![]() |
فالحاصل: أن شروط الذبح: إنهار الدم في محل الذبح، مع كون الذابح مسلماً، أو كتابياً، وأن يذكر اسم الله عليها. وأما الصيد: فهو أوسع من الذبح. كما تقدم أنه في أي موضع يكون من بدن الصيد، وأنه يباح صيد الجوارح من الطيور والكلاب إذا كانت مُعَلَّمة، وذُكر اسم الله عليها عند إرسالها على الصيد. والله أعلم. |
الحديث الحادي والستون عن شدّاد بن أوْس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء. فإذا قتلتم فأحْسِنوا القِتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة. ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرَته ولْيُرِحْ ذبيحته" رواه مسلم. الإحسان نوعان: إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه. وهو الجد في القيام بحقوق الله على وجه النصح، والتكميل لها. وإحسان في حقوق الخلق. |
وأصل الإحسان الواجب، أن تقوم بحقوقهم الواجبة، كالقيام ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإنصاف في جميع المعاملات، بإعطاء جميع ما عليك من الحقوق، كما أنك تأخذ مالك وافياً، قال تعالى: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }(1) فأمر بالإحسان إلى جميع هؤلاء. ****************** (1) سورة النساء – آية 36 . |
ويدخل في ذلك الإحسان إلى جميع نوع الإنسان، والإحسان إلى البهائم، حتى في الحالة التي تزهق فيها نفوسها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : "فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة". فمن استحق القتل لموجب قتل يضرب عنقه بالسيف، من دون تعزير ولا تمثيل. وقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" أي: هيئة الذبح وصفته. ولهذا قال: "وليُحِدَّ أحدكم شَفرته" أي: سكينه: "وليُرح ذبيحته" فإذا كان العبد مأموراً بالإحسان إلى من استحق القتل من الآدميين، وبإحسان ذبحة ما يراد ذبحه من الحيوان. فكيف بغير هذه الحالة ؟ |
واعلم أن الإحسان المأمور به نوعان: أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجه عليك من الحقوق. والثاني: إحسان مستحب. وهو ما زاد على ذلك من بذل نفع بدني، أو مالي، أو علمي، أو توجيه لخير ديني، أو مصلحة دنيوية، فكل معروف صدقة، وكل ما أدخل السرور على الخلق صدقة وإحسان. وكل ما أزال عنهم ما يكرهون. ودفع عنهم ما لا يرتضون من قليل أو كثير، فهو صدقة وإحسان. ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصة البغيّ التي سقت الكلب الشديد العطش بخفيها من البئر، وأن الله شكر لها وغفر لها. قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لنا في البهائم أجراً ؟ قال: في كل كبد حَرَّى أجر". |
فالإحسان هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحسن وإخلاصه، والسبب الداعي له إلى ذلك. ومن أجَلِّ أنواع الإحسان: الإحسان إلى من أساء إليك بقول أو فعل. قال تعالى: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }(1) { هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ }(2)، { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }(3)، { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ }(4)، { إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }(5) أي: المحسنين في عبادة الله، المحسنين إلى عباد الله. ****************** (1) سورة فصلت – الآيتان 34 ، 35. (2) سورة الرحمن – آية 60 . (3) سورة يونس – آية 26 . (4) سورة الزمر – آية 10 . (5) سورة الأعراف – آية 56 . |
