تابع 2/2 فصل في البحار والأنهار
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ } [السجدة: 27] .
ثم يجاوز النيل مصر قليلًا، فيفترق شطرين عند قرية على شاطئه، يقال لها: شطنوف، فيمر الغربي على رشيد، ويصب في البحر المالح.
وأما الشرقي: فتفترق أيضًا عند جوجر فرقتين، تمر الغربية منهما على دمياط من غربيها، ويصب في البحر. والشرقية منهما تمر على أشمون طناح، فيصب هناك في بحيرة شرقي دمياط، يقال لها بحيرة تنيس، وبحيرة دمياط.
وهذا بعد عظيم فيما بين مبتداه إلى منتهاه. ولهذا كان ألطف المياه.
قال ابن سينا: له خصوصيات دون مياه سائر الأرض.
فمنها: أنه أبعدها مسافة من مجراه إلى أقصاه.
ومنها: أنه يجري على صخور ورمال، ليس فيه خز، ولا طحلب، ولا أوحال.
ومنها: أنه لا يخضر فيه حجر، ولا حصاة، وما ذاك إلا لصحة مزاجه، وحلاوته، ولطافته.
ومنها: أن زيادته في أيام نقصان سائر الأنهار، ونقصانه في أيام زيادتها وكثرتها.
وأما ما يذكره بعضهم من أن أصل منبع النيل من مكان مرتفع، اطلع عليه بعض الناس، فرأى هناك هولًا عظيمًا، وجواري حسانًا، وأشياء غريبة، وأن الذي اطلع على ذلك، لا يمكنه الكلام بعد هذا، فهو من خرافات المؤرخين، وهذيانات الأفاكين.
وقد قال عبدالله بن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عمن حدثه قال: لما فتح عمرو بن عاص مصر، أتى أهلها إليه، حين دخل شهر بؤنة من أشهر العجم القبطية، فقالوا: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة، لا يجري إلا بها.
فقال لهم: وما ذاك؟
قالوا: إذا كان لثنتي عشرة ليلة، خلت من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي، والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو:
إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا بؤنة، والنيل لا يجري لا قليلًا، ولا كثيرًا.
وفي رواية: فأقاموا بؤنة، وأبيب، ومسرى، وهو لا يجري، حتى هموا بالجلاء.
فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني قد بعثت إليك بطاقة، داخل كتابي هذا، فألقها في النيل.
فلما قدِمَ كتابه، أخذ عمرو البطاقة، ففتحها، فإذا فيها: من عبد الله عمر، أمير المؤمنين، إلى نيل مصر، أما بعد:
فإن كنت تجري من قبلك، فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله أن يجريك.
فألقى عمرو البطاقة في النيل، فأصبح يوم السبت. وقد أجرى الله النيل، ستة عشر ذراعًا، في ليلة واحدة، وقطع الله تلك السنة، عن أهل مصر إلى اليوم.
وأما الفرات: فأصلها من شمالي أررن الروم، فتمر إلى قرب ملطيه، ثم تمر على شميشاط، ثم على البيرة قبليها، ثم تشرق إلى بالس، وقلعة جعبر، ثم الرقة، ثم إلى الرحبة شماليها، ثم إلى عانة، ثم إلى هيت، ثم إلى الكوفة، ثم تخرج إلى فضاء العراق، ويصب في بطائح كبار، أي بحيرات وترد إليها، ويخرج منها أنهار كبار معروفة.
وأما سيحان: ويقال له سيحون أيضًا، فأوله من بلاد الروم، ويجري من الشمال، والغرب، إلى الجنوب، والشرق، وهو غربي مجرى جيحان ودونه في القدر، وهو ببلاد الأرض التي تعرف اليوم ببلاد سيس، وقد كانت في أول الدولة الإسلامية في أيدي المسلمين.
فلما تغلب الفاطميون على الديار المصرية، وملكوا الشام وأعمالها، عجزوا عن صونها عن الأعداء، فتغلب تقفور الأرمني على هذه البلاد، أعني بلاد سيس، في حدود الثلاثمائة، وإلى يومنا هذا. والله المسؤول عودها إلينا بحوله وقوته.
ثم يجتمع سيحان وجيحان عند أذنه فيصيران نهرًا واحدًا. ثم يصبان في بحر الروم بين أياس، وطرسوس.
وأما جيحان: ويقال له جيحون أيضًا، وتسميه العامة جاهان. وأصله في بلاد الروم، ويسير في بلاد سيس، من الشمال إلى الجنوب، وهو يقارب الفرات في القدر، ثم يجتمع هو وسيحان عند أذنة، فيصيران نهرًا واحدًا، ثم يصبان في البحر عند اياس، وطرسوس، والله أعلم.