الفصل الخامس
إشكالية تصحيح مرويات أسباب النزول
• إشكالية تحقيق التراث المتبقِّي من كتب أسباب النزول.
• إشكاليَّة تصحيح مرويَّات أسباب النزول.
هل هذه الإشكالية الثانية قد لاقتْ إعمال العلماء لعقولهم حتى يصلوا إلى حلٍّ لها؟
جهود ابن حجر في علم أسباب النزول:
ابن حجر العسقلاني إمامٌ معروف بسعة علمه، خاصَّة في الجرح والتعديل وعلوم الحديث النبوي عامَّة، وله تصانيفُ نافعة، وقد ألَّف كتابًا في أسباب النزول انتقد فيه الواحدي، وتتبَّع طرقه بالفحص والحكم عليها في كتابٍ سماه
"العجاب في بيان الأسباب"[21].
• ولذلك يُعَدُّ عمله في كتابه
"العجاب" من أفضل الأعمال؛ إذ استدرك على الواحدي أمرًا مهمًّا، وهو النظرة التثبُّتية للمرويَّات الحديثيَّة في أسباب النزول.
وقد أخذ السيوطي فكرةَ ابن حجر بتجميع المرويَّات من كتب التفسير وكتب الحديث، وعمل كتابه
"اللباب".
ولذلك فإنَّ عمل ابن حجر أفضلُ من عمل الواحدي والسيوطي، وهذا يتضح كمًّا وكيفًا، فإنَّ عدد المرويَّات الموجودة في
"العجاب" أكثر من الواحدي، وكذلك السيوطي، رغم أنَّه لم يورد في كتابه إلا الآيات من بداية الفاتحة حتى الآية 58 من النساء، وبِمُراجعة عدد المرويَّات في ذلك القدر في كتابي الواحدي والسيوطي تبيَّن أنَّ ابن حجر يَفُوقُهم عددًا.
• ومن حيث الكيف، فإنَّ ابن حجر إمام الجرح والتعديل في زمانه، ورغم أنَّ السيوطي لدَيْه في كتابه بعض الملامح الدالَّة على أنَّه كان ينظُر في المرويَّات إلا أنَّه أخَذها من ابن حجر، ولم يَسِر سِيرته.
ولذلك يستطيع الباحث أنْ يقول: إنَّ أفضل الأعمال في أسباب النزول المطبوعة - لو أكمَلَه ابن حجر -
"العجاب"، وبذلك ينتقد نظْرة السيوطي التعجُّبية لكتابه، حيث يقول: إنَّه ألَّف كتابًا حافلاً لم يُؤلَّف مثلُه.
أمَّا الواحدي، فقد انتقده ابن حجر العسقلاني في كتابه
"العجاب"، وعابَ عليه عدم تثبُّته من المرويَّات التي ضمَّها في كتابه، وقد بيَّنت نظرة الواحدي التثبُّتية في مبحث الكلام عن الواحدي وكتابه، فليُراجَع، والمهم هنا أنْ نثبت أنَّ أشهر كتابين
(الواحدي والسيوطي) لم يقوما بدورهما الكامل في هذا المجال وفي حلِّ هذه الإشكاليَّة؛ فالسيوطي وإنْ كانت هناك دلائل على سيره التثبُّتي، إلا إنَّه لم يجزم بأنَّه عَمِلَ كلَّ ذلك في كلِّ المرويَّات؛ لذلك فكتابه يَحتاج إلى تصحيح المرويَّات، وتفريق السليم من السَّقِيم، كما يحتاج إلى تحقيق نصوصه، وسيأتي في إشكاليَّة النشر والتحقيق.
أمَّا ابن حجر، فهو في عمله
"العجاب" يُعَدُّ أفضل مَن ألَّف في أسباب النزول؛ إذ هو المحدِّث الثقة، وقد عمد إلى كتاب الواحدي متَّخذًا مرويَّاته أساسًا له، ولكنَّه عمد إليها تصحيحًا وتحقيقًا وتفنيدًا، وكتبه في آخِر عمره، وجمع ما لم يجمعْه الواحدي، وأضاف الكثير، ولكن للأسف مات ولم يُكمِله؛ إذ إنَّه وقف حتى سورة النساء فقط.
ويأتي في العصر الحديث الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، فيؤلف كتابًا أسماه:
"الصحيح المسند من أسباب النزول"، ذكر أنَّه اكتفى على الصحيح وترك الضعيف، وهي محاولةٌ متواضعة لحلِّ هذه الإشكاليَّة، وعمله جيِّد، لكنْ ينبغي ألا تتوقَّف الجهود المبذولة في هذا المجال.
إشكالية تحقيق التراث المتبقي من كتب أسباب النزول:
هذا المبحث يقوم فيه الباحث بنقد التحقيقات المزعومة لكتب أسباب النزول، والسرقات التي أفسدَتْ أكثر ممَّا أصلحت في جانب تحقيق ونشر تراث علم أسباب النزول.
وأبدأ كلامي بنقولات لعلماء أجلاء، تكون نِبراسًا تُنِير للباحث طريقَ نقد تلكم الأعمال التي قام بها أناسٌ لا يعلمون قدر أنفسهم.
الدافع إلى النقد:
دافِعُ الباحث لبَيان ذلك هو الوقوف على إشكاليَّةٍ كبرى في هذا العلم؛ لأنَّه يحتاج إلى جهدٍ ضَخمٍ لتصحيح المرويَّات، ونشر الكتب التي لم تُنشَر من قبل، والبحث عنها في دهاليز المكتبات العربيَّة والغربيَّة، بالإضافة إلى حاجة هذا العلم إلى تصحيح الكتب المطبوعة من أسباب النزول وإخراجها دون خُروم.