والله تعالى يوجب على عباده العدل من الإحسان، ويندبهم إلى زيادة الفضل منه. وقال تعالى في المعاملة: { وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }(1) أي: اجعلوا للفضل والإحسان موضعاً من معاملاتكم. ولا تستقصوا في جميع الحقوق، بل يَسِّروا ولا تعسروا، وتسامحوا في البيع والشراء، والقضاء والاقتضاء. ومن ألزم نفسه هذا المعروف، نال خيراً كثيراً، وإحساناً كبيراً. والله أعلم. ****************** (1) سورة البقرة – آية 237 . |
الحديث الثاني والستون عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر الحُمُر الإنسية، ولُحومَ البغال، وكلَّ ذي ناب من السباع، وكلَّ ذي مخلب من الطير" رواه الترمذي. الأصل في جميع الأطعمة الحلّ؛ فإن الله أحل لعباده ما أخرجته الأرض من حبوب وثمار ونبات متنوع، وأحل لحم حيوانات البحر كلها: حيها وميتها. وأما حيوانات البر: فأباح منها جميع الطيبات، كالأنعام الثمانية وغيرها، والصيود الوحشية من طيور وغيرها. وإنما حرَّم من هذا النوع الخبائث، وجعل لذلك حداً وفاصلاً. وربما عين بعض المحرمات، كما عين في هذا الحديث الحمر الأهلية، والبغال وحرمها. وقال: "إنها رِجْس". |
وأما الحُمُر الوحشية: فإنها حلال، وكذلك حرم ذوات الأنياب من السباع، كالذئب والأسد والنمر والثعلب والكلب ونحوها، وكل ذي مخلب من الطير يصيد بمخلبه، كالصقر والباشق ونحوهما. وما نهي عن قتله كالصُّرد، أو أمر بقتله كالغراب ونحوها: فإنها محرمة. وما كان خبيثاً، كالحيات والعقارب والفئران وأنواع الحشرات وكذلك ما مات حتف أنفه من الحيوانات المباحة، أو ذكِّي ذكاة غير شرعية: فإنه محرم. والله أعلم. |
الحديث الثالث والستون عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" رواه البخاري. الأصل في جميع الأمور العادية الإباحة، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله، إما لذاته كالمغصوب، وما خبث مكسبه في حق الرجال والنساء. وإما لتخصيص الحل بأحد الصنفين، كما أباح الشارع لباس الذهب والفضة والحرير للنساء، وحرمه على الرجال. وأما تحريم الشارع تشبُّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، فهو عام في اللباس، والكلام، وجميع الأحوال. |
فالأمور ثلاثة أقسام: قسم مشترك بين الرجال والنساء من أصناف اللباس وغيره، فهذا جائز للنوعين؛ لأن الأصل الإباحة. ولا تشبه فيه. وقسم مختص بالرجال، فلا يحل للنساء. وقسم مختص بالنساء، فلا يحل للرجال. ومن الحكمة في النهي عن التشبه: أن الله تعالى جعل للرجال على النساء درجة، وجعلهم قَوّامين على النساء، وميزهم بأمور قَدَرية، وأمور شرعية فقيام هذا التمييز وثبوت فضيلة الرجال على النساء، مقصود شرعاً وعقلاً. فتشبُّه الرجال بالنساء يهبط بهم عن هذه الدرجة الرفيعة. وتشبه النساء بالرجال يبطل التمييز. |
وأيضاً، فتشبه الرجال بالنساء بالكلام واللباس ونحو ذلك: من أسباب التخنث، وسقوط الأخلاق، ورغبة المتشبه بالنساء في الاختلاط بهن، الذي يخشى منه المحذور. وكذلك بالعكس. وهذه المعاني الشرعية، وحفظ مراتب الرجال ومراتب النساء، وتنـزيل كل منهم منزلته التي أنزله الله بها، مستحسن عقلاً، كما أنه مستحسن شرعاً. |
وإذا أردت أن تعرف ضرر التشبه التام، وعدم اعتبار المنازل، فانظر في هذا العصر إلى الاختلاط الساقط الذي ذهبت معه الغيرة الدينية، والمروءة الإنسانية، والأخلاق الحميدة، وحَلَّ محله ضد ذلك من كل خلق رذيل. ويشبه هذا – أو هو أشد منه – تشبه المسلمين بالكفار في أمورهم المختصة بهم. فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "من تشبه بقوم فهو منهم" فإن التشبه الظاهر يدعو إلى التشبه الباطن، والوسائُل والذرائع إلى الشرور قصد الشارع حَسْمها من كل وجه. |
الحديث الرابع والستون عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أنزل الله دَاءً إلا أنزل له شفاءً" رواه البخاري. الإنزال هنا بمعنى: التقدير. ففي هذا الحديث: إثبات القضاء والقدر. وإثبات الأسباب. وقد تقدم أن هذا الأصل العظيم ثابت بالكتاب والسنة. ويؤيده العقل والفطرة. فالمنافع الدينية والدنيوية والمضار كلها بقضاء الله وتقديره. قد أحاط بها علماً. وجرى بها قلمه. ونفذت بها مشيئته. ويَسَّر العبادَ لفعل الأسباب التي توصلهم إلى المنافع والمضار. فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خلق له: من مصالح الدين والدنيا، ومضارهما. والسعيد من يَسَّره الله لأيسر الأمور، وأقربها إلى رضوان الله، وأصلحها لدينه ودنياه. والشقي من انعكس عليه الأمر. |
وعموم هذا الحديث يقتضي: أن جميع الأمراض الباطنة والظاهرة لها أدوية تقاومها، تدفع ما لم ينزل، وترفع ما نزل بالكلية، أو تخففه. وفي هذا: الترغيب في تعلم طب الأبدان، كما يتعلم طب القلوب، وأن ذلك من جملة الأسباب النافعة. وجميع أصول الطب وتفاصيله، شرح لهذا الحديث. لأن الشارع أخبرنا أن جميع الأدواء لها أدوية. فينبغي لنا أن نسعى إلى تعلمها، وبعد ذلك إلى العمل بها وتنفيذها. وقد كان يظن كثير من الناس أن بعض الأمراض ليس له دواء، كالسل ونحوه. وعندما ارتقى علم الطب، ووصل الناس إلى ما وصلوا إليه من علمه، عرف الناس مصداق هذا الحديث، وأنه على عمومه. |
وأصول الطب: تدبير الغذاء، بأن لا يأكل حتى تصدق الشهوة وينهضم الطعام السابق انهضاماً تاماً، ويتحرى الأنفع من الأغذية، وذلك بحسب حالة الأقطار والأشخاص والأحوال. ولا يمتلئ من الطعام امتلاء يضره مزاولته، والسعي في تهضيمه، بل الميزان قوله تعالى: { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ }(1) ويستعمل الحِمْية عن جميع المؤذيات في مقدارها، أو في ذاتها، أو في وقتها. ثم إن أمكن الاستفراغ، وحصل به المقصود، من دون مباشرة الأدوية: فهو الأولى والأنفع. فإن اضطر إلى الدواء: استعمله بمقدار. وينبغي أن لا يتولى ذلك إلا عارف وطبيب حاذق. ****************** (1) سورة الأعراف – آية 31 . |
واعلم أن طيب الهواء، ونظافة البدن والثياب، والبعد عن الروائح الخبيثة، خير عون على الصحة. وكذلك الرياضة المتوسطة. فإنها تقوي الأعضاء والأعصاب والأوتار، وتزيل الفضلات، وتهضم الأغذية الثقيلة، وتفاصيل الطب معروفة عند الأطباء. ولكن هذه الأصول التي ذكرناها يحتاج إليها كل أحد. |
وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم : "الشفاء في ثلاث: شَرْطة مِحْجَم، أو شربة عسل، أو كَيَّة بنار، وفي الحبة السوداء شفاء من كل داء". "العود الهندي فيه سبعة أشْفِية". "يُسَعَّط من العُذرة، ويُلَدُّ من ذات الجنب"، "الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء"، "رخص في الرُّقية من العين والحُمَّة والنملة"، "وإذا استُغسِلتم من العين فاغسلوا"، "ونهى عن الدواء الخبيث"، "وأمر بخضاب الرجلين لوجعهما". |
