*ـــ المحور السادس ، ما جرى وقع بقضاء وقدر : إننا على يقين بأن ما جرى ويجري هو بتقدير وعلم الله سبحانه وتعالى {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } ، { يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون} . كل ما جرى قد وقع بقضاء و قدر {ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } . كل شيء بقضاء و قدر و الليالي عبر أي عبر هي المقادير فلمني أو فذر تجري المقادير على غرز الإبر هذه الأحداث تقع لحكم عظيمة : إما ابتلاءً ، أو عقوبة، أو إبدالاً لقوم بآخرين ، أو جرياناً على سنة الله في جعل الأيام مداولة بين الناس. ـــ هذه الأحداث لا تعني السلبية والانطواء والخوف ، بل تفرض الإيجابية في التفكير والتخطيط والمشاركة والعمل.وحري بأهل العلم والدعاة بأن يعو جيداً هذا المنطلق فالمسألة ليست عواطف, ولا مواقف للتسابق، وهذه المرحلة ليست كسابقتها وفي التاريخ عبرة. ـــ هذه الأحداث تتطلب الرجوع الصادق إلى الله تعالى، أفرادًا أو مؤسسات ودولاً، هذا الرجوع الذي يتمثل بتصحيح الاعتقاد به سبحانه، والعمل بشرعه في جميع مناحي الحياة، والتواصي بذلك، والتعاون عليه، وإدراك أن السلامة والنجاة، والرقي والتقدم، مرهون بتنفيذ أوامر الله عز وجل ، والانتهاء عن نواهيه، والوقوف عند حدوده . ـــ ما لم تتجه الأنظمة نحو القيم العليا، والعدل، وإعطاء الحقوق، وتجنب الظلم والاعتداء على حقوق الناس وأموالهم، والنظر إلى المصالح العليا على حساب المصالح الخاصة والذاتية والفردية والحزبية، فإن النتيجة واحدة، من استمرار السلبيات , وتفاقم المشكلات. ـــ لا بد من الوعي بما ذكره الله سبحانه وتعالى من تربص أعداء الإسلام والمسلمين بالمسلمين وإن بدت نواجذهم بالضحك ، ويتبع ذلك دراسة أحوالهم وخططهم وحيلهم ضد الإسلام وأهله ، لكن هذا لا يعني عدم التعامل مع الأعداء بل يجب أن يتعامل معهم وفق المنهج الشرعي القائم على الحسنى، لكن هذه الحسنى تفرض ذلك الوعي المنشود. ـــ هذه المظاهرات التي نراها في العالم الإسلامي اليوم تؤكد حقيقة فكرية مهمة وهي فشل التيارات الفكرية العلمانية التي توصلت إلى الحكم بعد خروج الاستعمار المباشر من البلاد الإسلامية، لقد فشلت هذه التيارات الفكرية عندما أقصت الشريعة الإسلامية عن الحكم، وألزمت الأمة بقوانين وأنظمة تناقض دينها وهويتها، وعندما استولت زمرة من الفاسدين على الحكم واحتكروا السلطة، ونفذوا أجندة الدول الاستعمارية، وساروا ببلادهم على خلاف مصالحها الحقيقية، ونهبوا ثروات الشعوب، وجوعوا وأفقروا وأذلوا وأهانوا وحطموا واحتقروا وسرقوا شعوبهم :خدمة لأعدائهم، وتحقيقاً لشهواتهم الخاصة. هذه الثورات هي ثورة على العلمانية والمشروع التغريبي والفاسدين والمستبدين الظلمة، والسارقين لأقوات الفقراء، والناهبين لحقوقهم، والمحتقرين لشعوبهم، والخونة الذين ينسقون مع الأعداء ضد مصالح أهليهم وبلدانهم. *ـــ المحور السابع ، الهجرة النبوية : إن استقبالنا لعام هجري جديد يذكرنا بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم " أن بعثه الله والضلال قد خيم على أهل الأرض وقد مقتهم الله عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، بعثه والناس يعبدون الحجارة والخشب والأولياء ويعيشون على السلب والنهب والقتال فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فهدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة وبصَّر به من العمى وقام بأداء رسالة ربه خير قيام فبشر وأنذر، وصدع بأمر الله تعالى وجهر ، وجعل المشركون يسخرون منه ويستهزؤن به ويؤذونه أشد الأذى ويعذبون من آمن به ليردوهم عن دينهم وكان عمه أبو طالب يحميه من أذى قومه وكانت زوجته خديجة رضي الله عنها تؤنسه وتعينه واشتد أذى قومه له ولمن آمن به ومات عمه أبو طالب وزوجه خديجة ا فاشتد حزنه وتطاول عليه المشركون وقويت عليه الكربة وضاق به الحال فقيض الله له الأنصار من أهل المدينة والتقوا به في موسم الحج وآمنوا به وبايعوه على أن يمنعوه إذا قدم إليهم في المدينة مما يمنعون منه نسائهم وأولادهم ، وبعد البيعة أذِن الله له بالهجرة فهاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول بعد ثلاث عشرة سنة من بعثته وبصحبته أبو بكر رضي الله عنه فاستقبله الأنصار ومنعه الله بهم من أذى الكفرة والمشركين وأسس الدولة الإسلامية ، وما هي إلا أعوام قليلة حتى فتح الله له مكة فدخلها فاتحاً منصوراً تحيط به جيوش التوحيد وكتائب الإسلام ثم دانت له عرب الجزيرة وتوطد فيها حكم الإسلام وعبد الله وحده لا شريك له " . ( الخطب المنبرية للفوزان 117 ــ 118 بتصرف ) . *ـــ المحور الثامن ، وقفات مع حادثة الهجرة : هذه الحادثة " تمد المسلمين بالعبر والعظات والدروس والتوجيهات ، وقد شاء الله تعالى أن تكون بأسباب مألوفة للبشر، فقد تزود فيها النبي صلى الله عليه وسلم للسفر وركب الناقة واستأجر الدليل ولو شاء الله لحمله على البراق ولكن ليكون قدوة لأمته من بعده . وإن حال المسلمين اليوم يوجب الاستفادة من معاني الهجرة النبوية ، فلن يصلح حال المسلمين في هذا العصر إلا بما صلح به أولها من الإيمان الحق بالله والتوحيد الخالص والتمسك بكريم الأخلاق والصدق مع الله والتوكل عليه والصبر على المكاره وإحسان العبادة وفق ما جاء في السنة المطهرة ، وبذل الغالي والنفيس نصرة لدين الله تعالى. ومن فاته ثواب الهجرة إلى الله ورسوله زمن النبوة فقد شرع الله له هجرة من نوع آخر فيها ثواب عظيم وأجر جزيل " إنها هجرة الذنوب والمعاصي ، فاهجر المعصية وهاجر إلى الطاعة واهجر التفريط وهاجر إلى الاستقامة، واهجر التمرد والآثام إلى الانقياد والاستسلام، وهاجر بقلبك من الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها إلى الدار الآخرة والرغبة فيها ، قال صلى الله عليه وسلم :" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". اهجر الكسل وطول الأمل إلى الجد والاجتهاد في طاعة الله وخاصة في هذه الأيام التي كثرت فيها الفتن ، قال صلى الله عليه وسلم:"عبادة في الهرج ــ أي زمن الفتن ــ كهجرة إلي" . رواه مسلم . *ـــ المحور التاسع ، التأريخ الهجري : لكل أمة تأريخاً وتقويماً تتمسك به ، فلليهود تأريخهم وللنصارى تأريخهم وللصينيين كذلك ... وقد كان ابتداء تـأريخ أمة محمد : التأريخ الهجري منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين ورده خطاب من أبي موسى الأشعري أنه يأتينا منك كتب ليس لها تأريخ ، فجمع الناس في سنة ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة فاستشارهم من أين يبدأ التأريخ ؟ : فقال بعضهم يبدأ من مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم يبدأ من بعثته ، وقال بعضهم يبدأ من هجرته ، وقال بعضهم يبدأ من وفاته ولكنه رجّح أن يبدأ من الهجرة لأن الله فرق بها بين الحق والباطل وقام فيها كيان مستقل للمسلمين فاتفق فيها ابتداء الزمان والمكان ، ثم إن الصحابة الذين جمعهم عمر أجمعين تشاوروا من أي شهر يبدأون السنة ؟ : فقال بعضهم من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة ، وقال بعضهم من رمضان لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن ، واتفق رأي عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام ويلي ذي الحجة الذي فيه أداء الناس حجهم الذي به تمام أركان الإسلام لأن الحج آخر ما فرض من الأركان الخمسة ، ثم إنه الشهر الذي بايع فيه النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار على الهجرة وتلك البيعة من مقدمات الهجرة فكان أولى الشهور بالأولية.( الضياء اللامع للعلامة العثيمين رحمه الله 307 بتصرف يسير ) . إلا أن أمة الإسلام في هذه الأزمنة لم تراعِ هذه المعاني وتهاونت في تأريخها، ففي كثير من بلدان المسلمين يعتمدون التأريخ الميلادي ، وهو تأريخ نصراني يرمز إلى يوم ولادة المسيح ، وما ذلك إلا مظهر من مظاهر انسلاخ الأمة من دينها ومسخ شخصيتها ووقوعها في الهزيمة النفسية التي سيطرت على المسلمين جماعات وأفراداً . يقول العلامة ابن عثيمين رفع الله درجاته في عليين :" إن من المؤسف حقاً أن يعدل المسلمون أكثرهم اليوم عن التأريخ الإسلامي الهجري إلى تأريخ النصارى الميلادي الذي لا يمت إلى دينهم بصلة ، ولئن كان لبعضهم شبهة من العذر حين استعمر بلادهم النصارى وأرغموهم على أن يتناسوا تأريخهم الإسلامي الهجري ، فليس لهم الآن أي عذر في البقاء على تأريخ النصارى الميلادي وقد أزال الله عنهم كابوس المستعمرين وظلمهم وغشهم ... " . ( الضياء 2 / 702 ) . إن اعتماد التأريخ الهجري ربط للأمة بدينها وعزها ومجدها ويجعلها في تواصل دائم مع معاني الهجرة العظيمة وما ترتب عليها من إقامة دولة الإسلام التي نشرت الإيمان والعدل في أرجاء العالم ، كما أنه عنوان تميز الأمة عن غيرها في شتى الميادين : في العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب ، فالتأريخ اليومي يبدأ من غروب الشمس والشهري من رؤية الهلال والسنوي من محرم ، وكل عبادات الأمة مرتبطة به كدخول شهر رمضان وذي الحجة والأعياد وغيرها ولا يمكن أن تستقيم هذه الشعائر إلا به .ولذا فإن استبداله بالتأريخ الميلادي يعني فقدان تميزها وذوبان هويتها وطغيان الهوية الغربية النصرانية عليها ، وهو اتباع لسنن الضالين ومن كبائر الذنوب ولهذا فقد نص العلماء على منعه . وإن كان لا بد من ذكر التأريخ الميلادي الذي أصبح تأريخاً عالمياً وارتبطت به كثيرٌ من مصالح المسلمين ، فليكن التأريخ بالهجري هو الأصل والمعتمد ، ويذكر إلى جنبه التأريخ الميلادي تيسيراً لهذه المصالح . إن العام الهجري " شهوره هلالية ، ذكرها الله في كتابه بقوله {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } . هذه الشهور جعلها الله مواقيت للعالم كله ، قال تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } مواقيت للناس كلهم ولا فرق بين عرب وعجم لأنها علامات محسوسة ظاهرة لكل أحد يعرف بها دخول الشهر وخروجه ، فمتى رؤي الهلال من أول الليل دخل شهر جديد وخرج الشهر السابق ، لا كالشهور الغربية الميلادية الوهمية التي لم تبنَ على مشروع ولا معقول ولا محسوس بل هي شهور اصطلاحية مختلفة بعضها واحد وثلاثون يوماً وبعضها ثلاثون وبعضها تسعة وعشرون أو ثمانية وعشرون ، ولا يعلم لهذا الاختلاف سبب حقيقي معقول أو محسوس ، ولهذا طُرِحت مشروعات في الآونة الأخيرة لتغيير هذه الأشهر على وجه منضبط لكنها عورضت من قبل رجال الكنيسة ، لا لسبب إلا لأنهم يعلمون ما يترتب على ذلك من إعاقة الهيمنة الثقافية الغربية النصرانية والتي يعتبر التأريخ الميلادي أحد أبرز رموزها ، وإن من البلاء أن يوجد في الأمة من يدعي العلم ويسكت بل ويقر تغيير التوقيت بالشهور الإسلامية بل العالمية التي جعلها الله لعباده إلى الشهور الإفرنجية . قيل للإمام أحمد رحمه الله إن للفرس أياماً وشهوراً يسمونها بأسماء لا تعرف فكره ذلك أشد الكراهة .( الضياء اللامع 2 / 702 بتصرف يسير ) . *ـــ المحور العاشر ، ليس من السنة الاحتفال بدخول العام الجديد أو تبادل التهاني ببلوغه : فليست الغبطة بكثرة السنين ، وإنما الغبطة بما أمضاه العبد في طاعة مولاه قال علي :" كل يوم لا تعصي الله فيه فهو عيد" . فكثرة السنين خير لمن أمضاها في طاعة ربه شر لمن أمضاها في معصيته ، وشر الناس من طال عمره وساء عمله ، فعلينا أن نستقبل أيامنا وشهورنا وأعوامنا بطاعة ربنا ومحاسبة أنفسنا وإصلاح ما فسد من أعمالنا ومراقبة من ولانا الله تعالى أمرهم من زوجات وبنين وبنات وأقارب ... فما قامت الدنيا إلا بقيام الدين ولا نال العز والكرمة والرفعة إلا من خضع لرب العالمين ولا دام الأمن والرخاء إلا باتباع منهج المرسلين ولئن استمرت زهرة الدنيا مع المعاصي والانحراف فإن ذلك استدراج يعقبه الإهلاك والإتلاف " . ( المصدر السابق بتصرف كبير ) . {فضيلة الشيخ : سعد البريــــك}