{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}. {قُتِلَ الإِنسَانُ} {قُتِلَ} تأتي في القرآن كثيرًا فمن العلماء من يقول: إن معناها لعن، والذي يظهر أن معناها أُهلك؛ لأن القتل يكون به الهلاك وهو أسلوب تستعمله العرب في تقبيح ما كان عليه صاحبه فيقولون مثلًا: قتل فلان ما أسوأ خلقه، قتل فلان ما أخبثه وما أشبه ذلك. وقوله تعالى: {قُتِلَ الإِنسَانُ} قال بعض العلماء: المراد بالإنسان هنا الكافر خاصة، وليس كل إنسان لقوله فيما بعد {مَا أَكْفَرَهُ} ويحتمل أن يكون المراد بالإنسان الجنس، لأن أكثر بني آدم كفار كما ثبت في الحديث الصحيح: (أن الله يقول يقوم القيامة: "يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول له الله عز وجل: أخرج من ذريتك بعثًا إلى النار. فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين")، فيكون المراد بالإنسان هنا الجنس ويخرج المؤمن من ذلك بما دلت عليه النصوص الأخرى. {مَا أَكْفَرَهُ} قال بعض العلماء إن {مَا} هنا استفهامية أي: أي شيء أكفره؟ ما الذي حمله على الكفر؟ وقال بعض العلماء: إن هذا من باب التعجب يعني ما أعظم كفره! وإنما كان كفر الإنسان عظيمًا لأن الله أعطاه عقلًا، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب وأمده بكل ما يحتاج إلى التصديق، ومع ذلك كفر فيكون كفره عظيمًا. والفرق بين القولين أنه على القول الأول تكون {مَا} استفهامية أي: ما الذي أكفره؟ وعلى القول الثاني تكون تعجبية يعني عجبًا له كيف كفر مع أن كل شيء متوفر لديه في بيان الحق والهدى!! والكفر هنا يشمل كل أنواع الكفر، ومنه إنكار البعث فإن كثيرًا من الكفار كذبوا بالبعث، وقالوا: لا يمكن أن يُبعث الناس بعد أن كانت عظامهم رميمًا كما قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]. ولهذا قال: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} استفهام تقرير لما يأتي بعده في قوله: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ} يعني أنت أيها الإنسان كيف تكفر بالبعث؟ من أي شيء خلقت؟ ألم تخلق من العدم لم تكن شيئًا مذكورًا من قبل فوجدت وصرت إنسانًا فكيف تكفر بالبعث؟ ولهذا قال: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ} والنطفة هي في الأصل الماء القليل، والمراد به هنا ماء الرجل الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب يلقيه في رحم المرأة فتحمل {فَقَدَّرَهُ} أي جعله مقدرًا أطوارًا: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق فقال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). فالإنسان مقدر في بطن أمه من الذي يقدره هذا التقدير؟ من الذي يوصل إليه ما ينمو به من الدم الذي يتصل به بواسطة السرة من دم أمه؟ إلا الله عز وجل، ولهذا قال: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} السبيل هنا بمعنى الطريق يعني يسر له الطريق ليخرج من بطن أمه إلى عالم المشاهدة، ويسر له أيضًا بعد ذلك ما ذكره تعالى في قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]. يسر له ثديي أمه يتغذى بهما، ويسر له بعد ذلك ما فتح له من خزائن الرزق، ويسر له فوق هذا كله وما هو أهم وهو طريق الهدى والفلاح وذلك بما أرسل إليه من الرسالات، وأنزل عليه من الكتب، ثم بعد هذا {أَمَاتَهُ} الموت مفارقة الروح للبدن. {فَأَقْبَرَهُ} أي جعله في قبر، أي مدفونًا سترًا عليه وإكرامًا واحترامًا؛ لأن البشر لو كانوا إذا ماتوا كسائر الميتات جثثًا ترمى في الزبال لكان في ذلك إهانة عظيمة للميت ولأهل الميت، ولكن من نعمة الله سبحانه وتعالى أن شرع لعباده هذا الدفن، ولهذا قال ابن عباس ا في قوله تعالى: {فَأَقْبَرَهُ} قال: أكرمه بدفنه. {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} أي إذا شاء الله عز وجل {أَنشَرَهُ} أي بعثه يوم النشور ليجازيه على عمله. وقوله: {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} يعني أنه لا يعجزه عز وجل أن ينشره لكن لم يأتِ أمر الله بعد ولهذا قال: {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} {لَمَّا} هنا بمعنى (لم) لكنها تفارقها في بعض الأشياء، والمعنى أن الله تعالى لم يقضِ ما أمره، أي ما أمر به كونًا وقدرًا، أي أن الأمر لم يتم لنشر أو لانشار هذا الميت بل له موعد منتظر، وفي هذا رد على المكذبين بالبعث الذين يقولون لو كان البعث حقًّا لوجدنا آباءنا الان، وهذا القول منهم تحدي مكذوب؛ لأن الرسل لم تقل لهم إنكم تبعثون الان، ولكنهم قالوا لهم إنكم تبعثون جميعًا بعد أن تموتوا جميعًا. ثم قال عز وجل مذكرًا للإنسان بما أنعم الله عليه {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}. أي فلينظر إلى طعامه من أين جاء؟ ومن جاء به؟ وهل أحدٌ خلقه؟ وينبغي للإنسان أن يتذكر عند هذه الآية قول الله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 65، 67]. من الذي زرع هذا الزرع حتى استوى ويسر الحصول عليه حتى كان طعامًا لنا؟ هو الله عز وجل، ولهذا قال {لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} أي بعد أن نخرجه نحطمه حتى لا تنتفعوا به. {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا} يعني من السحاب {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} بعد نزول المطر عليها تتشقق بالنبات. {فَأَنبَتْنَا فِيهَا} أي في الأرض {حَبًّا} كالبر والرز والذرة والشعير وغير ذلك من الحبوب الكثيرة {وَعِنَبًا} معروف {وَقَضْبًا} قيل: إنه القت المعروف {وَزَيْتُونًا} معروف {وَنَخْلاً} معروف {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} حدائق جمع حديقة، والغلب كثير الأشجار {وَفَاكِهَةً} يعني ما يتفكه به الإنسان من أنواع الفواكه {وَأَبًّا} الأب نبات معروف عند العرب ترعاه الإبل {مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} يعني أننا فعلنا ذلك متعة لكم، يقوم بها أودكم، وتتمتعون بها أيضًا بالتفكه بهذه النعم. ثم لما ذكر الله عز وجل الإنسان بحاله منذ خلق من نطفة حتى بقي في الدنيا وعاش، ذكر حاله الاخرة في قوله: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}. {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} يعني الصيحة العظيمة التي تصخ الاذان، وهذا هو يوم القيامة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} من أخيه شقيقه أو لأبيه أو لأمه {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} الأم والأب المباشر، والأجداد أيضًا، والجدات يفر من هؤلاء كلهم {وَصَاحِبَتِهِ} زوجته {وَبَنِيهِ} وهم أقرب الناس إليه وأحب الناس إليه. ويفر من هؤلاء كلهم. قال أهل العلم: يفر منهم لئلا يطالبوه بما فرط به في حقهم من أدب وغيره، لأن كل واحد في ذلك اليوم لا يحب أبدًا أن يكون له أحد يطالبه بشيء {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} كل إنسان مشتغل بنفسه لا ينظر إلى غيره، ولهذا لما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : (إنكم تحشرون يوم القيامة حفاة، عراة، غرلًا. قالت عائشة - ا - : "الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض"؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - : "الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض")، ثم قسّم الله الناس في ذلك اليوم إلى قسمين فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} مسفرة من الإسفار وهو الوضوح لأنها وجوه المؤمنين تُسفر عما في قلوبهم من السرور والانشراح {ضَاحِكَةٌ} يعني متبسمة، وهذا من كمال سرورهم {مُّسْتَبْشِرَةٌ} أي قد بشرت بالخير لأنها تتلقاهم الملائكة بالبشرى يقولون {سَلامٌ عَلَيْكُمُ} {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يعني يوم القيامة {عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي شيء كالغبار؛ لأنها ذميمة قبيحة {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي ظلمة {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} الذين جمعوا بين الكفر والفجور، نسأل الله العافية، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة إنه جواد كريم.
رحم الله بوح قلمي يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته