الحكمة في تقدير الذنوب والمعاصي
1- أنه يحب التوابين ويفرح بتوبتهم فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب ثم إذا كان ممن سبقت له العناية قضى له بالتوبة
2- تعريف العبد عزة الله سبحانه في قضائه وجريان حكمه ونفوذ مشيئته.
3- تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد والشياطين قد مدت أيديها إليه تمزقه كل ممزق.
4- إرادته من عبده تكميل مقام الذل والانكسار فإنه متى شهد صلاحه شمخ بأنفه وظن أنه...... وأنه..... فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسه وذل وتيقن وتمنى أنه ......وأنه... .
5- تعريفه بحقيقة نفسه وأنها الخطاءة الجاهلة وأن كل ما فيها من علم و خير فمن الله من به عليه لا من نفسه.
6- تعريفه عبده سعة حلمه وكرمه في ستره عليه فإنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده.
7- تعريفه أنه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته.
8- تعريفه كرمه في قبول توبته ومغفرته له على ظلمه وإساءته.
9- إقامة الحجة على عبده فإن له ـ أي الله تعالى ـ عليه الحجة البالغة فإن عذبه فبعدله وببعض حقه عليه.
10- أن يعريه من رداء العجب بعمله كما قال النبي لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أشد منه لعجب.
11- أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والندم.
12- أن يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب ليكمل له نعمته وفرحه وسروره إذا اقبل بقلبه إليه فيكون التذاذه في ذلك بعد أن صدر منه ما صدر بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب والشديد الخوف بالأمن وإن لطف الرب وبره وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربه ومحبته.
13- امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته أم لا فإنه إذا وقع الذنب سلب حلاوة الطاعة ووقع في الوحشة فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك الطاعة فحنت وأنت وتضرعت واستعانت بربها ليردها إلى بره ولطفه وإن ركنت عنها واستمر إعراضها ولم تحن إلى تعهدها الأول ولم تحس بضرورتها إلى ربها علم أنها لا تصلح لله.
14- أنه ـ أي العبد ـ إذا شهد ظلمه استكثر القليل من نعمة الله لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير على مسيء مثله فاستقل الكثير من عمله لأن الذي يصلح له أن يغسل به ذنوبه أضعاف أضعاف ما يفعله فهو دائما مستقل لعمله كائنا ما كان ولو لم يكن في فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافيا.
15- أن ينسيه رؤية طاعته ويشغله برؤية ذنبه فإن الله إذا أراد بعبد خيرا سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه والإخبار بها من لسانه وشغله برؤية ذنبه فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة.
16- أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس فإنه في شغل بعيبه ونفسه وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس.
17- أنه يوجب له الإحسان إلى الناس والاستغفار لإخوانه فيصير هجيراه رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات فإنه يحب لأخيه ما يحب لنفسه[1]. ا هـ
وقد ذكر رحمه الله نحوا من ثلاثين حكمة في تقدير الذنوب.
ولكن هذا لا يبرر الوقوع في المعاصي فإن الله وإن شاء وقوعها فإنه قد نهى عنها وتوعد عليها ولا يجوز في مثل هذا أن يحتج أحد بالقدر الكوني على مخالفة الأمر الشرعي فعلى العبد أن يأخذ بالأسباب التي تسوقه إلى التوبة وألا يستسلم للعوائق والشبه التي تعترض طريقه.
[1] - طريق الهجرتين باختصار/
165-186
الأسباب الدافعة إلى التوبة
بين يديك يا باغي الخير أحد عشر سببا دافعا للتوبة الواحد منها كافي بإذن الله فكيف بها كلها فأي عذر تقدمه بين يدي الله إن تركت التوبة فاستعن بالله واسأله أن يفتح قلبك ويلهمك الرأي السديد.
1-يقول ربك:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } الرعد/11
فيجب أن تبدأ أنت بالتغيير فإن الهداية لا تهبط هكذا من السماء بل لابد أن تستجلبها بأسبابها وذلك بالدعاء فادع الله بصدق أن يرزقك التوبة الخالصة لأنك لا تستطيع ترك معصية أو فعل طاعة إن لم يعنك الله قال تعالى:{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } غافر/60
2- يجب أن تعلم انك ما خلقت إلا لتحقق العبودية لرب السموات والأرض وأنك لا تملك من نفسك شيئا والعبودية لا تتحقق إللا بالتوبة فإذا تركت التوبة أذلك الله بعبودية غيره فتصبح ذليلا للهوى منقادا له فيكون قلبك في حالة من التخبط لا يعلمها إلا الله وقد لا تشعر بذلك لشدة الغفلة يوضح هذا قول ابن القيم قال رحمه الله:"واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله ورجائه لغير الله وحبه وذله لغير الله وتوكله على غير الله ما يصير به منغمسا في بحار الشرك والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه إن كان له عقل فإن ذل المعصية لابد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفا من غير الله وذلك شرك ويورثه محبة لغير الله وذلك شرك واستعانة بغيره من الأسباب التي توصله إلى غرضه فيكون عمله لا بالله ولا لله وهذا حقيقة الشرك[1].
وليس معنى كلامه أن المؤمن العاصي مشرك كلا وإنما الشرك متفاوت والكفر كذلك ومن هنا قال العلماء:" المعاصي بريد الكفر".
وهذا يدل على خطورة المعاصي مهما صغرت فكيف إذا كانت المعاصي من الكبائر،،
ويصر عليا صاحبها،،
ويجاهر بها،،
ويدعو إليها؟!
3-ومن الأسباب الدافعة للتوبة إيمانك بإطلاع الله عليك ، فإنه تعالى لا تخفى عليه خافية يعلم سرك كعلمه بجهرك ، فاحذر أن تجعل الله جل جلاله أهون الناظرين إليك قال تعالى { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }سورة الزخرف /80
قال أبو سليمان:"إن الخاسر من أبدى للناس صالح عمله وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد"[2].
4ـ ومنها أن تعلم أن أعظم نعمة أنعم الله بها عليك هي هدايتك للإسلام. وقد شرفك و أعزك بقول: لا إله إلا الله ، في حين أنه وبعدله وحكمته أضل الملايين من البشر قد كان ممكناً أن تكون منهم لولا فضل الله ومنته عليك. أفلا تحفظ هذه النعمة ـ نعمة الإسلام ـ بالتوبة والإنابة ، فإن النعمة إذا شُكرت قرّت وإذا كُفرت فرّت ، فلا تغتر بقولك: لا إله إلا الله ،بكل يسر فربما أحاطت بك الذنوب عند نزول السكرات فتعجز حينها على النطق بهذه الكلمة ، وسنة الله في خلقه أن من لم يحفظ نعمه سُلبت منه. قيل لأحد شباب المسلمين وهو يحتضر بعد حادث شديد: قل: لا إله إلا الله. فقال: هو كافر بما تقول . والقصص في ذلك لا تكاد تخفى على أحد.
5ـ ومن الدوافع كذلك أن المعاصي محاربة لله عز وجل كما قال تعالى عن أهل الربا الذين لا يتورعون { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } البقرة /279
وإن هذا الوعيد من الله لشديد. قال الحسن: ابن آدم هل لك بمحاربة الله من طاقة ؟ فإن من عصى الله فقد حاربه[3].
6ـ ومما يعين على التوبة الخوف من فواتها فإن النفَس إذا خرج قد لا يعود وإذا عاد قد لا يخرج ومع هذا فالتوبة واجبة على الفور بمجرد وقوع الذنب أو التقصير فإذا أخر التوبة صارت معصية أخرى وهكذا, قال ابن القيم: إن المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها فمتى أخرها عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى وهي توبته من تأخير التوبة، وقلّ أن تخطر هذه ببال التائب ثم قال: ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلمه من الذنوب و مما لا يعلم فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه ولا ينفعه في عدم المؤاخذة جهله إذا كان متمكناً من العلم، فإنه بترك العلم والعمل فالمعصية في حقه أشد و في الصحيح عنه ـ
ـ أنه كان يدعو في صلاته:" اللهم اغفر لي خطيئتي و جهلي و إسرافي في أمري و ما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي ما قدمت و ما أخرت و ما أسررت و ما أعلنت و ما أنت أعلم به و مني.أنت إلهي لا إله إلا أنت"[4] .
و بهذا يعلم شدة الحاجة إلى التوبة فيكل وقت وحال.
7 ـ و من الدوافع أن يشعر العبد بأن عمره هو رأس ماله وبضاعته النفيسة؛ عليه يكون الفوز و الهلاك و الربح و الخسارة، فإن ضاع العمر فيما لا نفع فيه تعظم حسرة العبد فكيف بمن أضاع عمره في معصية الله؟! و أنت أيها العبد في مهلة من أمرك و فسحة من أجلك، فبالتوبة تربح عمرك كله و ذلك بأن الله يغفر ما مضى و تعزم أنت على الإحسان فيما بقي قال الحسن: ابن آدم إنك تغدو وتروح في طلب الأرباح فليكن همك نفسك فإنك لن تربح مثلها أبداً[5].
8 ـ الإيمان الصادق بوجود الجنة و النار من أعظم الدوافع للتوبة لأن من همّ بمعصية ثم تذكر أن الله قد توعّد عليها بنار تلظى فإنه،سينزجر أما إن وقع فيها فإنه يبادر إلى التوبة لأن نار الدنيا لا يحتملها مخلوق فكيف بنار الآخرة، ثم إن تذكر الجنة يوجب المسارعة إلى التوبة لأن الجنة لا يدخلها إلا طاهر و الطهارة لا تكون إلا بالتوبة، فهي دار الطيبين الأبرار، قال تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} سورة النحل/32
قال السعدي - رحمه الله -: طيبين أي طاهرين من كل نقص و دنس يتطرق إليهم و يخل في إيمانهم، فطابت قلوبهم بعرفة الله ومحبته، و ألسنتهم بذكره و الثناء عليه و جوارحهم بطاعته و الإقبال عليه..الخ[6].
9 ـ و مما يدفعك ويسوقك إلى التوبة هو الخوف من سوء الخاتمة؛ فإن القلب إذا تعلق بشيء في الدنيا ظهر حقيقة ذلك عند نزول السكرات فالعبد يموت على ما عاش عليه و يبعث على ما يموت عليه، فانظر الآن إلى قلبك هل هو معلق بالدنيا و شهواتها المحرمة؟ أم معلق بربه و ذكره و طاعته؟
فأدرك نفسك فالأمر كما قال عليه الصلاة والسلام:" إنما الأعمال بالخواتيم"[7].
ولا تغتر بمن يقول سأتوب قبل أن أموت أو سأستغفر الله حين ينزل الموت, هيهات هيهات فإن الموت إذا نزل لا يمكن للإنسان أن يفعل ما كان يؤمله, و إنما تظهر حينها الحقائق و ما خفي في الصدور و الضمائر.
فأصلح قلبك يُصلح الله خاتمتك.
10 ـ و من الأسباب كذلك هو أن تعلم أن المعاصي كلها شر و بلاء و ما عصى قوم ربهم إلا أحاط بهم الذل، و ما يحدث لأمتنا من تسلط الأعداء و ضعفها خير شاهد على ذلك؛ فإن سنة الله واضحة كما قال تعالى:{ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } محمد / 7
فمن أين سيأتي النصر ومساجدنا خاوية، والبيوت قد ملئت بالمنكرات و الأسواق كذلك، فإن المسؤولية مشتركة بيننا كلنا فإن الله نادى إلى التوبة كل المؤمنين لم يستثن أحداً فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } التحريم/ 8
11 ـ و منها الحذر من أن تكون من المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق فأعرضوا عنه و هم اليهود، و هم شرُّ حالٍ من النصارى الذين تركوا الحق على جهل و هم الضالون.
فكل من عرف الحق و آثر ضده فله حظه و نصيبه من غضب الله، فمقل و مستكثر، و العجب أننا جميعاً نقرأ الفاتحة يوميا في كل ركعة و نستعيذ بالله أن لا نكون من المغضوب عليهم و لا الضالين و نسأل الله الهداية ثم نصرّ على أسباب الغضب و طريق الضلال, فكيف يجتمع سؤال الله الهداية و الإصرار على المعاصي؟!
فمن تأمل هذا حق التأمل سارع إلى ربه بالتوبة و الإنابة.
هذه بعض الأسباب الدافعة إلى التوبة، و للعلماء في ذلك كثير.
و مما يحسن ذكره هنا ما سطره ابن القيم رحمه الله من أسباب الصبر عن المعصية. و هي جديرة بالوقوف عندها و تأملها، و ليكن حظك منها العمل لا القراءة فقط.
[1] - مدارج السالكين/ ج1 ص 354
[2]- جامع العلوم والحكم ص 206
[3] - جامع العلوم والحكم.ص 448
[4] - مدارج السالكين ج/1 ص 297-298
[5] - - جامع العلوم والحكم.ص 279
[6] - تفسير السعدي ص 439
[7] - رواه البخاري عن سهل بن سعد.