لم يكن همُّ الباحث تلمُّسَ العثرات، لا، ثم لا، إنما أردت بَيان إشكاليَّة من إشكاليَّات عصرنا الحاضر، سواء في التأليف أو التحقيق، بل في تراث أمَّتنا كله، وإليكم نصوص العلماء متكلمة عن الدافع بخير بيان:
كلام يوضح أهمية النقد:
يقول عبدالقاهر الجرجاني مُبيِّنًا خطرَ تركِ نقد مَن هم
"قوم لهم نباهة وصيت، وعلو منزلة في نوعٍ من أنواع العلوم": "واعلم أنَّ القولَ الفاسد، والرأي المدخول، إذا كان صدرُه عن قومٍ لهم نباهة وصِيت، وعلو منزلة في نوعٍ من أنواع العلوم غير العلم الذي قالوا ذلك القول فيه، ثم وقع في الألسن فتداولَتْه ونشرَتْه، وفشا وظهر، وكَثُرَ الناقلون له، والمشيدون بذكره - صار ترك النظر
[22] فيه سنَّة، والتقليد دينًا... ولربما - بل كلما - ظنُّوا أنه لم يشعْ، ولم يتَّسعْ، ولم يَروِه خلفٌ عن سلف... إلا لأنَّ له أصلاً صحيحًا، وأنَّه أُخذ من معدن صدق، واشتقَّ من نَبعةٍ كريمة، وأنه لو كان مدخولاً لظهر الدَّخَلُ الذي فيه، على تقادُم الزمان، وكرور الأيَّام، وكم من خطأٍ ظاهرٍ، ورأي فاسد حظي بهذا السبب عند الناس..."، ا.هـ
[23].
وبهذا المعنى قال غيره من العلماء مثل الشوكاني في
"السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار"، ومثل ابن حجر في
"العجاب".
وحقيقٌ بالباحث وهو في عملٍ بحثي عن أسباب النزول وبيان إشكاليَّاته، أنْ ينقد أعمالاً قُرِّظت صفحاتها الأولى بكلمات ضِخام، كضخامة الجبال الثلجيَّة في مستهلِّ فصل الصيف، وصَلابة أعواد القصب الصعيديَّة في معصرة المحمودية... حين تنسب - أي: تلك الألفاظ - إلى أعمال هؤلاء، وهذه الألفاظ محصورةٌ ومصحوبة ببعضها البعض مثل:
تحقيق وتعليق وتخريج، تحقيق، حققه وقرأه وعلق عليه وخرج أحاديثه وعمل فهارسه.
إلى أمثال تلك الدعاوى الجوفاء - كما سيتَّضح بالبرهان الساطع.
لذلك يُقدِّم الباحث تعريف العلماء بمعنى تحقيق النصوص ونشرها:
ولكن قبل ذلك أذكُر شهادة محقق كبير من العصر الحديث عن هذه الإشكالية:
يقول العلامة المحدِّث الشيخ أحمد شاكر: "تصحيح الكتب وتحقيقها من أشقِّ الأعمال وأكبرها تَبِعَة، ولقد صوَّر أبو عمرٍو الجاحظ ذلك أقوى تصوير في كتابه الحيوان... ولَخَّصه كذلك الأخفش:
"إذا نسخ الكتاب ولم يعارض، ثم نسخ ولم يعارض - خرج أعجميًّا".
ألوفٌ من النُّسَخ من كلِّ كتاب تُنشَر في الأسواق والمكاتب، تتناوَلها أيدي الناس، ليس فيها صحيحٌ إلا قليلاً، يقرَؤُها العالِم المتمكِّن، والمتعلِّم المستفيد، والعمي الجاهل، وفيها أغلاطٌ واضحة، وأغلاطٌ مُشكلة، ونقصٌ وتحريف....".
تعريف التحقيق:
هذا هو الاصطلاح المعاصر الذي يُقصَد به عناية خاصَّة بالمخطوطات؛ حتى يمكن التثبُّت من استيفائها لشرائط معيَّنة.
فالكتاب المحقَّق هو الذي صحَّ عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقربَ ما يكونُ إلى الصورة التي ترَكَها مؤلفه.
وعلى ذلك؛ فإنَّ الجهود التي تُبذَل في كلِّ مخطوط يجب أنْ تتناوَل البحث في الزوايا التالية:
1- تحقيق عنوان الكتاب.
2- تحقيق اسم المؤلف.
3- تحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه.
4- تحقيق متن الكتاب
[24].
جاء في هامش هذه الصفحة ما يلي:
(1) أصل التحقيق من قولهم: حقَّق الرجل القول: صدقه، أو قال: هو الحق، والجاحظ يُسمِّي العالم المحقِّق
"محقًّا"، جاء في رسالة
"فصل ما بين العداوة والحسد" من
"رسائل الجاحظ"؛ بتحقيق عبدالسلام هارون [338-339]:
"إنَّه لم يخلُ زمنٌ من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلا وفيه عُلَماء محقُّون قرؤوا كتب مَن تقدَّمهم ودارسوا أهلها".
ثم قال:
"واتخذهم المعادون للعلماء المحقِّين عدة".
والإحقاق: الإثبات، يُقال: أحققت الأمر إحقاقًا، إذا أحكمته وصحَّحته؛ انتهى الهامش.
قال الباحث: ولهذا تفصيلٌ؛ وإنما أوردته لأنَّ ذلك سوف نحتاجُ إليه فيما بعدُ في معرض نقد التحقيقات أو التشوهات لكتب أسباب النزول.