الحديث الخامس والستون عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الرؤيا الصالحة من الله. والحُلْم من الشيطان. فإذا رأى أحدُكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب. وإذا رأى ما يكره فليتعوَّذ بالله من شرها ومن شر الشيطان. ولْيَتْفُلْ ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره" متفق عليه. أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: أن الرؤيا الصالحة من الله، أي: السالمة من تخليط الشيطان وتشويشه. وذلك لأن الإنسان إذا نام خرجت روحه. وحصل لها بعض التجرد الذي تتهيأ به لكثير من العلوم والمعارف. وتلطفت مع ما يلهمها الله، ويلقيه إليها الملك في منامها. فتتنبه وقد تجلت لها أمور كانت قبل ذلك مجهولة، أو ذكرت أموراً قد غفلت عنها، أو تنبهت لأحوال ينفعها معرفتها، أو العمل بها، أو حَذِرَتْ مضار دينية أو دنيوية لم تكن لها على بال، أو اتعظت ورغبت ورهبت عن أعمال قد تلبست بها، أو هي بصدد ذلك، أو انتبهت لبعض الأعيان الجزئية لإدخالها في الأحكام الشرعية. |
فكل هذه الأمور علامة على الرؤيا الصالحة، التي هي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. وما كان من النبوة فهو لا يكذب. فانظر إلى رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }(1) كما حصل بها من منافع واندفع من مضار. وكذلك قوله تعالى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا }(2) كم حصل بها من زيادة إيمان. وتم بها من كمال إيقان. وكانت من آيات الله العظيمة. ****************** (1) سورة الأنفال – آية 43 . (2) سورة الفتح – آية 27 . |
وانظر إلى رؤيا ملك مصر، وتأويل يوسف الصديق لها، وكما تولَّى التأويل فقد ولاَّه الله ما احتوت عليه من التدبير. فحصل بذلك خيرات كثيرة، ونعم غزيرة، واندفع بها ضرورات وحاجات. ورفع الله بها يوسف فوق العباد درجات. وتأمل رؤيا عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما الأذان والإقامة، وكيف صارت سبباً لشرع هذه الشعيرة العظيمة التي هي من أعظم الشعائر الدينية. ومرائي الأنبياء والأولياء والصالحين – بل وعموم المؤمنين وغيرهم – معروفة مشهورة، لا يحصى ما اشتملت عليه من المنافع المهمة والثمرات الطيبة. وهي من جملة نعم الله على عباده، ومن بشارات المؤمنين، وتنبيهات الغافلين، وتذكيره للمعرضين، وإقامة الحجة على المعاندين. |
وأما الحُلْم الذي هو أضغاث أحلام، فإنما هو من تخليط الشيطان على روح الإنسان، وتشويشه عليها وإفزاعها، وجلب الأمور التي تكسبها الهم والغم، أو توجب لها الفرح والمرح والبطر، أو تزعجها للشر والفساد والحرص الضار. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك أن يأخذ العبد في الأسباب التي تدفع شره بأن لا يحدِّث به أحداً. فإن ذلك سبب لبطلانه واضمحلاله، وأن يَتْفُل عن شماله ثلاث مرات. وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الذي هو سبب هذا الحلم والدافع له، وليطمئن قلبه عند ذلك أنه لا يضره، مصداقاً لقول رسوله، وثقة بنجاح الأسباب الدافعة له. |
وأما الرؤيا الصالحة، فينبغي أن يحمد الله عليها، ويسأله تحقيقها، ويحدث بها من يحب ويعلم منه المودة، ليُسرّ لسروره، ويدعو له في ذلك. ولا يحدث بها من لا يحب، لئلا يشوش عليه بتأويل يوافق هواه، أو يسعى – حسداً منه – في إزالة النعمة عنه. ولهذا لما رأى يوسف الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر ساجدين له. وحدث بها أباه قال له: { يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }(1) ولهذا كان كَتْم النعم عن الأعداء – مع الإمكان – أولى، إلا إذا كان في ذلك مصلحة راجحة. ****************** (1) سورة يوسف – آية 5. |
