
موقع هذه الجملة موقع التعليل والتدليل على عظيم قدرة الله وبديع صنعه ، وعلى لطفه بالمخلوقات ، فإنه لما ذكر موهبة العقل والحواس التي بها تحصيل المنافع ، ودفع الأضرار نبه الناس إلى لطف يشاهدونه أجلى مشاهدة لأضعف الحيوان ، بأن تسخير الجو للطير وخلقها صالحة لأن ترفرف فيه بدون تعليم هو لطف بها اقتضاه ضعف بنياتها ؛ إذ كانت عادمة وسائل الدفاع عن حياتها ، فجعل الله لها سرعة الانتقال مع الابتعاد عن تناول ما يعدو عليها من البشر والدواب .
والجو : الفضاء الذي بين الأرض والسماء ، وإضافته إلى السماء ; لأنه يبدو متصلا بالقبة الزرقاء في ما يخال الناظر
والإمساك : الشد عن التفلت ، وتقدم في قوله تعالى فإمساك بمعروف في سورة البقرة
[ ص: 235 ] والمراد هنا : ما يمسكهن عن السقوط إلى الأرض من دون إرادتها ، وإمساك الله إياها خلقه الأجنحة لها والأذناب ، وجعله الأجنحة والأذناب قابلة للبسط ، وخلق عظامها أخف من عظام الدواب بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها ونهضت بأعصابها خفت خفة شديدة ; فسبحت في الهواء فلا يصلح ثقلها لأن يخرق ما تحتها من الهواء ، إلا إذا قبضت من أجنحتها وأذنابها وقوست أعصاب أصلابها عند إرادتها النزول إلى الأرض أو الانخفاض في الهواء ، فهي تحوم في الهواء كيف شاءت ثم تقع متى شاءت أو عييت ، فلولا أن الله خلقها على تلك الحالة لما استمسكت ، فسمي ذلك إمساكا على وجه الاستعارة ، وهو لطف بها .
والرؤية : بصرية ، وفعلها يتعدى بنفسه ، فتعديته بحرف ( إلى ) لتضمين الفعل معنى ( ينظروا ) .
وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وخلف ( ألم تروا ) بتاء الخطاب تبعا للخطاب المذكور .
والاستفهام إنكاري ، معناه : إنكار انتفاء رؤيتهم الطير مسخرات في الجو بتنزيل رؤيتهم إياها منزلة عدم الرؤية ; لانعدام فائدة الرؤية من إدراك ما يدل عليه المرئي من انفراد الله تعالى بالإلهية .
وجملة إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون مستأنفة استئنافا بيانيا ; لأن الإنكار على المشركين عدم الانتفاع بما يرونه من الدلائل يثير سؤالا في نفس السامع : أكان عدم الانتفاع بدلالة رؤية الطير عاما في البشر ، فيجاب بأن المؤمنين يستدلون من ذلك بدلالات كثيرة .
[ ص: 236 ] والتأكيد بـ ( إن ) مناسب لاستفهام الإنكار على الذين لم يروا تلك الآيات ، فأكدت الجملة الدالة على انتفاع المؤمنين بتلك الدلالة ; لأن الكلام موجه للذين لم يهتدوا بتلك الدلالة ، فهم بمنزلة من ينكر أن في ذلك دلالة للمؤمنين ; لأن المشركين ينظرون بمرآة أنفسهم .
وبين الإنكار عليهم عدم رؤيتهم تسخير الطير ، وبين إثبات رؤية المؤمنين محسن الطباق . وبين نفي عدم رؤية المشركين ، وتأكيد إثبات رؤية المؤمنين لذلك محسن الطباق أيضا ، وبين ضمير يروا وقوله قوم يؤمنون التضاد أيضا ، فحصل الطباق ثلاث مرات ، وهذا أبلغ طباق جاء محويا للبيان .
وجمع الآيات ; لأن في الطير دلائل مختلفة : من خلقة الهواء ، وخلقة أجساد الطير مناسبة للطيران في الهواء . وخلق الإلهام للطير بأن يسبح في الجو ، وبأن لا يسقط إلى الأرض إلا بإرادته ، وخصت الآيات بالمؤمنين ; لأنهم بخلق الإيمان قد ألفوا إعمال تفكيرهم في الاستدلال على حقائق الأشياء ، بخلاف أهل الكفر فإن خلق الكفر مطبوع على النفرة من الاقتداء بالناصحين وعلى مكابرة الحق