رابعًا: أن اعتياد التكلم باللغة العربية يؤثِّر في العقلِ والخلق والدين: يقول شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "اعلم أنَّ اعتياد اللغةِ يؤثر في العقلِ والخلقِ والدِّينِ تأثيرًا قويًّا بينًا، ويؤثر أيضًا في مشابهةِ صدرِ هذه الأمَّةِ من الصَّحابةِ والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقلَ والدينَ والخلقَ"[27]. وقال أيضًا: "معلومٌ أنَّ تعلمَ العربية وتعليمَ العربية فرضٌ على الكفاية، وكان السَّلفُ يؤدِّبون أولادَهم على اللَّحنِ، فنحن مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظَ القانون العربي، ونُصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنَّة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو تُرك النَّاسُ على لحنِهم، كان نقصًا وعيبًا"[28]. وقال أبو هلال العسكري: "فعلم العربية على ما تسمعُ من خاص ما يحتاجُ إليه الإنسانُ لجماله في دنياه، وكمال آلته في علومِ دينه"[29]، وقال الشَّافعي: "من نظر في النَّحو، رقَّ طبعُه"[30]. خامسًا: أنَّ اللغةَ العربية والمحافظة عليها من الدين، وهي خصيصة عظيمة لهذه الأمة: قال عمر بن الخطاب - -: "تعلَّموا العربيةَ؛ فإنَّها من دينِكم"[31]، وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية: "فإنَّ نفسَ اللغة العربية من الدِّين، ومعرفتها فرضٌ واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهمِ اللغة العربية، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، ثم منها ما هو واجبٌ على الأعيان، ومنها ما هو واجبٌ على الكفاية"[32]. ويقول السيوطي׃ "ولا شكَّ أنَّ علم اللغة من الدين؛ لأنه من الفروضِ الكفايات، وبه تُعرفُ معاني ألفاظ القرآن والسنة"[33]. وقال ابنُ فارس في "الصاحبي في فقهِ اللغةوسنن العرب في كلامها" "فلذلك قلنا: إنّ علم اللغة كالواجب عَلَى أهل العلم، لئلاَّ يحيدوا فِي تأليفهم، أَوْ فتياهم عن سَنن الاستواء، وكذلك الحاجة إِلَى علم العربية فإن الإعراب هو الفارق بَيْنَ المعاني؛ ألا ترى أن القائل إذا قال: "ما أحسن زيد" لَمْ يفرّق بَيْنَ التعجب والاستفهام والذمّ إِلاَّ بالأعراب؛ وكذلك إِذَا قال: "ضرب أخوك أخانا" و"وَجْهُك وجهُ حُرّ" و"وجهُك وجهٌ حرٌ" وَمَا أشْبَه ذَلِكَ من الكلام المشْتَبه"[34 سادسًا: أنَّ اللغة العربية مصدرُ عزٍّ للأمة: لا بد من النظرِ إلى اللغة العربية على أنها لغةُ القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولغةُ التشريع الإسلامي؛ بحيث يكون الاعتزازُ بها اعتزازًا بالإسلام، وتراثه الحضاري العظيم، فهي عنصرٌ أساسي من مقوماتِ الأمة الإسلامية والشخصية الإسلامية، والنظر إليها على أنها وعاء للمعرفةِ والثقافة بكلِّ جوانبها، ولا تكون مجردَ مادةٍ مستقلة بذاتها للدراسة؛ لأنَّ الأمَّةَ التي تهمل لغتَها أمةٌ تحتقر نفسَها، وتفرضُ على نفسِها التبعية الثقافية. يقول مصطفى صادق الرافعي - رحمه الله - مبينًا هذا: "ما ذلَّت لغةُ شعبٍ إلاَّ ذلَّ، ولا انحطَّت إلاَّ كان أمرُه في ذَهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرضُ الأجنبيُّ المستعمر لغتَه فرضًا على الأمَّةِ المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمتَه فيها، ويستلحِقهم من ناحيتِها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثةً في عملٍ واحدٍ؛ أمَّا الأول: فحَبْس لغتهم في لغته سجنًا مؤبَّدًا، وأمَّا الثاني: فالحكمُ على ماضيهم بالقتلِ محوًا ونسيانًا، وأمَّا الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلالِ التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ"[35]. وعلى هذا؛ ينبغي لمن يعرفُ العربيةَ ألا يتكلَّم بغيرِها، وكره الشافعي ذلك، وينبغي لمن دخل الإسلامَ من الأعاجمِ أن يتعلَّمَ العربية. سابعًا: أن الجهل باللغة من أسباب الزيغ: فالضعف في علومِ العربية سببُ ضلال كثير من المتفقِّهة؛ قال ابنُ جني: "إنَّ أكثر مَن ضلَّ من أهل الشريعة عن القصدِ فيها، وحاد عن الطريقةِ المثلى إليها، فإنما استهواه واستخفَّ حلمَه ضعفُه في هذه اللغةِ الكريمة الشريفة التي خُوطِب الكافَّةُ بها"[36]. وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد لما ناظره في مسألةِ خلود أهل الكبائر في النَّار، احتجَّ ابنُ عبيد أنَّ هذا وعْد الله، والله لا يخلفُ وعْدَه - يشير إلى ما في القرآنِ من الوعيد على بعضِ الكبائر بالنَّار والخلود فيها - فقال ابنُ العلاء: من العُجْمة أُتيتَ، هذا وعيدٌ لا وعد؛ قال الشاعر: وَإِنِّيوَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ لَمُخْلِفُ إِيعَادِيوَمُنْجِزُ مَوْعِدِي [37][38] ومن أمثلة التفاسير الخاطئة المبنية على الجهل بالعربية قول من زَعَم أنه يجوزُ للرجلِ نكاح تسع حرائر، مستدلاًّ بقوله - تعالى -: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ [النساء: 3]، فالمجموع تسع نسوة؛ قال الشاطبي: "ولم يشعر بمعنى فُعال ومفعل، وأنَّ معنى الآية: فانكحوا إن شئتم اثنتين اثنتين، أو ثلاثًا ثلاثًا، أو أربعًا أربعًا"[39]. ومن ذلك قول من قال: إنَّ المحرَّمَ من الخنزير إنما هو اللَّحم، وأمَّا الشَّحمُ فحلال؛ لأنَّ القرآن إنما حرَّمَ اللحم دون الشحم، ولو عرف أنَّ اللحم يُطلقُ على الشحمِ، بخلاف الشحم فلا يطلقُ على اللحمِ، لَمَا قال ما قال. ومن ذلك قول من قال في حديث: ((لا تسبُّوا الدَّهر؛ فإنَّ الله هو الدهر، يقلِّبُ الليلَ والنهار))[40]؛ بأنَّ فيه مذهب الدهرية، وهذا جهل، فإنَّ المعنى: لا تسبوا الدَّهرَ إذا أصابتكم مصائب، ولا تنسبوها إليه، فإنَّ الله هو الذي أصابكم، فإنكم إذا سببتم الدهرَ، وقع السبُّ على الفاعل لا على الدهر. قال الشاطبي - رحمه الله - بعد أن ذكرَ الأمثلة السابقة: "فقد ظهر بهذه الأمثلةِ كيف يقعُ الخطأ في العربيةِ في كلام الله - سبحانه - وسنة نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنَّ ذلك يؤدِّي إلى تحريفِ الكلم عن مواضعِه، والصحابة - رضوان الله عليهم - براءٌ من ذلك؛ لأنهم عربٌ لم يحتاجوا في فهمِ كلامِ الله - تعالى - إلى أدواتٍ ولا تعلم، ثم من جاء بعدهم ممن هو ليس بعربي اللسان تكلَّفَ ذلك حتى علمه"[41]. ولذا نجد أنَّ السلف ذموا اللحن في اللغة، وجعلوه قبيحًا، وخاصة لطالب العلم: فقد كثرت أقوالُ العلماء في ذمِّ اللحن؛ فعن أيوب السختياني - رحمه الله - أنه كان إذا لحن، قال: "أستغفرُ الله"[42]، وقال الأصمعي - رحمه الله -: "إنَّ أخوفَ ما أخاف على طالبِ العلم إذا لم يعرف النحوَ أن يدخلَ في جملة قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعدَه من النَّار))؛ لأنَّه لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه، كذبت عليه"[43]، وروى الخطيبُ البغدادي أنَّ عليًّا وابن عباس وابن عمر - - كانوا يضربون أبناءهم على اللَّحن. ونُقل عن الرحبي أنه قال: سمعتُ بعضَ أصحابنا يقول: إذا كتب لحَّان فكتب عن اللحان لحَّانٌ آخر، فكتب عن اللحانِ لحَّان آخر، صار الحديثُ بالفارسية"[44]. وقد سمع عمر - - رجلاً يتكلَّم في الطوافِ بالفارسية، فأخذ بِعَضُدِهِ وقال: "ابتغ إلى العربية سبيلاً"[45]، وقال عطاء: "رأى عمر رجلين وهما يَتَرَاطَنَان في الطوافِ، فعلاهما بالدِّرَّةِ، وقال: لا أُمَّ لكما، ابتغيا إلى العربية سبيلاً"[46]. وضرب علي - - الحسنَ والحسين على اللَّحن[47]، وكان ابن عمر - ا - يضربُ أولادَه على اللَّحن ولا يضربهم على الخطأ[48]. وقال ابنُ فارس: "لذلك قلنا: إنَّ علم اللغة كالواجبِ على أهل العلم؛ لئلا يحيدوا في تأليفِهم أو فتياهم عن سَنن الاستواء"[49]. وقال شيخُ الإسلامِ ابن تيمية - رحمه الله -: "ومن لم يعرفْ لغةَ الصحابةِ التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعادتهم في الكلام، وإلا حرف الكلم عن مواضِعه؛ فإن كثيرًا من الناس ينشأ على اصطلاحِ قومه وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظَ في كلامِ اللهِ أو رسوله أو الصحابة، فيظن أنَّ مرادَ الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريدُه بذلك أهلُ عادته واصطلاحه، ويكون مرادُ الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك"[50]. وقد تحسَّر ابنُ فارس - رحمه الله - على أهلِ وقته من غفلتِهم عن العلوم العربية، وانشغالِهم عنها؛ فقال - رحمه الله -: "وقد كان النَّاسُ قديمًا يجتنبون اللَّحنَ فيما يكتبونه أو يقرؤونه اجتنابهم بعض الذُّنوب، فأمَّا الآن فقد تجوَّزوا حتى إنَّ المحدثَ يحدِّثُ فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب، وإنما نحن محدِّثون وفقهاء، فهما يسران بما يساء به اللبيب"[51]. وقال العلامةُ الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله - في كتابِه القيِّم "حلية طالب العلم": "احذر اللَّحن؛ ابتعد عن اللحنِ في اللفظ والكتب؛ فإنَّ عدم اللحنِ جلالةٌ وصفاء ذوق، ووقوف على ملاح المعاني لسلامةِ المباني". وما أحسنَ ما قاله الشَّاعرُ عبدالرحمن العشماوي في وصفِ مَن يلحن في لفظِه: يُلْقِيعَلَى الْمَرْفُوعِ صَخْرَةَ جَهْلِهِ فَيَصِيرُ تَحْتَلِسَانِهِ مَجْرُورَا وَيَنَالُمِنْ لُغَةِ الْكِتَابِ تَذَمُّرًا مِنْهَا وَيَكْتُبُ فِيالْفَرَاغِ سُطُورَا وَرَأَيْتُمَبْهُورًا بِذَلِكَ كُلِّهِ فَرَحِمْتُ ذَاكَالْجَاهِلَ الْمَغْرُورَا وَعَلِمْتُأَنَّ الْعَقْلَ فِينَا قِسْمَةٌ وَاللهُ قَدَّرَ أَمْرَنَاتَقْدِيرَا