واعلم أن الرؤيا الصادقة تارة يراها العبد على صورتها الخارجية، كما في رؤيا الأذان وغيرها، وتارة يضرب له فيها أمثال محسوسة، ليعتبر بها الأمور المعقولة، أو المحسوسة التي تشبهها، كرؤيا ملك مصر ونحوها. وهي تختلف باختلاف الرائي والوقت والعادة، وتنوع الأحوال. |
الحديث السادس والستون عن علي بن الحسين رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حُسْن إسلام المرء تَرْكُه ما لا يَعنيه" رواه مالك وأحمد. ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه الترمذي عن علي بن الحسين وعن أبي هريرة. الإسلام – عند الإطلاق – يدخل فيه الإيمان، والإحسان. وهو شرائع الدين الظاهرة والباطنة. والمسلمون منقسمون في الإسلام إلى قسمين، كما دلّ عليه فحوى هذا الحديث. فمنهم: المحسن في إسلامه. ومنهم : المسيء. |
فمن قام بالإسلام ظاهراً وباطناً فهو المحسن { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }(1). فيشتغل هذا المحسن بما يعنيه، مما يجب عليه تركه من المعاصي والسيئات، ومما ينبغي له تركه، كالمكروهات وفضول المباحات التي لا مصلحة له فيها، بل تفوت عليه الخير. فقوله صلى الله عليه وسلم : "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" يعم ما ذكرنا. ****************** (1) سورة النساء – آية 125 . |
ومفهوم الحديث: أن من لم يترك ما لا يعنيه: فإنه مسيء في إسلامه. وذلك شامل للأقوال والأفعال، المنهي عنها نهي تحريم أو نهي كراهة. فهذا الحديث يُعدّ من الكلمات الجامعة. لأنها قسمت هذا التقسيم الحاصر، وبينت الأسباب التي يتم بها حسن الإسلام، وهو الاشتغال بما يعني، وترك ما لا يعني من قول وفعل. والأسباب التي يكون بها العبد مسيئاً. وهي ضد هذه الحال. والله أعلم. |
الحديث السابع والستون عن أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما نَحل والدٌ ولدّه من نحْل أفضل من أدب حسَن" رواه الترمذي. أولى الناس ببرِّك، وأحقهم بمعروفك: أولادُك؛ فإنهم أمانات جعلهم الله عندك، ووصاك بتربيتهم تربية صالحة لأبدانهم وقلوبهم، وكل ما فعلته معهم من هذه الأمور، دقيقها وجليلها، فإنه من أداء الواجب عليك، ومن أفضل ما يقربك إلى الله، فاجتهد في ذلك، واحتسبه عند الله، فكما أنك إذا أطعمتهم وكسوتهم وقمت بتربية أبدانهم، فأنت قائم بالحق مأجور. فكذلك – بل أعظم من ذلك – إذا قمت بتربية قلوبهم وأرواحهم بالعلوم النافعة، والمعارف الصادقة، والتوجيه للأخلاق الحميدة، والتحذير من ضدها. |
و "النحل": هي العطايا والإحسان. فالآداب الحسنة خير للأولاد حالاً ومآلاً من إعطائهم الذهب والفضة، وأنواع المتاع الدنيوي لأن بالآداب الحسنة، والأخلاق الجميلة، يرتفعون، وبها يسعدون، وبها يؤدون ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وبها يجتنبون أنواع المضار، وبها يتم برهم لوالديهم. |
أما إهمال الأولاد: فضرره كبير، وخطره خطير. أرأيت لو كان لك بستان فَنمَّيته، حتى استتمت أشجاره، وأينعت ثماره، وتزخرفت زروعه وأزهاره. ثم أهملته فلم تحفظه، ولم تَسقِه ولم تُنَقِّه من الآفات، وتعده للنموِّ في كل الأوقات، أليس هذا من أعظم الجهل والحمق ؟ فكيف تهمل أولادك الذين هم فِلذة كبدك، وثمرة فؤادك، ونسخة روحك، والقائمون مقامك حياً وميتاً، الذين بسعادتهم تتم سعادتك، وبفلاحهم ونجاحهم تدرَك به خيراً كثيراً { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }(1). ****************** (1) سورة آل عمران – آية 7 . |
الحديث الثامن والستون عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل الجليس الصالح والسوء: كحامل المسك، ونافخ الكِير. فحامل المسك: إما أن يَحْذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة" متفق عليه. اشتمل هذا الحديث على الحث على اختيار الأصحاب الصالحين، والتحذير من ضدهم. ومثَّل النبي صلى الله عليه وسلم بهذين المثالين، مبيناً أن الجليس الصالح: جميع أحوالك معه وأنت في مغنم وخير، كحامل المسك الذي تنتفع بما معه من المسك: إما بهبة، أو بعوض. وأقل ذلك : مدة جلوسك معه، وأنت قرير النفس برائحة المسك. |
فالخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر، فإنه إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك، أو يهدي لك نصيحة، أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك. فيحثك على طاعة الله، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ويبصرك بعيوب نفسك، ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، بقوله وفعله وحاله. فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والطباع والأرواح جنود مجندة، يقود بعضها بعضاً إلى الخير، أو إلى ضده. |
وأقل ما تستفيده من الجليس الصالح – وهي فائدة لا يستهان بها – أن تكف بسببه عن السيئات والمعاصي، رعاية للصحبة، ومنافسة في الخير، وترفعاً عن الشر، وأن يحفظك في حضرتك ومغيبك، وأن تنفعك محبته ودعاؤه في حال حياتك وبعد مماتك، وأن يدافع عنك بسبب اتصاله بك، ومحبته لك. وتلك أمور لا تباشر أنت مدافعتها، كما أنه قد يصلك بأشخاص وأعمال ينفعك اتصالك بهم. وفوائد الأصحاب الصالحين لا تعد ولا تحصى. وحسب المرء أن يعتبر بقرينه، وأن يكون على دين خليله. |
وأما مصاحبة الأشرار: فإنها بضد جميع ما ذكرنا. وهم مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم، وشر على من خالطهم. فكم هلك بسببهم أقوام. وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون. ولهذا كان من أعظم نعم الله على العبد المؤمن، أن يوفقه لصحبة الأخيار. ومن عقوبته لعبده، أن يبتليه بصحبة الأشرار. |
صحبة الأخيار توصل العبد إلى أعلى عليين، وصحبة الأشرار توصله إلى أسفل سافلين. صحبة الأخيار توجب له العلوم النافعة، والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، وصحبة الأشرار: تحرمه ذلك أجمع { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً }(1) ****************** (1) سورة الفرقان – الآيات 27 – 29 . |
الحديث التاسع والستون عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يُلْدَغ المؤمن من جُحْرٍ واحدٍ مرتين" متفق عليه. هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم : لبيان كمال احتراز المؤمن ويقظته، وأن المؤمن يمنعه من اقتراف السيئات التي تضره مقارفتها، وأنه متى وقع في شيء منها، فإنه في الحال يبادر إلى الندم والتوبة والإنابة. ومن تمام توبته: أن يحذر غاية الحذر من ذلك السبب الذي أوقعه في الذنب، كحال من أدخل يده في جُحر فلدغته حَيَّة. فإنه بعد ذلك لا يكاد يدخل يده في ذلك الجحر، لما أصابه فيه أول مرة. |
وكما أن الإيمان يحمل صاحبه على فعل الطاعات. ويرغبه فيها. ويحزنه لفواتها. فكذلك يزجره عن مقارفة السيئات، وإن وقعت بادر إلى النزوع عنها. ولم يعد إلى مثل ما وقع فيه. وفي هذا الحديث: الحث على الحزم والكَيْس في جميع الأمور. ومن لوازم ذلك : تعرف الأسباب النافعة ليقوم بها، والأسباب الضارة ليتجنبها. |
ويدل على الحثّ على تجنب أسباب الرِّيب التي يخشى من مقاربتها الوقوع في الشر. وعلى أن الذرائع معتبرة. وقد حذر الله المؤمنين من العَوْد إلى ما زينه الشيطان من الوقوع في المعاصي، فقال : { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }(1) ولهذا فإن من ذاق الشر من التائبين تكون كراهته له أعظم، وتحذيره وحذره عنه أبلغ؛ لأنه عرف بالتجربة آثاره القبيحة. وفي الحديث: "الأناة من الله، والعجلة من الشيطان، ولا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة" والله أعلم. ****************** (1) سورة النور – آية 17 . |
الحديث السبعون عن أبي ذر الغِفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا ذَرٍّ، لا عقل كالتدبير، ولا وَرَع كالكفّ، ولا حَسَبَ كحُسْن الخلق" رواه البيهقي في شعب الإيمان. هذا الحديث اشتمل على ثلاث جمل، كل واحدة منها تحتها علم عظيم: أما الجملة الأولى: فهي في بيان العقل وآثاره وعلاماته، وأن العقل الممدوح في الكتاب والسنة: هو قوة ونعمة أنعم الله بها على العبد، يعقل بها الأشياء النافعة، والعلوم والمعارف، ويتعقل بها ويمتنع من الأمور الضارة والقبيحة. فهو ضروري للإنسان لا يستغني عنه في كل أحواله الدينية والدنيوية، إذ به يعرف النافع والطريق إليه. ويعرف الضار وكيفية السلامة منه. والعقل يعرف بآثاره. فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث آثاره الطيبة، فقال: "لا عقل كالتدبير" أي: تدبير العبد لأمور دينه، ولأمور دنياه. فتدبيره لأمور دينه: أن يسعى في تعرّف الصراط المستقيم، وما كان عليه النبي الكريم، من الأخلاق والهدى والسَّمْت. ثم يسعى في سلوكه بحالة منتظمة. كما قال صلى الله عليه وسلم : "استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلْجة، والقصدَ القصد، تبلغوا". وقد تقدم شرح هذا الحديث، وبيان الطريق الذي أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنها طريق سهلة توصل إلى الله، وإلى دار كرامته بسهولة وراحة، وأنها لا تفوِّت على العبد من راحاته وأموره الدنيوية شيئاً، بل يتمكن العبد معها من تحصيل المصلحتين، والفوز بالسعادتين، والحياة الطيبة. |
فمتى دبر أحواله الدينية بهذا الميزان الشرعي، فقد كمل دينه وعقله. لأن المطلوب من العقل، أو يوصل صاحبه إلى العواقب الحميدة، من أقرب طريق وأيسره. وأما تدبير المعاش: فإن العاقل يسعى في طلب الرزق بما يتضح له أنه أنفع له وأجدى عليه في حصول مقصوده. ولا يتخبط في الأسباب خبط عشواء، لا يقر له قرار، بل إذا رأى سبباً فتح له به باب رزق فليلزمه وليثابر عليه، وليُجْمل في الطلب. ففي هذا بركة مجربة. ثم يدبر تدبيراً آخر. وهو التدبير في التصريف والإنفاق، فلا ينفق في طرق محرمة، أو طرق غير نافعة، أو يسرف في النفقات المباحة، أو يُقَتِّر. وميزان ذلك: قوله تعالى في مدح الأخيار: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا }(1). فحسن التدبير في كسب الأرزاق، وحسن التدبير في الإنفاق، والتصريف، والحفظ، وتوابع ذلك : دليل على كمال عقل الإنسان ورزانته ورشده. وضد ذلك : دليل على نقصان عقله، وفساد لُبِّه. ****************** (1) سورة الفرقان – آية 67 . |
الساعة الآن 06:57 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir