زاد بينك وبين نفسك
هذا الزاد الذي بينك وبين نفسك يعتمد – بعد توفيق الله تعالى – على علو الهمة وقوة العزيمة وطول الصبر, فاستعن بالله {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} هود/88
1-اطو صفحات الماضي ولا تسترسل مع الذكريات المتعلقة بالمعاصي لأنه؛ لأنه يوشك أن ترجع من حيث أتيت, فالانتكاس بعد التوبة شديد, وتخلص من رواسب الماضي ومن كل شيء يدعوك أو يذكرك بالمعاصي من أشرطة فاسدة أو صور أو كتب مخلة بالأدب أو غير ذلك وتأكد – بل إني أقسم بالله – أن الله سيعوضك خيرا منها {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } الطلاق
2- السعي في طلب العلم الشرعي مهم جدل؛ ليضيء لك الطريق فيكشف لك الشبهات ويدحض الشهوات ويبين لك آفات الطريق فتجتنبها, فاطلبه بضوابطه وأصوله وعليك بمشورة أهل العلم والصلاح وستلحظ تغيرا جميلا كلما ازددت من العلم. ويكفي أهل العلم شرف أن الله تعالى قرن شهادتهم بشهادته{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} آل عمران/18
فهي أعظم شهادة على أعظم مشهود. وقال أيضا:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فاطر/28
لأنهم كلما ازدادوا علما بربهم ازدادوا خشبة له سبحانه. فليكن لك معهم نصيب.
3- إذا فتح لك باب خير فاغتنمه وإياك والتكاسل أو التسويف؛ فإن من فتح الله له باب خير ولم يغتنم الفرصة ويسارع عاقبه الله بأن يغلقه دونه, فلو جاءتك فرصة لحفظ القرآن فاحفظ أو لصدقة فتصدق أو لمساعدة أحد فساعد وهكذا.
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون
قال خالد بن معدان: إذا فتح لأحدكم باب خير فليسرع فإنه لا يدري متى يغلف عنه[1].
4- اغتنم مواهبك وسخرها في طاعة الله وخدمة دينه والدعوة غليه واكتشف نفسك, فكل واحد – غالبا- ما تكون عنده موهبة أو هواية أو حرفة, فنمِّ ذلك واستشر أهل الخبرة فإن الله ميزك بهذه النعمة فاشكره عليها بأن تجعلها لله وفي الله فإن هذا هو التميز والنجاح.
5- إياك و التنطع في دين الله ولا تظن أنه بسبب ذنوبك السالفة تشدد على نفسك وتلزمها بما لا تطيق, بل تدرج في العبادات حتى يقوى ساعدك ويشتد عودك - فمثلا – بالأمس لم تكن تعرف قيام الليل واليوم تريد أن تقومه كله أو نصفه, لا, فإن هذا غالبا يؤدي إلى الفتور والملل ثم ترك العمل فعليك إذن بالرفق والقصد والتدرج واتباع هدي الرسول عليه الصلاة والسلام.
6- وقي المقابل لا تغرق نفسك في المباحات؛ فإن الإفراط في المباح قد يؤدي إلى الحرام, وفيه كذلك مشغلة للقلب عما خلق له من التعرف على دين الله والتفكير والتدبر. والمقصود من المباح هنا الأمور الدنيوية كالمبالغة في تأثيث المنازل والإفراط في الأمور التي ليس في تركها ضرر فإن هذا أمر مذموم, والدنيا عمرها قصير فكيف بعمرك أنت غي الدنيا؟فخذ من الدنيا ما يعينك على طاعة الله.
7-جدد حياتك وغير ألفاظك إلى الأحسن وتفكر في ملكوت الله وليكن نظرك نظر اعتبار وصمتك صمت فكر ونطقك نطق حكمة, تأمل في آيات الله وفي عجائب صنع الله, انطلق بروحك في خلق السماء والأرض وفي البر والبحر وفي كل شيء فإن هذا يزيد الإيمان بالله بل إن هذه الصفة – صفة التفكر – من صفات عباد الله أصحاب العقول يقول ربك:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} آل عمران
8- - ابتعد عن مواقع الفتن كالأسواق والشواطئ والملاهي وغيرها . وقد تقول : هل معنى هذا أن أحبس نفسي؟! لا, لا تحبس نفسك ولكن لأنك ما زلت في أول توبتك فإنك بحاجة إلى الحمية عن مثل ذلك واستبدلها بخير منها كالمساجد وهي أحب البقاع إلى الله, وكذلك المنتديات الثقافية والمخيمات الدعوية والمراكز الصيفية ودور التحفيظ وغيرها.
المهم لا تعرض نفسك للفتن, وعليك بمجالس الذكر فإن الله أوصى نبيه بالصبر على مجالسة أهل ذكره فقال تعالى:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } الكهف/28
فمجالسة الأخيار تحتاج إلى مجاهدة وصبر لأن النفس تنازع إلى الدنيا فإذا ألجمها صاحبه بالصبر لانت وانقادت, وإذا تركها وما تهوى ضاع وقته وانفرط أمره. والله المستعان.
قال ابن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت[2].
9- لا تكثر من ثلاثة أشياء: من الطعام, فخذ منه ما يكفيك؛ لأن الإكثار منه يوسع مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان, ومن طريف ما يذكر هنا أن مسلمة ابن عبد الملك قال لملك الروم: من تعدون الأحمق فيكم؟ قال: الذي يملأ بطنه من كل ما وجد. ولا تكثر من النوم لأنه يورث الكسل قال عمر
:من كثر نومه لم يجد في عمره بركة. ولا تكثر من الكلام في غير ذكر الله وما لابد لك منه. قال عطاء – وهو من التابعين – :إن من كان قبلكم يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله أو امر بمعروف ونهي عن المنكر أو أن تنطق في معيشتك التي لابد لك منها,أتنكرون أن عليكم حافظين كراما كاتبين؟ أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفة يومه التي ألا صدر نهاره وليس فيها شيء من أمر آخرته؟![3].
فالإكثار المفرط من هذه الثلاث آفة عظيمة تسبب قسوة القلب ومن كان له أدنى حس سيشعر بذلك.
10- أيها التائب اثبت ثبات الجبال على قوة البلاء, قال ابن القيم: كل تائب لابد له في أول توبته من عصرة وضغطة في قلبه من هم أو غم أو ضيق أو حزن ولو لم يكن إلا تألمه بفراق محبوبه فينعصر قلبه ويضيق صدره. فأكثر الخلق رجعوا من التوبة ونكسوا على رؤوسهم لأجل هذه المحبة – أي محبة المعصية – والموفق يعلم أن الفرحة والسرور واللذة الحاصلة عقب التوبة تكون على قدر هذه العصرة وإذا صبر على هذه قليلا أفضت به إلى رياض الأنس وجنات الانشراح وإن لم يصبر لها انقلب على وجهه والله الموفق لا إله عيره ولا رب سواه[4].
وهذا لا ينافي قوله تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } النحل/97
فالوصول إلى الحياة الطيبة يتطلب المزيد من الاجتهاد والصبر, وكل ما يواجه العبد المؤمن من ابتلاء فهو امتحان لإيمانه وصدقه{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) } العنكبوت
11- لا تستعجل حلاوة الإيمان ولذة الطاعة؛ فإن عندك من آثار الذنوب ما يقتضي أن تحرم ذلك, فلابد من تفريغ القبل مما علق به حتى يتمكن الإيمان منه.
وسيأتي مزيد بسط عن حقيقة حلاوة الإيمان في فصل لاحق إن شاء الله.
12- أيها السائر إلى ربه لا تمل ولا تضجر من طول الطريق فما هو إلا صبر ساعة وتقوم الساعة, وما عمرك إلا أيام محدودة وأنفاس معدودة وتنتهي الرحلة بفوز عظيم.
قال ابن القيم: قال بعض السلف: عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين, وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق واحرص على اللحاق بهم وغض الطرف عمن سواهم فلن يغنوا عنك من الله شيئا[5].
13- إن من أفضل ما تشغل به وقتك القراءة النافعة, فبها تنتقل من زمان إلى آخر ومن مكان إلى غيره وتزداد معلوماتك ويتفتق ذهنك وينشرح صدرك ويقوى فهمك فالكتاب له شأن ليس لغيره, تصحبه معك أنى شئت خفيف المحمل غزير المعنى قال الشاعر:
نعم المؤانس والجليس كتاب تخلو به إن ملك الأصحاب
لا مفشيا سرا ولا متكبرا وتفاد منه حكمة وصواب
14- وعليك أيضا بإذاعة القرآن فهي – والله – خير منبر للتزود من العلم والفوائد والدروس, ولقد سمعت الشيخ ابن باز – رحمه الله – يوصي كثيرا بسماعها والحرص على ذلك. ففيها كل ما يحتاجه المسلم من التفسير وشروح الأحاديث ودروس العقيدة والفتاوى وفوائد أخرى عظيمة النفع جدا.
15- أيها التائب افرح بتوبتك فلا أحد احق بالفرح منك وما لك لا تفرح وربك يقول:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } يونس/58
قال السعدي – رحمه الله – :
وإنما أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته، لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى، وقوتها، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما، وهذا فرح محمود، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها، أو الفرح بالباطل، فإن هذا مذموم... إلخ[6].
نهاية كل مخلوق الفناء, إذاً ليكن ذكر الموت منك على بال, وليس المفصود بذكر الموت هو تذكر سكراته و أهواله و البكاء عند ذلك فقط, بل المقصود الذكر الذي يدفع إلى العمل الصالح والازدياد منه هذا هو الذكر النافع. وذكر الموت لا يعجله ونسيان ذكره لا يؤجله فلا تتكدر من ذكر الموت إن كنت مستعدا له,
كتب عمر بن عبدالعزيز إلى رجل: إنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك ونهارك بغّض إليك كل فان وحبب إليك كل باق والسلام[7].
[1] - سير أعلام النبلاء ج/4 ص 54
[2] - سير أعلام النبلاء ج /5 ص 355
[3] - سير أعلام النبلاء ج/5 ص 86
[4] - باختصار, طريق الهجرتين ص 235
[5] - مدارج السالكين ج/1 ص 29
[6] - تفسير السعدي
[7] - - سير أعلام النبلاء ج/5 ص 132