الثورة المستمرة وخلافاتهم وانقسامهم إن فرقة من فرق الإسلام لم تسلك طريق الثورة كما سلكته فرقة الخوارج، حتى لقد أصبحت ثوراتهم وانتفاضاتهم أشبه بالثورة المستمرة في الزمان والمنتشرة في المكان ضد الأمويين، بل وضد علي بن أبي طالب t منذ التحكيم وحتى انقضاء عهده سنة 40هـ. وعلى درب ثورتهم المستمرة هذه كانت معاركهم المتفردة بالاستبسال والفناء في الهدف والمبدأ، معالم تستنفر دماء شهدائهم وذكريات ضحاياهم فيها اللاحقين للاقتداء بالسابقين. وبعد هزيمتهم في النهروان بشهرين تجددت ثورتهم فقاتلوا جيش علي ثانية في الدَّسْكَرَة بأرض خراسان في ربيع الثاني سنة 38هـ وكانت قيادتهم لأشرس بن عوف الشيباني. وفي الشهر التالي لهزيمة الدسكرة تجددت ثورتهم بقيادة هلال بن علفة وأخيه مجالد فقاتلوا جيش عليٍّ للمرة الثالثة عند (ماسبذان) بأرض فارس في جمادى الأولى سنة 38هـ. وبعد هزيمة ماسبذان قادهم الأشهب بن بشر البجلي في خروج آخر في نفس العام، فحاربوا في جرجرايا على نهر دجلة. وفي رمضان سنة 38هـ زحفوا بقيادة أبي مريم -من بني سعد تميم- إلى أبواب الكوفة، فحاربوا جيش علي بن أبي طالب ، وهُزِمُوا هناك. وبعد مقتل علي وتنازل ابنه الحسن لمعاوية بدأت حرب الخوارج لأهل الشام ولقد كادوا يهزمون جيش معاوية في أول لقاء لهم به لولا أن استعان عليهم بأهل الكوفة. وفي سنة 41هـ قاد سهم بن غالب التميمي والخطيم الباهلي تمردًا داخليًّا ضد بني أمية استمر حتى قضى عليه زياد بن أبيه قرب البصرة سنة 46هـ، أي بعد خمس سنوات[47]. واستمرت ثوراتهم ضد الأمويين، ففي آخر شوال سنة 64هـ بدأت ثورتهم الكبرى بقيادة نافع بن الأزرق وهي الثورة التي بدأت بكسر أبواب سجون البصرة، ثم خرجوا يريدون الأهواز. وفي سنة 76هـ وسنة 77هـ تمكّنوا بقيادة شبيب بن يزيد بن نعيم من إيقاع عدة هزائم بجيوش الحجاج بن يوسف الثقفي. وغير ذلك من الثوارات التي استمرت حتى أواخر الدولة الأموية. وجدير بالذكر أن هذه الثورات الخارجية وإن لم تنجح في إقامة دولة مستقرة يستمر حكم الخوارج فيها طويلاً إلا أنها قد أصابت الدولة الأموية بالإعياء حتى انهارت انهيارها السريع تحت ضربات الثورة العباسية في سنة 132هـ فالعباسيون قد قعدوا عن الثورة قُرابة قرن بينما قضى الخوارج هذا القرن في ثورة مستمرة، ثم جاء القَعَدَةُ فقطفوا ثمار ما زرعه الثوّار[48]. خلافات وانقسامات الخوارج الخوارج مثلهم كمثل سائر الفرق الإسلامية لم يمنعهم الاتفاق في الأصول من الاختلاف في الفروع والمسائل فشهد تاريخهم عددًا من الانقسامات قادها عدد من أعلامهم وأئمتهم، ولقد ظل الخوارج بعيدين عن الانقسام حتى عهد إمامهم نافع بن الأزرق (65هـ)، الذي مثّلت فرقته "الأزارقة" أول انقسام داخل تيار الخوارج العام. وبعد أن استشرت الانقسامات والاختلافات في المسائل والفروع ظلت الجماعات الرئيسية في حركة الخوارج هي: 1- الأزارقة: أتباع نافع بن الأزرق. 2- النجدات: أتباع نجدة بن عامر الحنفي. 3- الإباضية: أتباع عبد الله بن إباض. 4- الصفرية: نسبة إلى زياد الأصفر، أو النعمان بن الأصفر، أو عبد الله بن صفّار على خلاف في ذلك. ولقد انقرضت هذه الفروع الخارجية ولم يبقَ من الخوارج سوى الإباضية الذين لا تزال لهم بقايا حتى الآن في أجزاء من الوطن العربي وشرقي إفريقيا وبالذات في عُمان على الخليج العربي، وفي أنحاء من المغرب العربي (تونس والجزائر)، وفي الجنوب الشرقي للقارة الإفريقية (زنجبار)[49]. عقائد الخوارج مع مرور الزمن استقرت آراء عقائدية خاصة بفرقة الخوارج، خالفوا فيها كتاب الله وسنة رسوله r، ومن هذه الاعتقادات: 1- تكفير صاحب الكبيرة: إن