![]() |
درر لغوية من كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر
أثناء تجولي في أفانين كتاب المثل السائر قطفت هذه الأزهار اللغوية رغبة أن ينعشك أريجها ويهزك جمالها وتزين بها فكرك الثقافي، ورغبة في حفظ هذه النفائس التي قد لا تجدها إلا في الكتاب نفسه. هذا وقد تجد فائدة طويلة وأخرى لا تتجاوز السطر لأني انتقيت ما يروقني حال القراءة. تألق المثل السائر ج/1 صنّفه في علم البلاغة الأديب الكاتب أبو الفتح نصر الله ضياء الدين بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير؛ وهو كتاب «جمع فيه فأوعى. ولم يترك شيئا يتعلق بفن الكتابة إلا ذكره.6 558- 637 ه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ علم البيان واعلم- أيها الناظر في كتابي- أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم، الذي هو أنفع من ذوق التعليم، وهذا الكتاب- وإن كان فيما يلقيه إليك أستاذا، وإذا سألت عما ينتفع به في فنه قيل لك هذا- فإن الدربة والإدمان أجدى عليك نفعا، وأهدى بصرا وسمعا، وهما يريانك الخبر عيانا، ويجعلان عسرك من القول إمكانا، وكلّ جارحة منك قلبا ولسانا، فخذ من هذا الكتاب ما أعطاك، واستنبط بإدمانك ما أخطاك، وما مثلي فيما مهّدته لك من هذه الطريق إلا كمن طبع سيفا ووضعه في يمينك لتقاتل به، وليس عليه أن يخلق لك قلبا، فإن حمل النصال، غير مباشرة القتال. وإنّما يبلغ الإنسان غايته...ما كلّ ماشية بالرّحل شملال «1»25 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ وعلى هذا فإذا ركب الله تعالى في الإنسان طبعا قابلا لهذا الفن فيفتقر حينئذ إلى ثمانية أنواع من الآلات. 28 النوع الأول:معرفة علم العربية من النحو والتصريف. النوع الثاني:معرفة ما يحتاج إليه من اللغة، وهو المتداول المألوف استعماله في فصيح الكلام غير الوحشيّ الغريب ولا المستكره المعيب. النوع الثالث: معرفة أمثال العرب وأيامهم، ومعرفة الوقائع التي جاءت في حوادث خاصة بأقوام؛ فإن ذلك جرى مجرى الأمثال أيضا. النوع الرابع: الاطّلاع على تأليفات من تقدمه من أرباب هذه الصناعة المنظومة منه والمنثورة، والتحفظ للكثير منه. النوع الخامس: معرفة الأحكام السلطانية: الإمامة، والإمارة، والقضاء، والحسبة، وغير ذلك. النوع السادس: حفظ القرآن الكريم، والتدرّب باستعماله وإدراجه في مطاوي كلامه. النوع السابع: حفظ ما يحتاج إليه من الأخبار الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، والسلوك بها مسلك القرآن الكريم في الاستعمال. النوع الثامن: وهو مختص بالناظم دون الناثر- وذلك علم العروض والقوافي الذي يقام به ميزان الشعر.29 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ تصغير كلمة اضطراب: تضيرب 33 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ من العجب أن يقال: إنه لا يحتاج إلى معرفة التصريف، ألم تعلم أن نافع ابن أبي نعيم، وهو من أكبر القراء السبعة قدرا، وأفخمهم شأنا، قال في معايش: معائش، بالهمز»ولم يعلم الأصل في ذلك؛ فأوخذ عليه، وعيب من أجله، ومن جملة من عابه أبو عثمان المازني؛ فقال في كتابه في التصريف: إن نافعا لم يدر ما العربيّة، وكثيرا ما يقع أولو العلم في مثل هذه المواضع، فكيف الجهال الذين لا معرفة لهم بها ولا اطّلاع لهم عليها؟ وإذا علم حقيقة الأمر في ذلك لم يغلط فيما يوجب قدحا ولا طعنا، وهذه لفظة معايش لا يجوز همزها بإجماع من علماء العربية، لأن الياء فيها ليست مبدلة من همزة، وإنما الياء التي تبدل من الهمزة في هذا الموضع تكون بعد ألف الجمع المانع من الصرف، ويكون بعدها حرف واحد، ولا تكون عينا، نحو سفائن، وفي هذا الموضع غلط نافع رحمة الله عليه، لأنه لا شك اعتقد أن معيشة بوزن فعيلة وجمع فعيلة هو على فعائل، ولم ينظر إلى أن الأصل في معيشة معيشة على وزن مفعلة، وذلك لأن أصل هذه الكلمة من عاش التي أصلها عيش على وزن فعل، ويلزم مضارع فعل المعتل العين يفعل لتصح الياء، نحو يعيش، ثم تنقل حركة العين إلى الفاء فتصير يعيش، ثم يبني من يعيش مفعول فيقال: معيوش به، كما يقال: مسيور به، ثم يخفف ذلك بحذف الواو؛ فيقال: معيش به، كما يقال: مسير به، ثم تؤنث هذه اللفظة فتصير معيشة. 34 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ |
أما ما يأتي على حكم المجاز فقوله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين: «الآن حمي الوطيس» ؛ وهذا لم يسمع من أحد قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو أتينا بمجاز غير ذلك في معناه فقلنا: «استعرت الحرب» لما كان مؤديا من المعنى ما يؤديه «حمي الوطيس» والفرق بينهما أن الوطيس هو التّنّور، وهو موطن الوقود ومجتمع النار، وذلك يخيل إلى السامع أن هناك صورة شبيهة بصورته في حميها وتوقّدها، وهذا لا يوجد في قولنا: «استعرت الحرب» أو ما جرى مجراه.65
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ الفصل التاسع في أركان الكتابةفإنه يحتاج إلى أشياء كثيرة قد ذكرتها في صدر كتابي هذا، إلا أن رأسها وعمودها وذروة سنامها ثلاثة أشياء: هي حفظ القرآن الكريم، والإكثار من حفظ الأخبار النبوية، والأشعار.93 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ من أحبّ أن يكون كاتبا، أو كان عنده طبع مجيب؛ فعليه بحفظ الدواوين ذوات العدد، ولا يقنع بالقليل من ذلك، ثم يأخذ في نثر الشعر من محفوظاته، وطريقه أن يبتدىء فيأخذ قصيدا من القصائد؛ فينثره بيتا بيتا على التوالي، ولا يستنكف في الابتداء أن ينثر الشعر بألفاظه أو بأكثرها؛ فإنه لا يستطيع إلا ذلك، وإذا مرنت نفسه، وتدرّب خاطره؛ ارتفع عن هذه الدرجة، وصار يأخذ المعنى ويكسوه عبارة من عنده، ثم يرتفع عن ذلك حتى يكسوه ضروبا من العبارات المختلفة، وحينئذ يحصل لخاطره بمباشرة المعاني لقاح فيستنتج منها معاني غير تلك المعاني، وسبيله أن يكثر الإدمان ليلا ونهارا، ولا يزال على ذلك مدة طويلة، حتى يصير له ملكة، فإذا كتب كتابا أو خطب خطبة تدفّقت المعاني في أثناء كلامه، وجاءت ألفاظه معسولة لا مغسولة، وكان عليها حدّة حتى تكاد ترقص رقصا، وهذا شيء خبرته بالتجربة، ولا ينبئك مثل خبير.99 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ واعلم أن المتصدّي لحل معاني القرآن يحتاج إلى كثرة الدرس؛ فإنه كلما ديم على درسه ظهر من معانيه ما لم يظهر من قبل، وهذا شيء جرّبته وخبرته؛ فإني كنت آخذ سورة من السور وأتلوها، وكلما مر بي معنى أثبتّه في ورقة مفردة، حتى أنتهي إلى آخرها؛ ثم آخذ في حل تلك المعاني التي أثبّتها واحدا بعد واحد، ولا أقنع بذلك حتى أعاود تلاوة تلك السورة، وأفعل مثل ما فعلته أولا، وكلما صقلتها التلاوة مرّة بعد مرة، ظهر في كل مرة من المعاني ما لم يظهر لي في المرة التي قبلها. وسأورد في هذا الموضع سورة من السور، ثم أردفها بآيات أخرى من سور متفرقة، حتى يتبين لك أيها المتعلم ما فعلته فتحذو حذوه127 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ |
ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظتين تدلان على معنى واحد، وكلاهما حسن في الاستعمال، وهما على وزن واحد وعدة واحدة، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرق بينهما في مواضع السبك، وهذا لا يدركه إلا من دقّ فهمه وجلّ نظره.
فمن ذلك قوله تعالى: «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» وقوله تعالى: «رب إني نذرت لك ما في بطني محررا» فاستعمل الجوف في الأولى والبطن في الثانية، ولم يستعمل الجوف موضع البطن، ولا البطن موضع الجوف، واللفظتان سواء في الدلالة، وهما ثلاثيتان في عدد واحد، ووزنهما واحد أيضا، فانظر إلى سبك الألفاظ كيف تفعل؟. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ وإذا تصفحت أشعارهم أيضا وجدت الوحشيّ من الألفاظ قليلا بالنسبة إلى المسلسل في الفم والسمع، ألا ترى إلى هذه الأبيات الواردة للسموأل بن عاديا، وهي: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه...فكلّ رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها...فليس إلى حسن الثّناء سبيل تعيّرنا أنّا قليل عديدنا...فقلت لها إنّ الكرام قليل وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا...عزيز وجار الأكثرين ذليل يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا...وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منّا سيّد حتف أنفه...ولا طلّ منّا حيث كان قتيل 176 وكذلك قد ورد للعرب في جانب الرقة من الأشعار ما يكاد يذوب لرقته، كقول عروة بن أذينة «1» : إنّ الّتي زعمت فؤادك ملّها...خلقت هواك كما خلقت هوى لها بيضاء باكرها النّعيم فصاغها...بلباقة فأدقّها وأجلّها حجبت تحيّتها فقلت لصاحبي...ما كان أكثرها لنا وأقلّها وإذا وجدت لها وساوس سلوة...شفع الضّمير إلى الفؤاد فسلّها وكذلك ورد قول الآخر «2» : أقول لصاحبي والعيس تهوي...بنا بين المنيفة فالضّمار تمتّع من شميم عرار نجد...فما بعد العشيّة من عرار ألا يا حبّذا نفحات نجد...وريّا روضه غبّ القطار «3» 177 ومما ترقص الأسماع له، ويرن على صفحات القلوب، قول يزيد بن الطّثريّة في محبوبته من جرم: بنفسي من لو مرّ برد بنانه...على كبدي كانت شفاء أنامله ومن هابني في كلّ شيء وهبته...فلا هو يعطيني ولا أنا سائله وإذا كان هذا قول ساكن في الفلاة لا يرى إلا شيحة أو قيصومة، ولا يأكل إلا ضبّا أو يربوعا، فما بال قوم سكنوا الحضر، ووجدوا رقة العيس، يتعاطون وحشيّ الألفاظ، وشظف العبارات، 178 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ وقد قيل في صفات خلق الإنسان ما أذكره ههنا، وهو الصبّاحة في الوجه، الوضاءة في البشرة، الجمال في الأنف، الحلاوة في العينين، الملاحة في الفم، الظّرف في اللسان، الرّشاقة في القدّ، اللّباقة في الشمائل، كمال الحسن في الشعر؛ فالظرف إنما يتعلق بالنطق خاصة، فغيرته العامة عن بابه. 184 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ والأصل في هذا الباب ما أذكره، وهو أن الأصول من الألفاظ لا تحسن إلا في الثلاثي وفي بعض الرباعي، كقولنا: عذب وعسجد، فإن هاتين اللفظتين إحداهما ثلاثية والأخرى رباعية، وأما الخماسي من الأصول فإنه قبيح، ولا يكاد يوجد منه شيء حسن، كقولنا: جحمرش «1» وصهصلق «2» وما جرى مجراهما 191 ولهذا لا يوجد في القرآن من الخماسي الأصول شيء، إلا ما كان من اسم نبي عرّب اسمه ولم يكن في الأصل عربيا نحو إبراهيم وإسمعيل. وحضر عندي في بعض الأيام رجل من اليهود، وكنت إذ ذاك بالديار المصرية، وكان لليهود في هذا الرجل اعتقاد؛ لمكان علمه في دينهم وغيره، وكان لعمري كذلك، فجرى ذكر اللغات، وأن اللغة العربية هي سيدة اللغات، وأنها أشرفهن مكانا، وأحسنهن وضعا؛ فقال ذلك الرجل: كيف لا تكون كذلك، وقد جاءت آخرا فنفت القبيح من اللغات قبلها وأخذت الحسن؟ ثم إن واضعها تصرّف في جميع اللغات السالفة؛ فاختصر ما اختصر، وخفف ما خفف، فمن ذلك اسم الجمل؛ فإنه عندنا في اللسان العبراني «كوميل» ممالا على وزن فوعيل، فجاء واضع اللغة العربية وحذف منها الثقيل المستبشع، وقال: جمل، فصار خفيفا حسنا، وكذلك فعل في كذا وكذا، وذكر أشياء كثيرة، ولقد صدق في الذي ذكره؛ وهو كلام عالم به.193 |
جزآكم الله خير ونفع بكم الإسلآم والمسلمين |
الساعة الآن 02:58 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir