تفسير سورة النازعات
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 1: 14]. البسملة تقدم الكلام عليها. {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار تنزعها {غَرْقًا} أي نزعًا بشدة. {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين، تنشطها نشطًا: أي تسلها برفق كالأنشوطة، والأنشوطة: الربط الذي يسمونه عندنا (التكة) أو ما أشبه ذلك من الكلمات، يعني يكون ربطًا بحيث إذا سللت أحد الطرفين انفكت العقدة هذا ينحل بسرعة وبسهولة، فهؤلاء الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين تنشطها نشطًا أي: تسلها برفق، وسبب ذلك أن الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار إذا دعت الروح إلى الخروج تناديها بأقبح الأوصاف تقول الملائكة لروح الكافر: اخرجي أيتها النفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب الله، فتنفر الروح لا تريد أن تخرج إلى هذا، وتتفرق في الجسد حتى يقبضوها بشدة، وينزعوها نزعًا يكاد يتمزق الجسد منها من شدة النزع. أما أرواح المؤمنين - جعلني الله وإياكم منهم - فإن الملائكة إذا نزلت لقبضها تبشرها: أخرجي يا أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب أخرجي إلى رضوان الله، وما أشبه هذا من الكلام الذي يهون عليها أن تفارق جسدها الذي ألفته فتخرج بسهولة، ولهذا لما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه). قالت عائشة: يا رسول الله: إنَّا لنكره الموت، فقال: (ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه)، لأنه في تلك اللحظة يرى أنه سينتقل إلى دار أحسن من الدار التي فارقها فيفرح كما يفرح أحدنا إذا قيل له أخرج من بيت الطين إلى بيت المسلح القصر المشيد الطيب، فيفرح فيحب لقاء الله، والكافر - والعياذ بالله - بالعكس إذا بشر بالغضب والعذاب فإنه يكره أن يموت، يكره لقاء الله فيكره الله لقاءه. {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات: 3]. هي الملائكة تسبح بأمر الله، أي تسرع فيه كما يسرع السابح في الماء، وكما قال تعالى عن الشمس والقمر والليل والنهار {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]. فالمعنى أنها تسبح بأمر الله عز وجل على حسب ما أراد الله سبحانه وتعالى، وهم أي الملائكة أقوى من الجن، والجن أقوى من البشر، انظر إلى قوله تعالى عن سليمان: {يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 38 - 40]. يعني إذا مددت طرفك ثم رجعته فقبل أن يرجع إليك آتيك به {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ} [النمل: 40]. في الحال رآه {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40]. قال العلماء: إنه حملته الملائكة حتى جاءت به إلى سليمان من اليمن، وسليمان بالشام بلحظة فدل هذا على أن قوة الملائكة أكبر بكثير من قوة الجن، وقوة الجن أكبر من بني آدم؛ لأنه لا يستطيع أحد من بني آدم أن يأتي بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام قبل مدة طويلة، فالحاصل أن الملائكة تسبح بأمر الله عز وجل بما يأمرها به. {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} [النازعات: 4]. أيضًا هي الملائكة تسبق إلى أمر الله عز وجل، ولهذا كانت الملائكة أسبق إلى أمر الله وأقوم بأمر الله من بني آدم، قال الله تعالى في وصف ملائكة النار: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. [التحريم: 6]. وقال عز وجل: {وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19، 20]. فهم سباقون إلى أمر الله عز وجل بما يأمرهم لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لقوتهم وقدرتهم على فعل أوامر الله عز وجل. {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} أيضًا وصف للملائكة تدبر الأمر، وهو واحد الأمور يعني أمور الله عز وجل لها ملائكة تدبرها، فجبرائيل موكل بالوحي يتلقاه من الله وينزل به على الرسل، وإسرافيل موكل بنفخ الصور الذي يكون عند يوم القيامة ينفخ في الصور فيفزع الناس ويموتون، ثم ينفخ فيه أخرى فيبعثون، وهو أيضًا من حملة العرش، وميكائيل موكل بالقطر وبالمطر والنبات، وملك الموت موكل بالأرواح، ومالك موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة، وعن اليمين وعن الشمال قعيد موكل بالأعمال، كلٌّ يدبر ما أمره الله عز وجل به. فهذه الأوصاف كلها أوصاف للملائكة على حسب أعمالهم، وأقسم الله سبحانه وتعالى بالملائكة لأنهم من خير المخلوقات، ولا يقسم الله سبحانه وتعالى بشيء إلا وله شأن عظيم إما في ذاته، وإما لكونه من آيات الله عز وجل. ثم قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} هذه {يَوْمَ تَرْجُفُ} متعلقة بمحذوف والتقدير أذكر يا محمد وذكّر الناس بهذا اليوم العظيم: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}، وهما النفختان في الصور، النفخة الأولى ترجف الناس ويفزعون ثم يموتون عن آخرهم إلا من شاءالله، والنفخة الثانية يبعثون من قبورهم فيقوم الناس من قبورهم مرة واحدة، قال الله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13، 14]. إذا رجفت الراجفة وتبعتها الرادفة انقسم الناس إلى قسمين: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات: 8: 12]. وهذه قلوب الكفار {وَاجِفَةٌ} أي: خائفة خوفًا شديدًا. {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} يعني ذليلة لا تكاد تحدق أو تنظر بقوة ولكنه قد غضت أبصارهم - والعياذ بالله - لذلهم قال الله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]. {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13: 14]. زجرة من الله عز وجل يزجرون ويصاح بهم فيقومون من قبورهم قيام رجل واحد على ظهر الأرض بعد أن كانوا في بطنها قال الله تبارك وتعالى: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53]. كل الخلق في هذه الكلمة الواحدة يخرجون من قبورهم أحياء، ثم يحضرون إلى الله عز وجل ليجازيهم، ولهذا قال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 12: 13]. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]. يعني أنَّ الله إذا أراد شيئًا إنما يقول له: (كن) مرة واحدة فقط فيكون ولا يتأخر هذا عن قول الله لحظة {إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]. والله عز وجل لا يعجزه شيء، فإذا كان الخلق كلهم يقومون من قبورهم لله عز وجل بكلمة واحدة فهذا أدل دليل على أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]. {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13: 14].
{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} [النازعات:15: 26].
ثم قال تعالى مبينًا ما جرى للأمم قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الله تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} والخطاب في قوله: {هَلْ أتَاكَ} للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يتأتى خطابه ويصح توجيه الخطاب إليه، ويكون على المعنى الأول (هل أتاك يا محمد)، وعلى المعنى الثاني: (هل أتاك أيها الإنسان) {حَدِيثُ مُوسَى} وهو ابن عمران - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل أنبياء بني إسرائيل، وهو أحد أولي العزم الخمسة الذين هم: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح عليهم الصلاة والسلام، وقد ذكر هؤلاء الخمسة في القرآن في موضعين، أحدهما في الأحزاب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7].
والثاني في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13]. وحديث موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - ذكر في القرآن أكثر من غيره؛ لأن موسى هو نبي اليهود وهم كثيرون في المدينة وحولها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت قصص موسى أكثر ما قص علينا من نبأ الأنبياء وأشملها وأوسعها وفي قوله: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [النازعات: 15]. تشويق للسامع ليستمع إلى ما جرى في هذه القصة. {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات: 16]. ناداه الله عز وجل نداءً سمعه بصوت الله عز وجل، قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]. وقوله: {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} [النازعات: 16]. هو الطور، والوادي هو مجرى الماء، وسماه الله مقدسًا لأنه كان فيه الوحي إلى موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - . وقوله: {طُوًى} اسم للوادي. {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [النازعات: 17]. فرعون كان ملك مصر، وكان يقول لقومه إنه ربهم الأعلى، وأنه لا إله غيره {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. فادعى ما ليس له، وأنكر حق غيره وهو الله عز وجل، وأمر الله نبيه موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يذهب إلى فرعون وهذه هي الرسالة، وبين سبب ذلك وهو طغيان هذا الرجل - أعني فرعون - وفي سورة طه قال: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 43]. ولا منافاة بين الآيتين وذلك أن الله تعالى أرسل موسى أولًا ثم طلب موسى صلى الله عليه وآله وسلم من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون فأرسل هارون - صلى الله عليه وآله وسلم - مع موسى فصار موسى وهارون كلاهما مرسل إلى فرعون. وقوله تعالى: {إِنَّهُ طَغَى} [النازعات: 17]. أي: زاد على حده؛ لأن الطغيان هو الزيادة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]. ومنه الطاغوت: لأن فيه مجاوزة الحد. {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} [النازعات: 18]. الاستفهام هنا للتشويق، تشويق فرعون أن يتزكى مما هو عليه من الشر والفساد، وأصل الزكاة النمو والزيادة، وتطلق بمعنى الإسلام والتوحيد، ومنه قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 6، 7]. ومنه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10]. {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أي أدلك إلى ربك أي إلى دين الله عز وجل الموصل إلى الله. {فَتَخْشَى} أي فتخاف الله عز وجل على علم منك؛ لأن الخشية هي الخوف المقرون بالعلم، فإن لم يكن علم فهو خوف مجرد، وهذا هو الفرق بين الخشية والخوف. الفرق بينهما أن الخشية عن علم قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28]. وأما الخوف فهو خوف مجرد ذعر يحصل للإنسان ولو بلا علم، ولهذا قد يخاف الإنسان من شيء يتوهمه، قد يرى في الليلة الظلماء شبحًا لا حقيقة له فيخاف منه، فهذا ذعر مبني على وهم، لكن الخشية تكون عن علم. أي فذهب موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال لفرعون ما أمره الله به {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 19]. ولما كان البشر لا يؤمنون ولا يقبلون دعوى شخص أنه رسول إلا بآية كما هو ظاهر أن الإنسان لا يقبل من أحد دعوى إلا ببينة جعل الله سبحانه وتعالى مع كل رسول آية تدل على صدقه، وهنا قال: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} [النازعات: 20]. يعني أرى موسى فرعون الآية الكبرى، فما هي هذه الآية؟ الآية أن معه عصًا من خشب من فروع الشجر كما هو معروف، فكان إذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى ثم يحملها فتعود عصا، وهذا من آيات الله أن شيئًا جمادًا إذا وضع على الأرض صار حية تسعى، وإذا حمل من الأرض عاد في الحال فورًا إلى حاله الأولى عصا من جملة العصي، وإنما بعثه - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذه الآية، وبكونه يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء أي من غير عيب، أي: بيضاء بياضًا ليس بياض البرص ولكنه بياض جعله الله آية، إنما بعثه الله بالعصا واليد؛ لأنه كان في زمن موسى السحر منتشرًا شائعًا فأرسله الله عز وجل بشيء يغلب السحرة الذين تصدوا لموسى - صلى الله عليه وآله وسلم - . قال أهل العلم: وفي عهد عيسى صلى الله عليه وآله وسلم انتشر الطب انتشارًا عظيمًا، فجاء عيسى بأمر يعجز الأطباء، وهو أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، إذا جيء إليه بشخص فيه عاهة أي عاهة تكون مسحه بيده ثم برئ بإذن الله {وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ} [آل عمران: 49]. مع أن البرص لا دواء له لكن هو يبرئ الأبرص بإذن الله عز وجل، ويبرئ الأكمه الذي خلق بلا عيون، وأشد من هذا وأعظم أنه يحيي الموتى بإذن الله، يؤتى إليه بالميت فيتكلم معه ثم تعود إليه الحياة، وأشد من ذلك وأبلغ أنه يخرج الموتى بإذن الله من قبورهم، يقف على القبر وينادي صاحب القبر فيخرج من القبر حيًّا، هذا شيء لا يمكن لأي طب أن يبلغه، ولهذا كانت آية عيسى في هذا الوقت مناسبة تمامًا لما كان عليه الناس. قال أهل العلم: أما رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد أتى إلى العرب وهم يتفاخرون في الفصاحة، ويرون أن الفصاحة أعظم منقبة للإنسان فجاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بهذا القرآن العظيم الذي أعجز أمراء الفصاحة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثله، قال الله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. يعني لو كان بعضهم يعاون بعضًا فإنهم لن يأتوا بمثله. حينئذ نقول إن موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - أرى فرعون الآية الكبرى ولكن لم ينتفع بالآيات {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]. {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} [يس: 11]. فالذين ليس في قلوبهم استعداد للهداية لا يهتدون ولو جاءتهم كل آية - والعياذ بالله - ولهذا قال: {فَكَذَّبَ وَعَصَى} [النازعات: 21]. كذب الخبر، وعصى الأمر، يعني قال لموسى إنك لست رسولًا بل قال {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]. وعصى الأمر فلم يمتثل أمر موسى ولم ينقد لشرعه. {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات: 22]. أي تولى مدبرًا يسعى حثيثًا. {فَحَشَرَ فَنَادَى} [النازعات: 22]. حشر الناس أي جمعهم ونادى فيهم بصوت مرتفع ليكون ذلك أبلغ في نهيهم عما يريد منهم موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - . {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]. يعني لا أحد فوقي لأن {الأَعْلَى} اسم تفضيل من العلو، فانظر كيف استكبر هذا الرجل وادعى لنفسه ما ليس له في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]. وكان يفتخر بالأنهار والُملك الواسع يقول لقومه في ما قال لهم {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 51، 52]. فما الذي حصل؟ أغرقه الله عز وجل بالماء الذي كان يفتخر به، وأورث الله ملك مصر بني إسرائيل الذين كان يستضعفهم. {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات: 25]. أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، {نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات: 25]. يعني أنه نكّل به في الآخرة وفي الأولى، فكان عبرة في زمنه، وعبرة فيما بعد زمنه إلى يوم القيامة، كل من قرأ كتاب الله وما صنع الله بفرعون فإنه يتخذ ذلك عبرة يعتبر به، وكيف أهلكه الله مع هذا الملك العظيم وهذا الجبروت وهذا الطغيان فصار أهون على الله تعالى من كل هين. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} [النازعات: 26]. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي فيما جرى من إرسال موسى إلى فرعون ومحاورته إياه واستهتار فرعون به واستكباره عن الانقياد له عبرة، {لِّمَن يَخْشَى} أي يخشى الله عز وجل، فمن كان عنده خشية من الله وتدبر ما حصل لموسى مع فرعون والنتيجة التي كانت لهذا ولهذا فإنه يعتبر ويأخذ من ذلك عبرة، والعبر في قصة موسى كثيرة ولو أن أحدًا انتدب لجمع القصة من الآيات في كل سورة ثم يستنتج ما حصل في هذه القصة من العبر لكان جيدًا، يعني يأتي بالقصة كلها في كل الآيات، لأن السور في بعضها شيء ليس في البعض الاخر، فإذا جمعها وقال مثلًا يؤخذ من هذه القصة العظيمة العبر التالية ثم يسردها، كيف أرسله الله عز وجل إلى فرعون؟ كيف قال لهما {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا} [طه: 44]. مع أنه مستكبر خبيث؟ وكيف كانت النتيجة؟ وكيف كان موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - خرج من مصر خائفًا على نفسه يترقب كما خرج الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - من مكة يترقب، وصارت العاقبة للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولموسى - صلى الله عليه وآله وسلم - لكن العاقبة للرسول - صلى الله عليه وسلّم - بفعله وأصحابه، عذب الله أعداءهم بأيديهم، وعاقبة موسى بفعل الله عز وجل، فهي عبر يعتبر بها الإنسان يصلح بها نفسه وقلبه حتى يتبين الأمر.{أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء} [النازعات: 27]. هذا الاستفهام لتقرير إمكان البعث؛ لأن المشركين كذبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبعث وقالوا: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]. فيقول الله عز وجل: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء} [النازعات: 27]. الجواب معلوم لكل أحد أنه السماء كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]. {بَنَاهَا} هذه الجملة لا تتعلق بالتي قبلها، ولهذا ينبغي للقارىء إذا قرأ أن يقف على قوله {أَمِ السَّمَاء} ثم يستأنف فيقول: {بَنَاهَا} فالجملة استئنافية لبيان عظمة السماء، {بَنَاهَا} أي بناها الله عز وجل وقد بين الله سبحانه وتعالى في آية أخرى في سورة الذاريات أنه بناها بقوة فقال: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47]. أي بقوة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]. {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 28]. رفعه يعني عن الأرض ورفعه عز وجل بغير عمد كما قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2]. {فَسَوَّاهَا} [النازعات: 28].أي جعلها مستوية، وجعلها تامة كاملة كما قال تعالى في خلق الإنسان: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} [الانفطار: 6، 7]. فسواك: أي جعلك سويًّا تام الخلقة، فالسماء كذلك سواها الله عز وجل. {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أغطشه أي أظلمه، فالليل مظلم، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12]. {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات: 29] بينه بالشمس التي تخرج كل يوم من مطلعها وتغيب من مغربها. {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النازعات: 30]. أي بعد خلق السماوات والأرض {دَحَاهَا} بين سبحانه هذا الدحو بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 31] وكانت الأرض مخلوقة قبل السماء كما قال الله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9 - 12]. فالأرض مخلوقة من قبل السماء لكن دحوها وإخراج الماء منها والمرعى كان بعد خلق السماوات. {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعاتا: 32]. أي جعلها راسية في الأرض تمسك الأرض لئلا تضطرب بالخلق. {مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي جعل الله تعالى ذلك متاعًا لنا نتمتع به فيما نأكل ونشرب، ولأنعامنا أي مواشينا من الإبل والبقر والغنم وغيرها. ولما ذكَّر الله عز وجل عباده بهذه النعم الدالة على كمال قدرته ذكرهم بمآلهم الحتمي الذي لابد منه، فقال عز وجل:
{فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 34: 46].