الخوارج يكفرون مرتكب الكبيرة، ويحكمون بخلوده في النار، وقد استدلوا على معتقدهم ذلك بأدلة، منها قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81]. فقد استدلوا بهذه الآية على تخليد أصحاب المعاصي في النار وقالوا: إنه لا أمل للعاصي الذي يموت على معصيته في رحمة الله[50]. فزعموا أن الخطيئة تحيط بالإنسان، فلا يبقى له معها حسنة مقبولة، حتى الإيمان فإنها تذهبه. ولكن الأمر عكس ما ذهبوا إليه تمامًا، وهذه الآية نفسها تردّ مذهبهم، فقد دلت على أن من أحاطت به خطيئته فإنه يخلد في النار وليس هناك خطيئة تحيط بالإنسان وتحبط أعماله ويخلد بسببها في النار إلا الكفر والشرك بالله. ويؤيد هذا أن تلك الآية نزلت في اليهود، وهم قد أشركوا بالله وحادوا عن سبيله[51]. 2- وكان الأزارقة -فرقة من غلاة الخوارج- يقولون: إن جميع مخالفيهم من المسلمين مشركون وإن من لا يسارع إلى دعوتهم واعتناق مذهبهم فإن دمه ودم نسائه وأطفاله حلال وقد كفّروا علي بن أبي طالب واعتبروا قاتله عبد الرحمن بن ملجم شهيدًا بطلاً[52]. 3- وإن (النجدات) من الخوارج يرون أنه لا حاجة إلى إمامٍ إذا أمكن الناس أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن التناصف لا يتم إلا بإمام يحملهم على الحق فأقاموه جاز فإقامة الإمام -في نظرهم- ليست واجبة بإيجاب الشرع، بل جائزة، وإذا وجبت فإنما تجب بحكم المصلحة والحاجة[53]. 4- الخلافة لا تنحصر في قومٍ بعينهم: كان الخوارج يرون أن الخلافة لا ينبغي أن تنحصر في قوم بعينهم، بل إن كل مسلم صالح للخلافة ما دام قد توافرت فيه شروطها من إيمان وعلم واستقامة شريطة أن يبايع بها، ولا بأس بعد ذلك في أن يكون من الفرس أو الترك أو الحبش؛ فالمعنى العصبي الأرستقراطي بعيد عن تفكيرهم بل عدو لمنهجهم ومسلكهم، واقتصار الخلافة على جنس بعينه -كالجنس العربي- أمر يحاربونه كل المحاربة[54]. فخرجوا على أئمة المسلمين عند أتفه الأسباب، وقد فعلوا ذلك مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فسفكوا الدماء وقطعوا السبل وضيعوا الحقوق وسعوا في إضعاف المسلمين حتى تكالبت عليهم الأعداء. ومما سبق يتضح أن الخوارج خالفت ما كان عليه جمهور المسلمين من اشتراط النسب القرشي في الإمام وقالوا: إنه لا خصوصية لقريش فيها ولا مزية لهم عن سواهم، بل كل ما صار أهلاً لها، جاز توليته من دون أي نظر في نسبه[55]. 5- الثورة على أئمة الجور: أجمع الخوارج على وجوب الخروج (الثورة) على أئمة الجور والفسق والضعف؛ فعندهم أن الخروج يجب إذا بلغ عدد المنكرين على أئمة الجور أربعين رجلاً ويسمون هذا الحد "حد الشراء"، أي الذين اشتروا الجنة عندما باعوا أرواحهم فعليهم وجب الخروج حتى يموتوا أو يظهر دين الله ويخمد الكفر والجور. ولا يحل عندهم المقام والقعود غير ثائرين إلا إذا نقص العدد عن ثلاثة رجال، فإن نقصوا عن الثلاثة جاز لهم القعود وكتمان العقيدة، وكانوا على "مسلك الكتمان". وهناك غير "حد الشراء" و"مسلك الكتمان" حد الظهور، وذلك عند قيام دولتهم ونظامهم تحت قيادة "إمام الظهور" و"حد الدفاع" وهو التصدي لهجوم الأعداء تحت قيادة إمام الدفاع[56]. ويعبر أبو الحسن الأشعري عن إجماع الخوارج على وجوب الثورة بقوله: "وأما السيف فإن الخوارج تقول به وتراه إلا أن الإباضية لا ترى اعتراض الناس بالسيف، ولكنهم يرون إزالة أئمة الجور ومنعهم من أن يكونوا أئمة بأي شيء قدروا عليه، بالسيف أو بغير السيف"[57]. 6- إثبات إمامة الصِّدِّيق والفاروق وتكفير عثمان وعلي : فهم يعتقدون أن إمامة أبي بكر وعمر إمامة شرعية لا شك في صحتها ولا ريب عندهم في شرعيتها، وأن إمامتهما كانت برضا المؤمنين ورغبتهم وأنهما سارا على الطريق المستقيم الذي أمر الله به لم يغيِّرا ولم يبدلا حتى توفهما الله تعالى. وهذا المعتقد للخوارج تجاه الشيخين حالفهم فيه السداد والصواب، لكنهم هلكوا فيمن بعدهما؛ حيث قادهم الشيطان وأخرجهم عن الحق والصواب في اعتقادهم في عثمان وعلي -ا- فلقد حملهم على إنكار إمامة عثمان في المدة التي نقم عليه أعداؤه فيها، كما أنكروا إمامة عليٍّ أيضًا بعد التحكيم t، بل أدى بهم سوء معتقدهم إلى تكفيرهما وتكفير طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن عباس y، وأصحاب الجمل وصفين. وقد دوّن أهل العلم هذا المعتقد السيِّئ عنهم في كتبهم[58]، فقد قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: "والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر وينكرون إمامة عثمان -رضوان الله عليهم- في وقت الأحداث التي نقم عليه من أجلها، ويقولون بإمامة عليٍّ قبل أن يحكم وينكرون إمامته لما أجاب إلى التحكيم، ويكفرون معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري"[59]. 7- الاختيار والبيعة هما الطريق لنصب الإمام: يقف الخوارج مع الرأي القائل بأن "الاختيار والبيعة" هما الطريق لنصب الإمام ومن ثَمَّ فهم أعداء لفكر الشيعة القائل: إن الإمامة شأن من شئون السماء لا اختصاص فيها للبشر وإن السماء قد حددت لها أئمة بذواتهم نصّت عليهم، وأوصت لهم قبل وفاة الرسول . وهم أعداء كذلك لمن زعم من السُّنة أن النص والوصية والتعيين قد سبقت من الرسول بالإمامة والخلافة لأبي بكر الصديق مثل فرقة "البكرية". وعندهم -أيضًا- أن الإمامة من الفروع فليست من أصول الدين -خلافًا للشيعة-؛ ولذلك قالوا: إن مصدرها هو الرأي وليس الكتاب أو السنة[60]. 8- إثبات صفة العدل لله: اتفق الخوارج على نفي الجور عن الله سبحانه بمعنى إثبات القدرة والاستطاعة المؤثرة للإنسان، ومن ثَمَّ تقرير حريته واختياره ففعله المقدور له هو من صنعه على سبيل الحقيقة لا المجاز، ومن هنا فإن مسئوليته متحققة عن فعله هذا، فجزاؤه بالثواب والعقاب عدل على عكس مؤدَّى قول الجبرية الذي يقتضي قولهم بالجبر إلحاق الجور بالخالق -تعالى عن ذلك- لإثابته من لا يستحق وعقابه من لا حيلة له في الذنب ولا سبيل له للفكاك من المكتوب المقدور[61]. 9- تنزيه الذات الإلهية عن أي شبهة بالمحدثات: أجمع الخوارج على تنزيه الذات الإلهية عن أي شبهة بالمحدثات بما في ذلك نفي مغايرة صفات الله لذاته، أو زيادتها عن الذات وذلك حتى لا يفتح الباب لشبهة توهم تعدد القدماء، وانطلاقًا من هذا الموقف قالوا: بخلق القرآن -كلام الله- حتى لا يؤدي القول "بقدم الكلمة" إلى ما أدى إليه في المسيحية عندما قال اللاهوتيون بالتثليث؛ لأن "كلمة الله " -عيسى بن مريم- قديمة كالله[62]. 10- صدق وعد الله ووعيده: قالت الخوارج بصدق وعد الله للمطيع، وصدق وعيده للعاصي دون أن يتخلف وعده أو وعيده لسبب من الأسباب[63]. 11- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: تميز موقف الخوارج عن بعض الذين قالوا بهذا الأصل من أهل السنة وأصحاب الحديث، ذلك أن الخوارج قد جعلوا لهذا الأصل صلة وثيقة بالفكر السياسي والتغيير للظلم والجور الذي طرأ ويطرأ على المجتمعات كما جعلوا القوة -قضية السيف- أداة أصيلة وسبيلاً رئيسيًا من أدوات النهي عن المنكر، وسبل التغيير للجور والفساد[64]. 12- وفوق ذلك فإن الخوارج قد جمعتهم تقاليد اشتهرت عنهم في القتال، وزهد اتصفوا به في الثروة، فحررهم ذلك من قيود الحرص على الاقتناء وأعانهم على الانخراط في الثورات والرحيل الأسرع في ركاب الجيوش الثائرة[65].