دروس وعبر من القادسية
إن الفوائد والدروس والعبر من موقعة القادسية كثيرة، وهي عون للمسلمين في معاركهم إلى يوم القيامة، ونجد أن الدرس الكبير المستفاد من القادسية أن النصر يأتي نتيجة عاملين أساسيين هما: الإيمان بالله، والأخذ بالأسباب؛ وقد اجتمع هذان العاملان للمسلمين في موقعة القادسية.
الإيمان بالله U أساس النصر:
الإيمان بالله والأخذ بالأسباب من أهم عوامل وأسباب النصر، ولا بُدَّ للجيش المسلم أن يجمع هذين العاملين حتى يتم النصر المرجو، ونرى في موقعة القادسية انتصار فريق ضعيف على فريق قوي، وانتصار مجموعة قليلة على مجموعة كثيرة، وهذا النصر لا يأتي بقوانين هذا الكون، إلا إذا تحقق في الجيش الإسلامي عامل الإيمان، وعامل الأخذ بالأسباب، أما بالنسبة لعامل الإيمان نجد أن تحركات الجيش الإسلامي منذ بداية خروجه من المدينة، حتى وصوله القادسية واشتراكه في القتال تدل على أن الجيش الإسلامي كله يتمتع بإيمان قوي بالله U؛ نرى ذلك في وصية عمر بن الخطاب t إلى الجيش بعد خروجه من المدينة ولم يكن وصل بعدُ إلى شراف، وشراف كانت على بعد أكثر من ثلاثمائة كيلو متر من أرض فارس، وكانت على بعد خمسمائة كيلو مترٍ من المدينة؛ فيرسل عمر بن الخطاب t برسالة إلى سعد بن أبي وقاص، يأمره بتقوى الله وتجنب المعاصي، ويقول له: إن أخوف ما يخاف على الجيش هو المعاصي، ويخاف عليه من المعاصي أكثر من خوفه عليهم من جيش فارس.
فإن وقع الجيش الإسلامي في المعاصي تساوى مع العدو، وعند ذلك فإن الله U لا ينظر إلى هذا الجيش الإسلامي؛ فينتصر عندئذٍ أهل فارس عليكم بالعدة والعتاد؛ لأن عدة وعتاد فارس أشد وأكثر بكثير من عتاد المسلمين، فإذا فقد المسلمون عامل نصر الله U ضاع منهم النصر، وبقيت لهم الهزيمة.
سعد يخطب مذكرًا بالإيمان والتقوى:
نتذكر خطبة سعد بن أبي وقاص للجيش الإسلامي في القادسية، نجد أن سعدًا t قد ذكرهم بالإيمان، فيقول لهم: آثِروا أمر الآخرة على أمر الدنيا، ولا تؤثروا الدنيا على الآخرة فتُسلَبوهما. أي لو آثرتم الدنيا فسوف تضيع منكم الدنيا والآخرة، ولو آثرتم الآخرة على الدنيا، فسوف تجتمع لكم الدنيا والآخرة.
وكل الأمراء الذين قاموا وخطبوا في موقعة القادسية مثل: عاصم بن عمرو التميمي، والهذيل الأسدي، وقيس بن هبيرة، كل هؤلاء الصحابة y ذَكَّروا بالجنة وذكروا بالنصر، وقالوا: إما النصر وإما الشهادة، وأن الجنة على بعد خطوات من المسلمين. ولو ننظر إلى رسل المسلمين إلى يزدجرد، ورسل المسلمين إلى رستم نجد أن كل الرسل تجتمع لهم كلمة واحدة أنهم يدعون رستم إلى الإسلام أو إلى الجزية أو القتال، ويقولون: إن إسلامك أحبُّ إلينا من قتلك ومن جزيتك. وهكذا نجد حرص الصحابة y على أن يدخل الناس في دين الله U، يتمنون أن يسلم كل الناس، ولا ينظرون إلى الغنائم أو الأرض أو الملك، إنهم يريدون لهؤلاء القوم أن يهتدوا إلى الإسلام.
وكان عند أبسط الجنود النظرة نفسها، فهذا الجندي الذي أسره رستم عندما كان معسكرًا في برس، قال رستم للجندي المسلم: ماذا جاء بكم؟ قال البطل المسلم: جئنا نبحث عن موعود الله: أرضكم ودمائكم وأبنائكم، إن أبيتم الإسلام. ولننظر إلى هذا الجندي البسيط من المسلمين، والذي لا نعرف اسمه، وليس رسولاً حتى يأمن على دمه ومعرض للقتل في أي لحظة، فيقول له رستم: إذن تموت دون ذلك. فيقول: إذا مت قبل ذلك كان موعدي الجنة، ومن بقي منا ظفر على من بقي منكم. قال رستم: قد وُضِعنا إذن في أيديكم. فقال البطل المسلم قبل أن يأمر رستم بقتله: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها؛ فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تحاول الإنس؛ وإنما تحاول القضاء والقدر. وكان هذا هو فكر جندي بسيط، وبعد هذه الحادثة أمر رستم بقطع رقبته، فَقُطِعت واستشهد t دون أن نعلم مَن ذلك البطل المجاهد.
كان هدف الجيش كله الحرص على الإيمان، فكانوا يقبلون على قراءة القرآن يدوون بالقرآن إذا جَنَّ الليل دَوِيَّ النحل، وحقًّا كان الجيش الإسلامي جيشًا مؤمنًا، وجيشًا يريد أن يحقق النصر، ويعمل على أن ينال رضا الله U حتى يُنزِلَ الله عليه النصر، وحرص سعد بن أبي وقاص في بداية المعركة أن يقرأ على الجيش سورة الأنفال، يذهب القراء فيقرءون سورة الأنفال فتهش القلوب، وتبدأ في طلب الجنة، وكانوا يُذَكِّرون المسلمين بموقعة بدر وما حدث فيها، ونزول سورة الأنفال فيها، وذكرهم سعد بن أبي وقاص t بقول: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأن يقولوها بقلوبهم قبل ألسنتهم؛ حتى يعلموا أنه لا نصر ولا معونة ولا مساعدة إلا من الله U. هذا كان العامل الأول، وهو عامل الإيمان القوي الوثيق بالله I، وهذا قد أدى إلى نصر المسلمين في موقعة القادسية، ولكن النصر لم يكن ليأتي لولا أنْ أخذ المسلمون بالأسباب كاملة.
الموضوع مقتبس من الشيخ راغب السرجاني