّانَ هَذَا العُمُوْمَ وَالإطلاقَ بثلاثةِ أَبوَابٍ : · أَوَّلها (4/596):«ذِكرُ وَصْفِ التَّخْصِيْص ِالأَوَّل ِالذِي يَخصُّ عُمُوْمَ تِلك َ اللفظةِ التِي تقدَّمَ ذِكرُنا لهَا». · وَالثّانِي (4/598):«ذِكرُ التَّخْصِيْص ِالثّانِي الذِي يَخُصُّ عُمُوْمَ اللفظةِ التِي ذكرْناهُ قبْلُ». · وَالثّالِثُ (4/599):«ذِكرُ التَّخْصِيْص ِ الثّالِثِ الذِي يَخُصُّ عُمُوْمَ قوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدًا». وَأَوْرَدَ تحْتهَا ثلاثة َأَحَادِيْثَ : · أَوَّلها(1698): حَدِيْثُ أَنس ِ بْن ِمَالِكٍ رَضِيَ الله ُعَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهَى أَنْ يُصَلى بَيْنَ القبوْرِ . وَهَذَا صَحَّحَهُ الضِّيَاءُ المقدِسِيُّ فِي «الأَحَادِيْثِ المخْتَارَة». · وَالثّانِي(1699):حَدِيْثُ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ مَرْفوْعًا:«الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ الحمّامَ وَالمقبَرَة». · وَالثّالِثُ(1700):حَدِيْثُ أَبي هُرَيْرَة َرَضِيَ الله ُ عَنْهُ مَرْفوْعًا:«إذا لمْ تَجِدُوْا إلا َّ مَرَابضَ الغنمِ ، وَمَعَاطِنَ الإبل ِ: فصَلوْا فِي مَرَابض ِ الغنمِ ، وَلا تصَلوْا فِي أَعْطان ِ الإبل» وَهُوَ عِنْدَ الإمَامِ أَحْمَدَ فِي «مُسْنَدِهِ»(2/491) وَابْن ِمَاجَهْ(768). وَبوَّبَ ابْنُ حِبّانَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ(6/88) عَلى حَدِيْثِ أَبي هُرَيْرَة َ هَذا السّابق ِ ذِكرُ الخبَرِ المصَرِّحِ بأَنَّ قوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ طهُوْرًا وَمَسْجِدًا» أَرَادَ بهِ بَعْضَ الأَرْض ِلا الكلّ). وَبوَّبَ قبْلهُ(6/87) ذِكرُ خَبَرٍ قدْ يُوْهِمُ غيْرَ المتَبَحِّرِ فِي صِناعَةِ العِلمِ أَنَّ الأَرْضَ كلهَا طاهِرَة ٌ، يَجُوْزُ لِلمَرْءِ الصَّلاة ُ عَليْهَا). ثمَّ سَاقَ حَدِيْثَ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُعَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«فضِّلتُ عَلى الأَنبيَاءِ بسِتٍّ : أُعْطِيْتُ جَوَامِعَ الكلِمِ ، وَنصِرْتُ بالرُّعْبِ ، وَأُحِلتْ لِيَ الغنائِمُ ، وَجُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ طهُوْرًا وَمَسْجِدًا ، وَأُرْسِلتُ إلىَ الخلق ِ كافة ً، وَخُتِمَ بيَ النبيوْن». وَهَذَا الحدِيْثُ عِنْدَ الإمَامِ أَحْمَدَ فِي«مُسْنَدِهِ»(2/411-412) وَمُسْلِمٍ في«صَحِيْحِه»(523). وَبوَّبَ ابْنُ حِبّانَ بَعْدَهُ أَبوَابا عِدَّة ً، أَوْرَدَ تَحْتَهَا جُمْلة َ أَحَادِيْثَ فِي الأَمَاكِن ِ المخْصُوْصَةِ وَالمسْتثناةِ مِنْ ذلِك َ العُمُوْمِ ، كالمقبَرَةِ ، وَالحمّامِ ، وَأَعْطان ِ الإبل ِ، وَقدْ تقدَّمَ ذِكرُهَا . |
وَكذَلِك َ الحافِظ ُ أَبوْ بكرٍ ابنُ المنذِرِ في«الأَوْسَطِ»(2/180-182): ذكرَ في«جِمَاعِ أَبوَابِ الموَاضِعِ التِي تَجُوْزُ الصَّلاة ُ عَليْهَا ، وَالموَاضِعِ المنْهيِّ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا»: أَرْبعَة َ أَبوَابٍ : · أَوَّلها : ذِكرُ الأَخْبَارِ التِي يدُلُّ ظاهِرُهَا ، عَلى أَنَّ الأَرْضَ كلهَا مَسْجِدٌ وَطهُوْر . · وَالثاني : ذِكرُ الخبرِ الدّالِّ عَلى أَنَّ المرَادَ مِنْ قوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جُعِلتِ الأَرْضُ لِي مَسْجِدًا» كلُّ أَرْض ٍ طيِّبَةٍ دُوْنَ النَّجِس ِ مِنْهَا . · وَالثالِثُ : ذِكرُ النَّهْيِّ عَن ِ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِد . · وَالرّابعُ : ذِكرُ النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ وَالحمّام . قالَ البَغوِيُّ فِي«شَرْحِ السُّنَّةِ» أَرَادَ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ لمْ تُبَحْ لهمُ الصَّلاة ُ إلا َّ فِي بيعِهمْ وَكنَائِسِهمْ ، فأَباحَ الله ُ لهِذِهِ الأُمَّةِ ، الصَّلاة َ حَيْثُ كانوْا ، تَخْفِيْفا عَليْهمْ وَتيْسِيرًا ، ثمَّ خَصَّ مِنْ جَمِيْعِ الموَاضِعِ : الحمّامَ ، وَالمقبرَة َ، وَالمكانَ النَّجِس) نقلهُ عَنْهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَن ِ بْنُ حَسَن ِ بْن ِ محمَّدِ بْن ِ عَبْدِ الوَهّابِ آل الشَّيْخِ رَحِمَهُمُ الله ُ في«فتحِ المجيْد»(ص206). وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ في«شَرْحِ العُمْدَةِ»(2/439-440) وَأَمّا الأَحَادِيْثُ المشْهُوْرَة ُ في جَعْل ِ الأَرْض ِ مَسْجِدًا : فهيَ عَامَّة ٌ، وَهَذِهِ الأَحَادِيْثُ خَاصَّة ٌ، وَهِيَ تفسِّرُ تِلك َ الأَحَادِيْثَ ، وَتبينُ أَنَّ هَذِهِ الأَمْكِنَةِ ، لمْ تقصَدْ بذَلِك َ القوْل ِ العَامِّ ، وَيُوَضِّحُ ذلك أَرْبعة ُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ الخاصَّ يَقضِي عَلى العَامِّ ، وَالمقيدُ يُفسِّرُ المطلقَ ، إذا كانَ الحكمُ وَالسَّبَبُ وَاحِدًا ، وَالأَمْرُ هُنَا كذَلك . الثاني: أَنَّ قوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا»: بيانٌ لِكوْن ِ جِنْس ِ الأَرْض ِ مَسْجِدًا لهُ ، وَأَنَّ السُّجُوْدَ عَليْهَا لا يَخْتَصُّ بأَنْ تكوْنَ عَلى صِفةٍ مَخْصُوْصَةٍ ، كمَا كانَ فِي شَرْعِ مَنْ قبْلنَا . لكِنَّ ذلِك َ لا يَمْنَعُ أَنْ تَعْرِضَ للأَرْض ِ صِفة ٌ تَمْنَعُ السُّجُوْدَ عَليْهَا . فالأَرْضُ التِي هِيَ عَطنٌ ، أَوْ مَقبَرَة ٌ، أَوْ حَمّامٌ ، هِيَ مَسْجِدٌ ، لكِنَّ اتخاذهَا لمّا وُجِدَ لهُ مَانِعٌ عَرَضَ لها : أَخْرَجَهَا عَنْ حُكمِهَا . وَلوْ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تكوْنَ حَمّامًا ، أَوْ مَقبَرَة ً : لكانتْ عَلى حَالِهَا. وَذلِك َ أَنَّ اللفظ َ العَامَّ ، لا يُقصَدُ بهِ بيانُ تفاصِيْل ِ الموَانِعِ ، كقوْلِهِ تعَالىَ:{ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ }. وَقدْ عُلِمَ أَنَّ العَقدَ لا بُدَّ فِيْهِ مِنْ عَدَمِ الإحْرَامِ ، وَعَدَمِ العِدَّةِ ، وَلا بُدَّ لهُ مِنْ شُرُوْطٍ وَأَرْكان . الثالِثُ : أَنَّ هَذَا اللفظ َ العَامَّ ، قدْ خُصَّ مِنْهُ الموْضِعُ النَّجِسُ ، اعْتِمَادًا عَلى تَقييْدِهِ باِلطهَارَةِ ، فِي قوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كلُّ أَرْض ٍ طيِّبَةٍ» ، وَتَخْصِيْصُهُ باِلاسْتِثْنَاءِ المحَقق ِ، وَالنَّهْيِّ الصَّرِيْحِ أَوْلىَ وَأَحْرَى . الرّابعُ : أَنَّ تِلك َ الأَحَادِيْثَ إنمَا قصِدَ بهَا بيانُ اخْتِصَاص ِ نبيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ باِلتَّوْسِعَةِ عَليْهمْ فِي الصَّلاةِ دُوْنَ مَنْ قبْلنا مِنَ الأَنبيَاءِ وَأُمَمِهمْ ، حَيْثُ حُظِرَتْ عَليْهمُ الصَّلاة ُ إلا َّ في المسَاجدِ المبْنِيَّةِ للصَّلاة . فذَكرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلَ الخصِيْصَةِ وَالمزِيةِ ، وَلمْ يَقصِدْ تفصِيْلَ الحكم . وَاعْتَضَدَ ذلِك َ بأَنَّ هَذِهِ الأَمَاكِنَ قلِيْلة ٌ باِلنِّسْبَةِ إلىَ سَائِرِ الأَرْض ِ، فلمّا اتفقَ قِلتهَا ، وَأَنهُ لمْ يَتَمَحَّض ِ المقصُوْدُ لِبيان ِ أَعْيَان ِ أَمَاكِن ِ الصَّلاةِ ، ترَك َ اسْتِثْنَاءَهَا . أَمّا أَحَادِيْثُ النَّهْيِّ : فقصِدَ بهَا بيانُ حُكمِ الصَّلاةِ في أَعْيَان ِ هَذِهِ الأَمَاكِن ِ، وَهَذَا بيِّنٌ لِمَنْ تأَمله . وَهَذَا المعْتَرِضُ مُتناقِضٌ ، فإنهُ لا يُنَازِعُ فِي حُرْمَةِ اتخاذِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ مَسَاجِدَ ، وَالصَّلاةِ فِيْهَا ، فلمَ لمْ يَسْتَثْنهَا مِنَ العُمُوْمِ فِي الحدِيْثِ السّابق ِ؟! أَمْ يَرَاهَا دَاخِلة ً فِيْه؟! * * * |
فصل فِي نقض ِدَلِيْلِهِ الثانِي ، وَهُوَ بنَاءُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ في مَقبَرَةٍ للمُشْرِكِيْن أَمّا دَلِيْلهُ الثانِي: فقالَ بناءُ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ فِي مَقبَرَةٍ لِلمُشْرِكِيْنَ ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُوْرٌ وَهُوَ فِي«الصَّحِيْحَيْن ِ»([1])) انتهَى كلامُه . وَهَذَا فِيْهِ تَلبيْسٌ وَتَدْلِيْسٌ ، فإنَّ بناءَ الرَّسُوْل ِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَسْجِدِهِ فِي مَقبَرَةٍ لِلمُشْرِكِيْنَ ، كانَ بَعْدَ نبْش ِ قبوْرِهِمْ وَإزَالتِها . وَهذَا ليْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ ، وَإنمَا النِّزَاعُ فِي جَوَازِ الصَّلاةِ فِي المقبرَةِ قبْلَ النَّبْش . لِهَذَا لمْ يَذْكرِ المعْتَرِضُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الصَّحَابة َ بنَبْش ِ قبوْرِ المشْرِكِيْنَ وَإزَالتِهَا ، لِيسْلمَ لهُ اعْتِرَاضُه ! قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ-كمَا فِي«مَجْمُوْعِ الفتاوَى»(21/321)- ومَسْجِدُ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدْ كانَ مَقبَرَة ً لِلمُشْرِكِيْنَ ، وَفِيْهِ نخلٌ وَخِرَبٌ ، فأَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باِلنَّخل ِ فقطِعَتْ ، وجُعِلتْ قِبلة َ المسْجدِ ، وَأَمَرَ باِلخِرَبِ فسُوِّيتْ ، وأَمَرَ باِلقبوْرِ فنبشتْ ، فهَذِهِ مَقبَرَة ٌ مَنْبُوْشَة ٌ، كانَ فِيْهَا المشْرِكوْن) انتهَى ، وَهَذَا فِي«الصَّحِيْحَيْن»(1) وَتقدَّم . كمَا أَنَّ دَلِيْلَ المعْترِض ِ هَذَا : دَلِيْلٌ عَليْهِ لا لهُ ، وَبَيَانهُ : أَنهُ لوْ كانتِ الصَّلاة ُفِي المقبَرَةِ جَائِزَة ً تصحُّ ، لمَا نبشَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبوْرَ المشْرِكِيْنَ وَأَخْرَجَهَا ، وَلصَلوْا عَليْهَا دُوْنَ نبْش . وَلكِنْ لمّا أَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنَبْشِهَا : دَلَّ ذلِك َ عَلى حُرْمَةِ الصَّلاةِ فِيْهَا قبْلَ النَّبش ِ، وَعَدَمِ صِحَّتِهَا . يُضَافُ إلىَ ذلك : أَنَّ اخْتِيَارَ تِلك َ الأَرْض ِ لِتَكوْنَ مَسْجِدًا للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمسْلِمِيْنَ ، كانَ بوَحْيٍ مِنَ اللهِ سُبْحَانهُ ، كمَا فِي قِصَّةِ ناقةِ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وبرُوْكِهَا فِي ذلِك َ المكان . فوَجَبَ عِنْدَ اخْتِيَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لهَا : إصْلاحُهَا وتهْيئَتُهَا للمُصَلينَ ، وَإزَالة ُ مَا يُفسِدُ ذلك . فلا يجُوْزُ لِغيْرِهِمْ مِنَ المسْلِمِيْنَ أَنْ يَعْمَدُوْا إلىَ مَقبَرَةِ مُشْرِكِيْنَ أَوْ مُسْلِمِيْنَ ، فينبشُوْهَا دُوْنَ حَاجَةٍ ، لِيصَلوْا فِيْهَا لِما سَبَق . [1]- رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ» (3932) وَمُسْلِم(524). |
فصل فِي نقض ِدَلِيْلِهِ الثالِثِ ، وَهُوَ صَلاة ُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابهِ ، عَلى قبْرِ امْرَأَةٍ كانتْ تقمُّ المسْجد أَمّا دَلِيْلُ المعْتَرِض ِالثالِثِ : فقوْلهُ صَلاة ُ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى المِسْكِيْنَةِ التِي كانتْ تقمُّ المسْجدَ ، فِي المقبَرَةِ مَعَ أَصْحَابهِ رَضِيَ الله ُعَنْهُمْ) انتهَى كلامُه . وَهَذَا فِيْهِ خَلط ٌوخَبْط ٌ، فإنَّ نِزَاعَ أَهْل ِالعِلمِ فِي جَوَازِ الصَّلاةِ المطلقةِ ، ذاتِ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ ، لا فِي صَلاةِ الجنازَة ! وَقِياسُ صَلاةِ الجنازَةِ باِلصَّلاةِ المطلقةِ : قِياسٌ مَعَ الفارِق ِ، وَهُوَ فاسِد . فإنْ كانتِ الصَّلاة ُ المطلقة ُوَصَلاة ُ الجنازَةِ ، اتفقتا فِي اسْمِ الصَّلاةِ : فقدِ اخْتَلفتا فِي الشُّرُوْطِ وَالصِّفة . وَصَلاة ُالجنازَةِ فِيْهَا إظهَارُ ضَعْفِ الميِّتِ وَعَجْزِهِ ، وَحَاجَتِهِ هُوَ إلىَ إخْوَانِهِ الأَحْيَاءِ مِنَ المسْلِمِيْنَ لِيدْعُوْا الله َ لهُ ، وَيصَلوْا عَليْهِ ، عَلَّ الله ُ أَنْ يَرْحَمَهُ ويَنفعَهُ بدُعَائِهمْ . وَليْسَ فِي هَذَا مَظِنة ٌ لِشرْكٍ ، وَلا ذرِيْعَة ٌ لهُ وَلا فتْحٌ لِبابه . بخلافِ الصَّلاةِ المطلقةِ ، ذاتِ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ ، وَهِيَ التِي خَصَّهَا الشّارِعُ باِلتَّحْرِيْمِ باِلأَحَادِيْثِ السّابقةِ جَمِيْعًا ، وَلعَنَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى ، لاتخاذِهِمْ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ ، يصَلوْنَ فِيْهَا الصَّلاة َ المطلقة َ، لا صَلاة َ الجنازَة ! فاسْتِدْلالهُ بهَذَا الدَّلِيْل ِ: اسْتِدْلالٌ في غيْرِ مَحَلهِ ، في مَسْأَلةٍ نقوْلُ بهَا ، وَلا ننازِعُ فِيْهَا ، وَلا تعَلقَ لهِذَا الدَّلِيْل ِ بمَسْأَلةِ النِّزَاع . وَباعِثهُ عَلى الاسْتِدْلال ِ بهِ أَحَدُ أَمْرَيْن ِ: إمّا جَهْلهُ باِلفرْق ِ بَيْنَ الأَمْرَين ِ، أَوْ إرَادُتهُ التَّلبيْس . وَعَلى كِلا الحاليْن ِ: لا يُعْتَدُّ بصَاحِبِ هَذَيْن . |
فصل فِي نقض ِدَلِيْلِهِ الرّابعِ ، وَهُوَ زَعْمُهُ صَلاة َ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ في المقبَرَةِ مِنْ غيْرِ نكِيْر أَمّا دَلِيْلهُ الرّابعُ : فقوْلهُ صَلاة ُ الصَّحَابةِ فِي المقبَرَةِ مِنْ غيْرِ نكِيْرٍ) انتهَى كلامُه . وَهَذَا إنْ قصَدَ بهِ : صَلاتهُمْ صَلاة َ الجنازَةِ : فتقدَّمَ جَوَابه . وَإنْ كانَ قصْدُهُ الصَّلاة َ المطلقة َ: فعَليْهِ البيَانُ وَالدَّلِيْلُ ، وَعَدَمُ الإجْمَال . وَحَدِيْثُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّة ٌ عَلى مَنْ خَالف . كمَا أَنَّ المعْلوْمَ مِنْ حَالهِمْ رَضِيَ الله ُعَنْهُمْ ، خِلافُ مَا ذكرَ : فقدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الخطابِ أَنسَ بْنَ مالكٍ رَضِيَ الله ُعَنْهُما يُصَلي عِنْدَ قبرٍ فقالَ عُمَرُ منبهًا لهُ وَمُحَذِّرًا إياهُ:«القبْرَ القبْرَ!» وَهَذَا فِي «صَحِيْحِ البخارِيِّ» مُعَلقا(1/437) ، وَوَصَلهُ ابْنُ أَبي شَيْبَة َ في«مُصَنَّفِهِ»(2/379) مِنْ طرِيْقيْن ِ: أَحَدِهِمَا : حَدَّثنا حَفصٌ عَنْ حُجَيَّة َ عَنْ أَنس ٍ، وَالآخَرِ : حَدَّثنا وَكِيْعٌ حَدَّثنا سُفيَانُ حَدَّثنا حُمَيْدٌ عَنْ أَنس ٍ ، بنَحْوِه . وَرَوَاهُ مَوْصُوْلا ً أَيْضًا : · عَبْدُ الرَّزّاق ِالصَّنْعَانِيُّ في«مُصَنَّفِهِ»(1/404-405) عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ثابتٍ البُنَانِيِّ عَنْ أَنس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْه). · وَمِنْ طرِيقِهِ : أَبو بكرٍ ابْنُ المنذِرِ في«الأَوْسَطِ» (2/186) : (حَدَّثنا إسْحَاقُ عَنْ عَبْدِ الرَّزّاق). · وَالبَيْهَقِيُّ في«سُننِهِ الكبْرَى»(2/435) أَخْبَرَنا محمَّدُ بْنُ مُوْسَى بْن ِ الفضْل ِحَدَّثنا أَبوْ العَبّاس ِ محمَّدُ بْنُ يَعْقوْبَ حَدَّثنا محمَّدُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَة َ حَدَّثنا حُمَيْدٌ عَنْ أَنس) بنَحْوِه . وَقدْ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ حَدِيْثَ عُمَرَ هَذَا ، وَقالَ عَقِبَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلى أَنهُ كانَ مِنَ المسْتقِرِّ عِنْدَ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ : مَا نهَاهُمْ عَنْهُ نبيهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّلاةِ عِنْدَ القبوْر . وَفِعْلُ أَنس ٍ رَضِيَ الله ُعَنْهُ : لا يدُلُّ عَلى اعْتِقادِهِ جَوَازَهُ ، فإنهُ لعَلهُ لمْ يرَهُ ، أَوْ لمْ يَعْلمْ أَنهُ قبْرٌ ، أَوْ ذهَلَ عَنْهُ ، فلمّا نبَّهَهُ عُمَرُ رَضِيَ الله ُ تعَالىَ عَنْهُ تنبه)اه، نقلهُ عَنْهُ ابْنُ القيمِ في«إغاثةِ اللهْفان»(1/186). بَلْ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله ُ فِي«شَرْحِ العُمْدَةِ»(2/437): نوْعَ إجْمَاعٍ لِلصَّحَابةِ فِي تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ فِي المقابرِ، فقالَ وَأَصْرَحُ مِنَ النَّهْيِّ الصَّرِيْحِ ، وَالاسْتِثْنَاءِ القاطِعِ ، مَعَ كوْنهِ أَصَحَّ وَأَشْهَرَ ، وَهُوَ عَن ِ السَّلفِ أَظهَرُ وَأَكثرُ ، وَأَوْلىَ أَنْ يُعْتَمَدَ عَليْهِ ، فإنَّ هَذَا كالإجْمَاعِ مِنَ الصَّحَابة). ثمَّ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ أَثرَ عُمَرِ بْن ِ الخطابِ في تنْبيْههِ وَنهْيهِ أَنسًا عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ قبْرٍ ، وَأَثرَ عَلِيِّ بْن ِ أَبي طالِبٍ في النَّهْيِّ عَنْ ذلِك َ وَغيْرِهِمْ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ . ثمَّ قالَ شَيْخُ الإسْلامِ(2/438) بَعْدَ ذِكرِهِ جَمَاعَة ً مِنَ الصَّحَابةِ : (وَكذَلِك َ رُوِيَ عَن ِ ابن ِعُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا ، ذكرَ ذلِك َ ابنُ حَامِدٍ ، وَعَن ِ ابْن ِ عُمَرَ وَابْن ِ عَبّاس ٍ كرَاهَة َ الصَّلاةِ في المقبَرَة . وَهَذَا أَوْلىَ أَنْ يَكوْنَ صَحِيْحًا ، مِمّا ذكرَهُ الخطابيُّ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ «أَنهُ رَخَّصَ في الصَّلاةِ فِي المقابر» ، فلعلَّ ذلِك َ– إنْ صَحَّ – أَرَادَ بهِ صَلاة َ الجنازَة). ثمَّ قالَ شَيْخُ الإسْلامِ(2/439) وَهَذِهِ مَقالاتٌ انتشرَتْ ، وَلمْ يُعْرَفْ لها مُخالِفٌ ، إلا َّ مَا رُوِيَ عَنْ يَزِيْدِ بْن ِ أَبي مَالِكٍ قالَ:«كانَ وَاثِلة ُ بْنُ الأَسْقعِ يُصَلي بنا صَلاة َ الفرِيْضَةِ فِي المقبَرَةِ ، غيْرَ أَنهُ لا يَسْتَتِرُ بقبْر» رَوَاهُ سَعِيْد . وَهَذَا مَحْمُوْلٌ عَلى أَنهُ تنحَّى عَنْهَا بَعْضَ التَّنَحِّي ، وَلِذَلِك َ قالَ:«لا يَسْتَتِرُ بقبْرٍ» . أَوْ لمْ يَبْلغْهُ نهْيُ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا ، فلمّا سَمِعَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَن ِ الصَّلاةِ إليْهَا ، تنَحَّى عَنْهَا ، لأَنهُ هُوَ رَاوِي هَذَا الحدِيْثِ ، وَلمْ يَبْلغْهُ النَّهْيُ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا ، عَمِلَ بمَا بَلغهُ دُوْنَ مَا لمْ يَبْلغْه)([1])اه. وَقالَ العَلامَة ُ الشَّرِيْفُ الحسَنُ بْنُ خَالِدٍ الحازِمِيُّ الحسَنيُّ رَحِمَهُ الله ُ(ت1234ه) في«قوْتِ القلوْبِ ، في تَوْحِيْدِ عَلامِ الغيوْب»(ص131-132) وَاعْلمْ أَنَّ المنْعَ مِنَ الصَّلاةِ عِنْدَ القبْرِ: هُوَ مِمّا اسْتقرَّ عِنْدَ الصَّحَابةِ ، سَوَاءٌ كانَ مِنْ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِيْنَ أَوْ غيْرِهِمْ ، وَعَلِمُوْهُ مِنْ نهْيِّ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ القبوْر)اه. وَذكرَ أَبوْ محمَّدٍ ابْنُ قدَامَة َ فِي«المغني»(2/468): أَنَّ مِمَّنْ كرِهَ الصَّلاة َفِي المقبَرَةِ : عَلِيُّ بنُ أَبي طالِبٍ ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ عَبّاس ٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ . وَهَؤُلاءِ كلهُمْ صَحَابَة ٌ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ ، وَزَادَ مِنْ غيْرِهِمْ : عَطاءًا وَالنَّخعِيَّ وَابْنَ المنْذِرِ رَحِمَهُمُ الله . [1] - وَهَذَا عَلى التَّسْلِيْمِ بصِحَّةِ أَثرِ وَاثِلة َرَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، وَإلا َّ فالأَصْلُ عَدَمُ صِحَّتِهِ ، لِمُخالفتِهِ أَمْرَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإتيانِهِ نهْيَهُ ، وَمُخالفتِهِ المعْلوْمَ مِنْ حَال ِ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ كمَا تقدَّم . فإنْ صَحَّ : حُمِلَ عَلى مَا ذكرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله ُ آنفا . |
فصل فِي نقض ِ دَلِيْلِهِ الخامِس ِ، وَهُوَ زَعْمُهُ عَدَمَ وُجُوْدِ دَلِيْل ٍ صَحِيْحٍ صَرِيْحٍ في النَّهْيِّ عَن ِالصَّلاةِ في المقبَرَة أَمّا دَلِيْلهُ الخامِسُ: فقوْلهُ : عَدَمُ وُجُوْدِ دَلِيْل ٍصَحِيْحٍ صَرِيْحٍ فِي النَّهْيِّ عَن ِالصَّلاةِ فِي المقبَرَة) انتهَى كلامُه . وَجَوَابُ هَذَا تقدَّمَ بحمْدِ اللهِ ، وَ ليْسَ يصِحُّ فِي الأَذهَان ِ شَيْءٌ إذا احْتَاجَ النَّهَارُ إلىَ دَلِيل ِ * * * |
فصل في اسْتِدْلال ِ بَعْض ِ عُبّادِ القبوْرِ عَلى جَوَازِ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ بقوْلِهِ تَعَالىَ { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } وَنقضِهِ وَبيان ِ بُطلانِه قدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُبّادِ القبوْرِ مِنْ مُشْرِكِي زَمَانِنَا وَغيْرِهِمْ ، عَلى جَوَازِ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ ، بقوْلِهِ تَعَالىَ { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً }. بَلْ ذهَبَ بَعْضُ هَؤُلاءِ المرَدَةِ إلىَ القوْل ِ باِستِحْبَابِ اتخاذِهَا عَلى القبوْر. وَالجوَابُ مِنْ وُجُوْهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ أُوْلئِك َ القائِلِيْنَ كانوْا كفارًا ، وَليْسُوْا بمُؤْمِنِينَ ، قدْ لعنهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى أَفعَالهِمْ تِلك َ، وَحَذَّرَ أُمتهُ مِنْ سُلوْكِ مَسَالِكِهمُ المرْدِية ِفقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لعَنَ الله ُ اليهُوْدَ وَالنَّصَارَى اتَّخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ» وَفي رِوَايةٍ «وَصَالحِيْهمْ». قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َفي«رَدِّهِ عَلى البكرِيِّ»(2/567-568): (فبيوْتُ الأَوْثان ِ، وَبيوْتُ النيرَان ِ، وَبيوْتُ الكوَاكِبِ ، وَبيوْتُ المقابرِ: لمْ يَمْدَحِ الله ُ شيْئًا مِنْهَا ، وَلمْ يَذْكرْ ذلِك َ إلا َّ في قِصَّةِ مَنْلعنهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قالَ تَعَالىَ:{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } . فهَؤُلاءِ الذِيْنَ اتخذُوْا عَلى أَهْل ِ الكهْفِ مَسْجِدًا : كانوْا مِنَ النَّصَارَى الذِينَ لعنهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَيْثُ قالَ:«لعَنَ الله ُ اليهُوْدَ وَالنَّصَارَى اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ» وَفي رِوَايةٍ «وَالصّالحِين»). وَمِمّا يَدُلُّ عَلى ذلِك َ: مُخالفتهُ لِمَا توَاترَ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لعْنِهِ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى ، لاتخاذِهِمْ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد . وَقدْ حَكى ابْنُ جَرِيْرٍ في«تَفسِيْرِهِ» عَن ِ المفسِّرِيْنَ في أُوْلئِك َ المتغلبيْنَ قوْليْن ِ: أَحَدَهُمَا : أَنهُمْ مُسْلِمُوْنَ . وَالثانِي : أَنهُمْ مُشْرِكوْن . وَبمَا تقدَّمَ مِنْ بيان ِ لعْن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفاعِلِي ذلِك َ، وَتوَاترِ تَحْذِيْرِهِ، وَعَظِيْمِ وَعِيْدِهِ : لا يَصِحُّ حَمْلهُمْ إلا َّ عَلى أَنهُمْ كانوْا مُشْرِكِيْن . الوَجْهُ الثانِي : إنْ سَلمْنَا أَنهُمْ كانوْا مُسْلِمِيْنَ : فكانوْا ضَاليْنَ مُنْحَرِفِيْنَ بفِعْلِهمْ ذلِك َ، قدِ اسْتَحَقوْا لعْنَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسَببهِ ، وَهُمْ مِنْ جُمْلةِ الجهّال ِ وَالعَامَّة . الوَجْهُ الثالِثُ : أَنَّ الله َ عَزَّ وَجَلَّ لمْ يَصِفْ أُوْلئِك َ المتغلبيْنَ ، بوَصْفٍ يُمْدَحُوْنَ لأَجْلِهِ ، وَإنمَا وَصَفهُمْ باِلغلبةِ ! وَإطلاقهَا دُوْنَ قرْنِهَا بعَدْل ٍ أَوْ حَقّ : يدُلُّ عَلى التَّسَلطِ وَالهوَى وَالظلمِ ، وَلا يدُلُّ عَلى عِلمٍ وَلا هُدَى ، وَلا صَلاحٍ وَلا فلاح . قالَ الحافِظ ُ ابْنُ رَجَبٍ(795ه) فيشَرْحِهِ عَلى صَحِيْحِ البُخارِي(2/397) عَلى حَدِيْثِ «لعَنَ الله ُ اليَهُوْدَ ، اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد» وَقدْ دَلَّ القرْآنُ عَلى مِثْل ِ مَا دَلَّ عَليْهِ هَذَا الحدِيْثُ ، وَهُوَ قوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في قِصَّةِ أَصْحَابِ الكهْفِ:{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً }. فجَعَلَ اتخاذَ القبوْرِ عَلى المسَاجِدِ ، مِنْ فِعْل ِ أَهْل ِ الغلبةِ عَلى الأُمُوْرِ ، وَذلِك َ يشْعِرُ بأَنَّ مُسْتندَهُ : القهْرُ وَالغلبة ُ وَاتباعُ الهوَى ، وَأَنهُ ليْسَ مِنْ فِعْل ِ أَهْل ِ العِلمِ وَالفضْل ِ ، المتبعِينَ لِمَا أَنزَلَ الله ُ عَلى رُسُلِهِ مِنَ الهدَى)اه. الوَجْهُ الرّابعُ : أَنَّ اسْتِدْلالَ هَؤُلاءِ القبوْرِيِّيْنَ بهَذِهِ الآيةِ عَلى هَذَا الوَجْهِ - مَعَ مُخالفتِهِ لِلأَحَادِيْثِ المتوَاتِرَةِ الناهِيَةِ عَنْ ذلِك َ- مُخالِفٌ لإجْمَاعِ عُلمَاءِ المسْلِمِيْنَ ، عَلى تَحْرِيْمِ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْر. قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ(27/488) فإنَّ بناءَ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ، ليْسَ مِنْ دِيْن ِ المسْلِمِيْن . بَلْ هُوَ مَنْهيٌّ عَنْهُ باِلنُّصُوْص ِالثابتَةِ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاتفاق ِ أَئِمَّةِ الدِّين . بَلْ لا يَجُوْزُ اتِّخاذ ُ القبوْرِ مَسَاجِدَ ، سَوَاءٌ كانَ ذلِك َ ببناءِ المسْجدِ عَليْهَا ، أَوْ بقصْدِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا . بَلْ أَئِمَّة ُ الدِّين ِ مُتَّفِقوْنَ عَلى النَّهْيِّ عَنْ ذلك) ، وَقدْ قدَّمْنَا الكلامَ عَنْ هَذَا مُفصَّلا ً. الوَجْهُ الخامِسُ : أَنَّ هَذِهِ الآية َ ليْسَتْ مُخالفة ً- وَلا تَصْلحْ أَنْ تَكوْنَ مُخالِفة ً– لِلأَحَادِيْثِ المتوَاتِرَةِ النّاهِيَةِ عَنْ ذلِك َ، وَإنمَا هِيَ مُوَافِقة ٌ لهَا ، مُصَدِّقة ٌ بهَا . فقدْ أَخْبَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باِتخاذِ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى قبوْرَ أَنبيَائِهمْ وَصَالِحِيْهمْ مَسَاجِدَ ، وَقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«إنَّ أُوْلئِكَِ إذا مَاتَ فِيْهمُ الرَّجُلُ الصّالِحُ ، بنوْا عَلى قبْرِهِ مَسْجدًا ، وَصَوَّرُوْا فِيْهِ تِلك َ التَّصَاوِيْر» رَوَاهُ البخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ» (427)، (1341)،(3873) وَمُسْلِم(528). وَالله ُ أَخْبَرَ كذَلِك َ في كِتَابهِ بذَلِك َ، فقالَ سُبْحَانهُ:{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } . فالآية ُ مُصَدِّقة ٌ لِلأَحَادِيْثِ لا مُخالِفة . تنبيه قدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ الأَلبانِيُّ - رَحِمَهُ الله ُ ، وَغفرَ لهُ - هَذِهِ الشُّبْهَة َ في كِتَابهِ القيِّمِ «تَحْذِيْرِ السّاجِدِ ، مِنَ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِد»(ص65-78) وَرَدَّهَا مِنْ وُجُوْهٍ عِدَّةٍ فأَحْسَنَ ، عَدَا أَنَّ وَجْهَيْهِ الأَوَّليْن ِ في رَدِّهَا لا يسَلمَان ِ لهُ ، بَلْ هُمَا مَرْدُوْدَان . * فإنهُ ذكرَ الوَجْهَ الأَوَّلَ فقالَ : إنَّ الصَّحِيْحَ المتقرِّرَ في عِلمِ الأُصُوْل ِ: أَنَّ شَرِيْعَة َ مَنْ قبْلنا ليْسَتْ شَرِيْعَة ً لنا ، لأَدِلةٍ كثِيْرَة). * ثمَّ ذكرَ الوَجْهَ الثّانِي فقالَ : هَبْ أَنَّ الصَّوَابَ قوْلُ مَنْ قالَ : «شَرِيْعَة ُ مَنْ قبْلنا شَرِيْعَة ٌ لنا»: فذَلِك َ مَشْرُوْط ٌ عِنْدَهُمْ ، بمَا إذا لمْ يرِدْ في شَرْعِنَا مَا يُخالِفه). وَهَذَان ِ وَجْهَان ِ باطِلان ِ، فإنَّ اتخاذَ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِيْنَ مَسَاجِدَ ، ليْسَ مِنْ شَرْعِ اللهِ قط ، لا في أُمَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلا في الأُمَمِ قبْلهَا . وَلوْ كانَ ذلِك َ شَرْعًا مِنْ شَرْعِ اللهِ لِمَنْ كانَ قبْلنا : لمْ يسْتَحِقوْا لعْنَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشَيْءٍ فعَلوْهُ قدْ أَتى بهِ شَرْعُهُمُ الذِي بُعِثَتْ بهِ أَنبيَاؤُهُمْ . لكِنَّ لعْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهمْ ، وَتغْلِيْظهُ عَليْهمْ : دَلِيْلٌ عَلى كبيْرِ ظلمِهمْ ، وَعَظِيْمِ إثمِهمْ ، وَمُخالفتهمْ لأَنبيَائِهمْ ، وَعَدَمِ مَجْيْئِهمْ به ، صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهمْ . |
الساعة الآن 04:08 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir