(1) نصوص السنة صريحة أن عائشة ا كانت في حج وعمرة لا في حج مفرد، وصريحة في أن القارن يكفيه طواف واحد، وسعي واحد، وصريحة في أنها لم ترفض إحرام العمرة؛ بل بقيت في إحرامها كما هي لم تحل منه، وفي بعض ألفاظ الحديث: (كوني في عمرتك فعسى الله أن يرزقكيها)([1])، ولا يناقض هذا قوله: (دعي عمرتك)([2])، فلو كان المراد به رفضها وتركها لما قال: (يسعك طوافك لحجك وعمرتك)، فعُلم أن المراد: دعي أعمالها، وليس المراد به رفض إحرامها.(168) (2)أما قوله : (انقضي رأسك وامتشطي)، فهذا مما أعضل على الناس، ولهم فيه أربعة مسالك: المسلك الأول: أنه دليل على رفض العمرة، كما قالت الحنفية. المسلك الثاني: أنه دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه، ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ولا تحريمه. المسلك الثالث: تعليل هذه اللفظة وردها بأن عروة انفرد بها وخالف بها سائر الرواة، وقد روى حديثها طاوس، والقاسم، والأسود وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة. قالوا: وقد روى حماد بن زيد، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة حديث حيضها في الحج، فقال فيه: حدثني غير واحد أن رسول الله قال لها: (دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي..) وذكر تمام الحديث، قالوا: فهذا يدل على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة ا. المسلك الرابع: أن قوله: (دعي العمرة)، أي: دعيها بحالها لا تخرجي منها.(169) (3) الصواب أن عائشة ا أحرمت بعمرة مفردة.(170) (4) للناس في العمرة التي أتت بها عائشة ا من التنعيم أربعة مسالك: المسلك الأول: أنها كانت زيادة تطييبًا لقلبها وجبرًا لها، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حجها وعمرتها، وكانت متمتعة، ثم أدخلت الحج على العمرة فصارت قارنة، وهذا أصح الأقوال، والأحاديث لا تدل على غيره. المسلك الثاني: أنها لما حاضت أمرها أن ترفض عمرتها، وتنتقل عنها إلى حج مفرد، فلما حلت من الحج أمرها أن تعتمر قضاء لعمرتها التي أحرمت بها أولاً. المسلك الثالث: أنها لما قرنت لم يكن بد من أن تأتي بعمرة مفردة؛ لأن عمرة القارن لا تجزىء عن عمرة الإسلام. المسلك الرابع: أنها كانت مفردة، وإنما امتنعت من طواف القدوم لأجل الحيض، واستمرت على الإفراد حتى طهرت وقضت الحج، وهذه العمرة هي عمرة الإسلام، ولا يخفى ما في هذا المسلك من الضعف، بل هو أضعف المسالك في الحديث.(174) (5) حديث عائشة هذا يؤخذ منه أصول عظيمة من أصول المناسك: أحدها: اكتفاء القارن بطواف واحد وسعي واحد. الثاني: سقوط الطواف عن الحائض، كما أن حديث صفية زوج النبي أصل في سقوط طواف الوداع عنها. الثالث: أن إدخال الحج على العمرة للحائض جائز كما يجوز للطاهر وأولى؛ لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك. الرابع: أن الحائض تفعل أفعال الحج كلها، إلا أنها لا تطوف بالبيت. الخامس: أن التنعيم من الحل. السادس: جواز عمرتين في سنة واحدة، بل في شهر واحد. السابع: أن المشروع في حق المتمتع إذا لم يأمن الفوات أن يدخل الحج على العمرة، وحديث عائشة أصل فيه.(175) (6) حاضت عائشة ا بسرف بلا ريب، واختلف في موضع طهرها، فقيل: بعرفة، هكذا روى مجاهد عنها، واتفق القاسم وعروة على أنها كانت يوم عرفة حائضًا، وأنها طهرت يوم النحر، وهما أقرب الناس منها.(176) (7) روى عنه الأمر بفسخ الحج إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه، وأحاديثهم كلها صحاح؛ وهم: عائشة وحفصة أما المؤمنين، وعلي بن أبي طالب، وفاطمة بنت رسول الله ، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، والبراء بن عازب، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وسبرة بن معبد الجهني، وسراقة بن مالك المدلجي .(178) (8) عمر لم ينه عن المتعة ألبتة، وإنما قال: (إن أتم لحجكم وعمرتكم أن تفصلوا بينهما)([3])، فاختار عمر لهم أفضل الأمور، وهو إفراد كل واحد منهما بسفر ينشئه له من بلده، وهذا أفضل من القران والتمتع الخاص بدون سفرة أخرى.(209) (9) أما قول من قال: إن التمتع نسك مجبور بالهدي، فكلام باطل من وجوه: أحدها: أن الهدي في التمتع عبادة مقصودة، وهو من تمام النسك، وهو دم شكران لا دم جبران، فإنه ما تقرب إلى الله في ذلك اليوم بمثل إراقة دم سائل. الوجه الثاني: أنه لو كان دم جبران لما جاز الأكل منه، وقد ثبت عن النبي أنه أكل من هديه. الوجه الثالث: أن سبب الجبران محظورٌ في الأصل، فلا يجوز الإقدام عليه إلا لعذر، فإنه إما ترك واجب أو فعل محظور، والتمتع مأمور به، إما أمر إيجاب عند طائفة كابن عباس وغيره، أو أمر استحباب عند الأكثرين، فلو كان دمه دم جبران لم يجز الإقدام على سببه بغير عذر، فبطل قولهم: إنه دم جُـبران، وعلم أنه دم نسك.(220) (10) قال تعالى: ((فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)) [الحج]، ههنا والله أعلم أمر النبي من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر، امتثالاً لأمر ربه بالأكل؛ ليعم به جميع هديه.(222) (11) ذكر الطبراني أنه كان إذا نظر إلى البيت قال: (اللهم زد بيتك هذا تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً)([4])، وروي عنه أنه كان عند رؤيته يرفع يديه ويكبر ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً، وزد من حجه أو اعتمره تكريمًا وتشريفًا وتعظيمًا وبرًا)([5])، وهو مرسل، ولكن سمع هذا سعيد بن المسيب من عمر بن الخطاب يقوله([6]).(224) (12) لما دخل النبي المسجد عمد إلى البيت، ولم يركع تحية المسجد؛ فإن تحية المسجد الحرام الطواف، فلما حاذى الحجر الأسود استلمه، ولم يزاحم عليه، ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني، ولم يرفع يديه.(225) (13) لم يقل النبي : نويت بطوافي هذا الأسبوع([7]) كذا وكذا، ولا افتتحه بالتكبير كما يفعله من لا علم عنده، بل هو من البدع المنكرات.(225) (14) لم يحاذ النبي الحجر الأسود بجميع بدنه ثم انفتل عنه وجعله على شقه، بل استقبله واستلمه، ثم أخذ عن يمينه وجعل البيت عن يساره.(225) (15) لم يدع عند الباب بدعاء، ولا تحت الميزاب، ولا عند ظهر الكعبة وأركانها، ولا وقَّت للطواف ذكرًا معينًا، لا بفعله ولا بتعليمه؛ بل حفظ عنه بين الركنين: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) [البقرة].(225) (16) رمل النبي في طوافه الثلاثة الأشواط الأول، وكان يسرع في مشيه ويقارب بين خطاه، واضطبع بردائه، فجعل طرفيه على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه.(225) (17) كلما حاذى النبي الحجر الأسود أشار إليه، أو استلمه بمحجنه وقبل المحجن. والمحجن عصا محنية الرأس.(225) (18) ثبت عنه أنه استلم الركن اليماني، ولم يثبت عنه أنه قبله، ولا قبل يده عند استلامه.(225) (19) روى الدارقطني عن ابن عباس: (كان رسول الله يقبل الركن اليماني، ويضع خده عليه)([8])، وفيه عبد الله بن مسلم بن هرمز، قال الإمام أحمد: صالح الحديث، وضعفه غيره ([9])، ولكن المراد بالركن اليماني هاهنا الحجر الأسود.(225) (20) لما انتهى من الطواف صلى ركعتين عند المقام، فلما فرغ من صلاته أقبل إلى الحجر الأسود.(227) (21) روي عند مسلم روايتان: إحداهما تدل على أنه سعى راكبًا، والأخرى على أنه سعى ماشيًا([10])، قال ابن حزم: لا تعارض بينهما؛ لأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب كله، وانصبت قدماه أيضًا مع سائر جسده. وعندي في الجمع بينهما وجه آخر أحسن من هذا: وهو أنه سعى ماشيًا أولاً، ثم أتم سعيه راكبًا.(228) (22) أما طوافه بالبيت عند قدومه فاختلف فيه: هل كان على قدميه أو كان راكبـًا؟ فذكرت عائشة ا أنه طاف على بعيره([11])، وحكى جابر أنه رمل، والرمل لا يكون إلا ماشيًا، وقول عائشة -والله أعلم- في طواف الإفاضة.(229) ([1]) رواه البخاري (1788)، ومسلم (1211). ([2]) رواه البخاري (1786). ([3]) رواه البيهقي (7/206)، ورواه مسلم (2135) بلفظ: (فافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم). ([4]) قال الألباني في السلسلة الضعيفة (4215): موضوع. ([5]) رواه الطبراني في الكبير (3/181)، والأوسط (6/183)، وإسناده لا يصح، انظر المجمع (3/238). ([6]) رواه البيهقي (5/73) عن عمر، وفي إسناده حميد بن يعقوب، وثقه ابن حبان، ولم يعرفه يحيى ابن معين، وقال المحقق: سنده حسن. ([7]) هذا الأسبوع أي: طواف هذه الأشواط السبعة. ([8]) رواه الدارقطني (2/290)، وإسناده ضعيف، انظر المجمع (3/241). ([9]) قال الحافظ في التهذيب: قال أحمد: ضعيف، ليس بشيء (2/432)، وقال يحيى بن معين: عبد الله بن مسلم بن هرمز ضعيف.(5/164)، وقال ابن المبرد: عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي ضعفه أحمد. وقال أيضًا: عبد الله بن مسلم بن هرمز قال أحمد: صالح الحديث. بحر الدم (ص:90)، ولم أقف -على قلة اطلاعي- على من سمي بعبد الله بن مسلم بن هرمز إلا المكي فقط، ولعلهما مختلفين. ([10]) رواه مسلم (1218). ([11]) رواه مسلم (1274).