عرض مشاركة واحدة
قديم 26-03-12, 10:24 PM   المشاركة رقم: 11
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.03 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 14
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة المطففين



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ‏}‏ كلمة ويل تكررت في القرآن كثيرًا، وهي على الأصح كلمة وعيد يتوعد الله سبحانه وتعالى بها من خالف أمره، أو ارتكب نهيه على الوجه المفيد في الجملة التي بعدها فهنا يقول عز وجل ‏{‏وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ‏}‏ فمن هؤلاء المطففون‏؟‏ هؤلاء المطففون فسرتهم الآيات التي بعدها فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ‏}‏ يعني اشتروا منهم ما يكال استوفوا منهم الحق كاملًا بدون نقص ‏{‏وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ‏}‏ يعني إذا كالوا لهم أي هم الذين باعوا الطعام كيلًا، فإنهم إذا كالوا للناس أو باعوا عليهم شيئًا وزنًا إذا وزنوا نقصوا ‏{‏يُخْسِرُونَ‏}‏ فهؤلاء يستوفون حقهم كاملًا، وينقصون حق غيرهم، فجمعوا بين الأمرين، بين الشح والبخل، الشح‏:‏ في طلب حقهم كاملًا بدون مراعاة أو مسامحة، والبخل‏:‏ بمنع ما يجب عليهم من إتمام الكيل والوزن، وهذا المثال الذي ذكره الله عز وجل في الكيل والوزن هو مثال، فيقاس عليه كل ما أشبه، كل من طلب حقه كاملًا ممن هو عليه ومنع الحق الذي عليه فإنه داخل في الآية الكريمة، فمثلًا الزوج يريد من زوجته أن تعطيه حقه كاملًا ولا يتهاون في شيء من حقه، لكنه عند أداء حقها يتهاون ولا يعطيها الذي لها، وما أكثر ما تشكي النساء من هذا الطراز من الأزواج - والعياذ بالله - حيث إن كثيرًا من النساء يريد منها الزوج أن تقوم بحقه كاملًا، لكنه هو لا يعطيها حقها كاملًا، ربما ينقص أكثر حقها من النفقة والعشرة بالمعروف وغير ذلك، إن ظلم الناس أشد من ظلم الإنسان نفسه في حق الله؛ لأن ظلم الإنسان نفسه في حق الله تحت المشيئة إذا كان دون الشرك، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عاقبه عليه، لكن حق الادميين ليس داخلًا تحت المشيئة لابد أن يوفى، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏من تعدون المفلس فيكم‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ المفلس فينا من لا درهم عنده ولا متاع، فقال‏:‏ ‏"‏إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال - كثيرة - فيأتي وقد ظلم هذا، وشتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار‏)‏، فنصيحتي لهؤلاء الذين يفرطون في حق أزواجهم أن يتقوا الله عز وجل فإن النبي - صلى الله عليه وسلّم - أوصى بذلك في أكبر مجمع شهده العالم الإسلامي في حياة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في يوم عرفة في حجة الوداع، قال‏:‏ ‏(‏اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله‏)‏، فأمرنا أن نتقي الله تعالى في النساء وقال‏:‏ ‏(‏اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم‏)‏ أي بمنزلة الأسرى لأن الأسير إن شاء فكه الذي أسره وإن شاء أبقاه، والمرأة عند زوجها كذلك إن شاء طلقها وإن شاء أبقاها، فهي بمنزلة الأسير عنده فليتق الله فيها، كذلك أيضًا نجد بعض الناس يريد من أولاده أن يقوموا بحقه على التمام لكنه مفرط في حقهم، فيريد من أولاده أن يبروه ويقوموا بحقه، أن يبروه في المال، وفي البدن، وفي كل شيء يكون به البر، لكنه هو مضيع لهؤلاء الأولاد، غير قائم بما يجب عليه نحوهم، نقول هذا مطفف، كما نقول في المسألة الأولى في مسألة الزوج مع زوجته إنه إذا أراد منها أن تقوم بحقه كاملًا وهو يبخس حقها نقول إنه ‏"‏مطفف‏"‏ هذا الأب الذي أراد من أولاده أن يبروه تمام البر وهو مقصر في حقهم نقول إنك ‏"‏مطفف‏"‏ ونقول له تذكر قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ‏}‏ يعني ألا يتيقن هؤلاء ويعلموا علم اليقين؛ لأن الظن هنا بمعنى اليقين، والظن بمعنى اليقين يأتي كثيرًا في القرآن مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏‏:‏ 46‏]‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ‏}‏ وهم يتيقنون أنهم ملاقوا الله، لكن الظن يستعمل بمعنى اليقين كثيرًا في اللغة العربية، وهنا يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ‏}‏ ألا يتيقن هؤلاء أنهم مبعوثون أي مخرجون من قبورهم لله رب العالمين ‏{‏لِيَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ هذا اليوم عظيم ولا شك أنه عظيم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1‏]‏‏.‏ عظيم في طوله، في أهواله، فيما يحدث فيه، في كل معنى تحمله كلمة عظيم، لكن هذا العظيم هو على قوم عسير، وعلى قوم يسير، قال تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 8‏]‏‏.‏ لكنه بالنسبة للمؤمنين - جعلنا الله منهم - يسير كأنما يؤدي به صلاة فريضة من سهولته عليه ويسره عليه، لاسيما إذا كان ممن استحق هذه الوقاية العظيمة، وكان من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فهذا اليوم عظيم لكنه بالنسبة للناس يكون يسيرًا ويكون عسيرًا ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ يعني هذا اليوم العظيم هو ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ يقومون من قبورهم حفاة ليس لهم نعال ولا خفاف، عراة ليس عليهم ثياب لا قُمص ولا سراويل ولا أزر ولا أردية، غرلًا أي غير مختونين بمعنى أن القلفة التي تقطع في الختان تعود يوم القيامة مع صاحبها كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏ ويعيده الله عز وجل لبيان كمال قدرته تعالى، وأنه يعيد الخلق كما بدأهم، والقلفة إنما قطعت في الدنيا من أجل النزاهة عن الأقذار؛ لأنها إن بقيت فإنه ينحبس فيها شيء من البول وتكون عرضة للتلويث، لكن هذا في الاخرة لا حاجة إليه؛ لأن الاخرة ليست دار تكليف بل هي دار جزاء إلا أن الله سبحانه وتعالى قد يكلف فيها امتحانًا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 43‏]‏‏.‏ فالناس يقومون على هذا الوصف حفاة، عراة، غرلًا، وفي بعض الأحاديث بُهمًا قال العلماء‏:‏ البهم يعني الذين لا مال معهم، ففي يوم القيامة لا مال يفدي به الإنسان نفسه من العذاب في يوم القيامة، ليس هناك ابن يجزي عن أبيه شيئًا، ولا أب يجزي عن ابنه شيئًا، ولا صاحبة ولا قبيلة كلٌّ يقول نفسي نفسي‏.‏ ‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 37‏]‏‏.‏ نسأل الله تعالى أن يعيننا على أهواله وأن ييسره علينا‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ وهو الله جل وعلا، وفي هذا اليوم تتلاشى جميع الأملاك إلا ملك رب العالمين جل وعلا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16 - 17‏]‏‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ‏}‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ إذا وردت في القرآن لها معانٍ حسب السياق، قد تكون حرف ردع وزجر، وقد تكون بمعنى حقًّا، وقد يكون لها معانٍ أخرى يعينها السياق؛ لأن الكلمات في اللغة العربية ليس لها معنى ذاتي لا تتجاوزه، بل كثير من الكلمات العربية لها معانٍ تختلف بحسب سياق الكلام، في هذه الآية يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ‏}‏ فتحتمل أن تكون بمعنى حقًّا إن كتاب الفجار لفي سجين، أو تكون بمعنى‏:‏ الردع عن التكذيب بيوم الدين، وعلى كل حال فبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن كتاب الفجار في سجين، والسجين قال العلماء‏:‏ إنه مأخوذ من السجن وهو الضيق، أي في مكان ضيق، وهذا المكان الضيق هو نار جهنم - والعياذ بالله - كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان 13، 14‏]‏‏.‏ وجاء في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور في قصة المحتضر وما يكون بعد الموت أن الله سبحانه وتعالى يقول‏:‏ ‏(‏اكتبوا كتاب عبدي في السجين يعني - الكافر - في الأرض السابعة السفلى‏)‏ فسجين هو أسفل ما يكون من الأرض الذي هو مقر النار نعوذ بالله منها فهذا الكتاب في سجين ثم عظم الله عز وجل هذا السجين بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ‏}‏ فالاستفهام هنا للتعظيم أي ما الذي أعلمك بسجين‏؟‏ وهل بحثت عنه‏؟‏ وهل سألت عنه حتى يبين لك، والتعظيم قد يكون لعظمة الشيء رفعة، وقد يكون لعظمة الشيء نزولًا، وهذا التعظيم في سجين ليس لرفعته وعلوه ولكنه لسفوله ونزوله، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ مَّرْقُومٌ‏}‏ كتاب هذه لا تعود على سجين وإنما تعود على كتاب في قوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ‏}‏ فما هذا الكتاب فقال‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ مَّرْقُومٌ‏}‏ يعني مكتوب لا يزاد فيه ولا ينقص ولا يبدل ولا يغيّر، بل هذا مآلهم ومقرهم - والعياذ بالله - أبد الابدين ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ ويل سبق الكلام عليها في أول هذه السورة ‏{‏الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ‏}‏ الكلام من أول السورة إلى آخرها كله في يوم الدين والجزاء، هؤلاء الذين يكذبون بيوم الدين توعدهم الله بالويل؛ لأن هؤلاء المكذبين بيوم الدين لا يمكن أن يستقيموا على شريعة الله‏.‏ لا يستقيم على شريعة الله إلا من آمن بيوم الدين؛ لأن من لم يؤمن به وإنما آمن بالحياة فقط، فهو لا يهتم بما ورائها، ولا يعمل لذلك، وإنما يبقى كالأنعام يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم‏.‏ والله يقرن الإيمان به بالإيمان باليوم الاخر دائمًا؛ لأن الإيمان بالله ابتداء والإيمان باليوم الاخر انتهاء‏.‏ فتؤمن بالله ثم تعمل لليوم الاخر الذي هو المقر، فهؤلاء - والعياذ بالله - كذبوا بيوم الدين، ومن كذب به لا يمكن أن يعمل له أبدًا؛ لأن العمل مبني على عقيدة، فإذا لم يكن هناك عقيدة فكيف يعمل، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ‏}‏ أي ما يكذب بيوم الدين وينكره ‏{‏إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ‏}‏‏:‏ ‏{‏مُعْتَدٍ‏}‏ في أفعاله ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ في أقواله، وقيل‏:‏ ‏{‏مُعْتَدٍ‏}‏ في أفعاله ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ في كسبه أي أن مآله إلى الإثم، والمعنيان متقاربان فلا يمكن أن يكذب بيوم الدين إلا رجل معتد أثيم، آثم كاسب للاثام التي تؤدي به إلى نار جهنم نعوذ بالله ‏{‏إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا‏}‏ يعني إذا تلاها عليه أحد، وهو يدل على أن هذا الرجل لا يفكر أن يتلو آيات الله ولكنها تتلى عليه فإذا تليت عليه ‏{‏قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ‏}‏ أي هذه أساطير الأولين وأساطير‏:‏ جمع أسطورة وهي الكلام الذي يذكر للتسلي ولا حقيقة له ولا أصل له، فيقول‏:‏ هذا القرآن أساطير الأولين، ولم ينتفع بالقرآن وهو أبلغ الكلام وأشده تأثيرًا على القلب حتى قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏‏.‏ لأنه يكذب بيوم الدين، وما يكذب به إلا كل معتدٍ أثيم، فلم يكن مؤمنًا فلم يصل نور آيات الله عز وجل إلى قلبه، بل يراها مثل أساطير الأولين التي يتكلم بها العجائز وليس لها أي حقيقة وليس فيها أي جد‏.‏ قال الله عز وجل ‏{‏كَلاَّ بَلْ‏}‏ أي ليست أساطير الأولين ولكن هؤلاء ‏{‏رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ أي اجتمع عليها وحجبها عن الحق ‏{‏مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ أي من الأعمال السيئات؛ لأن الأعمال السيئات تحول بين المرء وبين الهدى كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 17‏]‏‏.‏ فمن اهتدى بهدي الله واتبع ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، وصدق بما أخبر الله به، وفعل مثل ذلك فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا شك أن قلبه يستنير وأنه يرى الحق حقًّا، ويرى الباطل باطلًا، ويعظم آيات الله عز وجل، ويرى أنها فوق كل كلام، وأن هدي محمد - صلى الله عليه وسلّم - فوق كل هدي، هذا من أنار الله قلبه بالإيمان، أما من تلطخ قلبه بأرجاس المعاصي وأنجاسها فإنه لا يرى هذه الآيات حقًّا بل لا يراها إلا أساطير الأولين كما في هذه الآية‏.‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ وفي ‏{‏بَلْ‏}‏ سكتة لطيفة عند بعض القراء وعند آخرين لا سكتة فيجوز على هذا أن تقول ‏{‏كَلاَّ بَلْ ‏.‏ رَانَ‏}‏ ويجوز أن تقول‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ وهذه لا تغير المعنى سواء سكتّ أم لم تسكت فالمعنى لا يتغير‏.‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ‏}‏ أي حقًّا إنهم عن ربهم لمحجوبون، وذلك في يوم القيامة فإنهم يحجبون عن رؤية الله عز وجل كما حُجبوا عن رؤية شريعته وآياته فرأوا أنها أساطير الأولين‏.‏ وبهذه الآية استدل أهل السنة والجماعة على ثبوت رؤية الله عز وجل، ووجه الدلالة ظاهر فإنه ما حجب هؤلاء في حال السخط إلا وقد مكن للأبرار من رؤيته تعالى في حال الرضا، فإذا كان هؤلاء محجوبون فإن الأبرار غير محجوبين، ولو كان الحجب لكل منهم لم يكن لتخصيصه بالفجار فائدة إطلاقًا‏.‏ ورؤية الله عز وجل ثابتة بالكتاب، ومتواتر السنة، وإجماع الصحابة والأئمة، لا إشكال في هذا أنه تعالى يُرى حقًّا بالعين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقد فسر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله تعالى، وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 35‏]‏‏.‏ والمزيد هنا هو بمعنى الزيادة في قوله ‏{‏لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فإن نفي الإدراك يدل على ثبوت أصل الرؤية، ولهذا كانت هذه الآية مما اسjدل به السلف على رؤية الله، واستدل به الخلف على عدم رؤية الله، ولا شك أن الآية دليل عليهم، لأن الله لم ينف بها الرؤية وإنما نفى الإدراك، ونفي الإدارك يدل على ثبوت أصل الرؤية‏.‏ فالحاصل أن القرآن دل على ثبوت رؤية الله عز وجل حقًّا بالعين، وكذلك جاءت السنة الصحيحة بذلك حيث قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏(‏إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب‏)‏، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته‏)‏، وقد آمن بذلك الصحابة نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة والتابعون لهم بإحسان من سلف هذه الأمة وأئمتها، وأنكر ذلك من حُجبت عقولهم وقلوبهم عن الحق فقالوا‏:‏ إن الله لا يمكن أن يُرى بالعين، وإنما المراد بالرؤية في الآيات هي رؤية القلب أي اليقين، ولا شك أن هذا قول باطل مخالف للقرآن والسنة وإجماع السلف، ثم إن اليقين ثابت لغيرهم أيضًا حتى الفجار يوم القيامة سوف يرون ما وُعدوا به حقًّا ويقينًا، وليس هذا موضع الإطالة في إثبات رؤية الله عز وجل والمناقشة في أدلة الفريقين؛ لأن الأمر ولله الحمد من الوضوح أوضح من أن يطال الكلام فيه، ‏{‏ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ‏}‏ أي هؤلاء الفجار ‏{‏ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ‏}‏ أي يصلونها يصلون حرارتها أو عذابها نسأل الله العافية، ثم يقال تقريعًا لهم وتوبيخًا ‏{‏هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏ فيجتمع عليهم العذاب البدني والألم البدني بصلي النار وكذلك العذاب القلبي بالتوبيخ والتنديم حيث يقال‏:‏ ‏{‏هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏ ولهذا يقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ‏}‏ هذه الآية يذكر الله عز وجل خبرًا مؤكدا ‏"‏بإن‏"‏ لأن ‏{‏إِنَّ‏}‏ في اللغة العربية من أدوات التوكيد‏.‏ فإنك إذا قلت‏:‏ الرجل قائم، هذا خبر غير مؤكد، فإذا قلت‏:‏ إن الرجل قائم‏.‏ صار خبرًا مؤكدًا فيقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ‏}‏ وهذا مقابل ‏{‏إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ‏}‏ فكتاب الفجار في سجين في أسفل الأرض، وكتاب الأبرار في عليين في أعلى الجنة، أي أنهم في هذا المكان العالي قد كُتب ذلك عند الله عز وجل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ‏}‏ أي ما الذي أعلمك ما عليون‏؟‏ وهذا الاستفهام يراد به التفخيم والتعظيم‏.‏ يعني أي شيء أدراك به فإنه عظيم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ مَّرْقُومٌ‏}‏ هذا بيان لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ‏}‏ أي أن كتاب الأبرار كتاب مرقوم مكتوب لا يتغير ولا يتبدل ‏{‏يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ يشهده أي يحضره، أو يشهد به المقربون، و‏{‏الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ عند الله هم الذين تقربوا إلى الله سبحانه وتعالى بطاعته‏.‏ وكلما كان الإنسان أكثر طاعة لله كان أقرب إلى الله‏.‏ وكلما كان الإنسان أشد تواضعًا لله كان أعز عند الله، وكان أرفع عند الله، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالمقربون هم الذين تقربوا إلى الله تعالى بصالح الأعمال، فقربهم الله من عنده ‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ‏}‏ الأبرار‏:‏ جمع بر، والبر كثير الخير، كثير الطاعة، كثير الإحسـان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، فهؤلاء الأبرار الذين منّ الله عليهم بفعل الخـيرات، وترك المنكرات ‏{‏لَفِي نَعِيمٍ‏}‏ والنعيم هنا يشمـل نعيم البدن ونعيم القلـب، أمـا نعيم البدن فلا تسأل عنه فإن الله سبحانه وتعالى قال في الجنة‏:‏ ‏{‏وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وأمـا نعيم القلـب فـلا تسأل عنه أيضًا فإنهم يقال لهم وقد شاهدوا الموت قد ذبح يقال لهم‏:‏ يا أهل الجنة خلود ولا موت ويقال لهم‏:‏ ادخلوها بسلام، ويقال لهم‏:‏ إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، وأن تصحوا فلا تمرضوا أبدًا، وأن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وكل هذا مما يدخل السرور على القلب فيحصل لهم بذلك نعيم القلب ونعيم البدن، والملائكة يدخون عليهم من كل باب يقولون لهم ‏{‏سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 24‏]‏‏.‏ جعلنا الله منهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَى الأَرَائِكِ‏}‏ الأرائك جمع أريكة وهي السرير المزخرف المزيّن الذي وَضع عليه مثل الظل، وهو من أفخر أنواع الأسرة فهم على الأرائك على هذه الأسرة الناعمة الحسنة البهية ‏{‏يَنظُرُونَ‏}‏ يعني ينظرون ما أنعم الله به عليهم من النعيم الذي لا تدركه الأنفس الان ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ إن هذا النظر يشمل حتى النظر إلى وجه الله، وجعلوا هذه الآية من الأدلة على ثبوت رؤية الله عز وجل في الجنة ‏{‏تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ‏}‏ أي تعرف أيها الناظر إليهم ‏{‏فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ‏}‏ أي حسن النعيم وبهاءه، أي التنعم، وأنتم تشاهدون الآن في الدنيا أن المنعمين المترفين وجوههم غير وجوه الكادحين العاملين‏.‏ تجدها نضرة، تجدها حسنة، تجدها منعمة، فأهل الجنة تعرف في وجوههم نضرة النعيم أي التنعم والسرور؛ لأنهم أسّر ما يكون، وأنعم ما يكون، ثم قال الله تعالى في بيان ما لهم من النعيم ‏{‏يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ‏}‏ الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏يُسْقَوْنَ‏}‏ يعني الأبرار، يسقيهم الله عز وجل بأيدي الخدم الذين وصفهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 17، 19‏]‏‏.‏ ‏{‏يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ‏}‏ أي من شراب خالص لا شوب فيه ولا ضرر فيه على العقل، ولا ألم فيه في الرأس، بخلاف شراب الدنيا فإنه يغتال العقل ويصدع الرأس‏.‏ أما هذا فإنه رحيق خالص ليس فيه أي أذى ‏{‏مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ‏}‏ أي بقيته وآخره مسك أي طيّب الريح‏.‏ بخلاف خمر الدنيا فإنه خبيث الرائحة‏.‏ فهؤلاء القوم الأبرار لما حبسوا أنفسهم عن الملاذ التي حرمها الله عليهم في الدنيا أعطوها يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ‏}‏ أي وفي هذا الثواب والجزاء ‏{‏فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ‏}‏ أي فليتسابق المتسابقون سباقًا يصل بهم إلى حد النفس، وهو كناية عن السرعة في المسابقة‏.‏ يقال‏:‏ نافسته أي سابقته سباقًا بلغ بي النفس، والمنافسة في الخير هي المسابقة إلى طاعة الله عز وجل وإلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى، والبعد عما يسخط الله ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ أي مزاج هذا الشراب الذي يُسقاه هؤلاء الأبرار ‏{‏مِن تَسْنِيمٍ‏}‏‏:‏ أي من عين رفيعة معنى وحسًّا، وذلك لأن أنهار الجنة تفجّر من الفردوس، والفردوس هو أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرب عز وجل كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا الشراب يمزج بهذا الطيب الذي يأتي من التسنيم أي‏:‏ من المكان المسنَّم الرفيع العالي، وهو جنة عدن ‏{‏عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ أي أن هذه العين والمياه النابعة، والأنهار الجارية يشرب بها المقربون‏.‏ وهنا سيقول قائل‏:‏ لماذا قال‏:‏ ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏‏؟‏ هل هي إناء يُحمل حتى يقال شرب بالإناء‏؟‏ فالجواب‏:‏ لا‏.‏ لأن العين والنهر لا يُحمل‏.‏ إذن لماذا لم يقل يشرب منها المقربون‏؟‏ والجواب عن هذا الإشكال من أحد وجهين‏:‏ فمن العلماء من قال‏:‏ ‏(‏الباء‏)‏ بمعنى ‏(‏من‏)‏ فمعنى ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏ أي يشرب منها‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إن يشرب بمعنى يروى ضمّنت معنى يروى فمعنى ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏ أي يروى بها المقربون‏.‏ وهذا المعنى أو هذا الوجه أحسن من الوجه الذي قبله؛ لأن هذا الوجه يتضمن شيئين يرجحانه وهما‏:‏ أولًا‏:‏ إبقاء حرف الجر على معناه الأصلي‏.‏ والثاني‏:‏ أن الفعل ‏{‏يَشْرَبُ‏}‏ ضمَّن معنى أعلى من الشرب وهو الري، فكم من إنسان يشرب ولا يروى، لكن إذا روي فقد شرب، وعلى هذا فالوجه الثاني أحسن وهو أن يضمّن الفعل ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏ بمعنى يروى‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا‏}‏ أي قاموا بالجرم وهو المعصية والمخالفة ‏{‏كَانُواْ‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ‏}‏ استهزاءًا وسخرية واستصغارًا لهم، ‏{‏وَإِذَا مَرُّواْ‏}‏ الفاعل يصح أن يكون إذا مر المؤمنون بالمجرمين، أو إذا مر المجرمون بالمؤمنين، والقاعدة التي ينبغي أن تفهم في التفسير‏:‏ أن الآية إذا احتملت معنيين لا ينافي أحدهما الاخر وجب حملها على المعنيين؛ لأن ذلك أعم، فإذا جعلناها للأمرين صار المعنى‏:‏ أن المجرمين إذا مروا بالمؤمنين وهم جلوس تغامزوا، وإذا مر المؤمنون بالمجرمين وهم جلوس تغامزوا أيضًا فتكون شاملة للحالين‏:‏ حال مرور المجرمين بالمؤمنين، وحال مرور المؤمنين بالمجرمين‏.‏ ‏{‏يَتَغَامَزُونَ‏}‏ يعني يغمز بعضهم بعضًا، انظر إلى هؤلاء سخرة واستهزاء واستصغارًا‏.‏ ‏{‏وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ‏}‏ إذا انقلب المجرمون إلى أهلهم ‏{‏انقَلَبُواْ فَكِهِينَ‏}‏ يعني متفكهين بما نالوه من السخرية بهؤلاء المؤمنين، فهم يستهزؤن ويسخرون ويتفكهون بهذا، ظنًّا منهم أنهم نجحوا وأنهم غلبوا المؤمنين، ولكن الأمر بالعكس‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ‏}‏ ‏{‏إِذَا رَأَوْهُمْ‏}‏ أي رأى المجرمون المؤمنين ‏{‏قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ‏}‏، ضالون عن الصواب، متأخرون، متزمتون متشددون إلى غير ذلك من الألقاب، ولقد كان لهؤلاء السلف خلف في زماننا اليوم وما قبله وما بعده، من الناس من يقول عن أهل الخير‏:‏ إنهم رجعيون، إنهم متخلفون ويقولون عن المستقيم‏:‏ إنه متشدد متزمت، وفوق هذا كله من قالوا للرسل عليهم الصلاة والسلام إنهم سحرة أو مجانين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52‏]‏‏.‏ فورثة الرسل من أهل العلم والدين سينالهم من أعداء الرسل ما نال الرسل من ألقاب السوء والسخرية وما أشبه ذلك، ومن هذا تلقيب أهل البدع أهل التعطيل للسلف أهل الإثبات بأنهم حشوية مجسمة مشبهة وما أشبه ذلك من ألقاب السوء التي ينفرون بها الناس عن الطريق السوي ‏{‏وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ‏}‏ أي أن هؤلاء المجرمين ما بعثوا حافظين لهؤلاء يرقبونهم ويحكمون عليهم، بل الحكم لله عز وجل ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ‏}‏ اليوم يعني يوم القيامة، الذين آمنوا يضحكون من الكفار فـ‏{‏الَّذِينَ‏}‏ مبتدأ و‏{‏يَضْحَكُونَ‏}‏ خبره و‏{‏مِنَ الْكُفَّارِ‏}‏ متعلق بيضحكون، والمعنى‏:‏ فالذين آمنوا يضحكون اليوم من الكفار، وهذا والله هو الضحك الذي لا بكاء بعده، أما ضحك المجرمين بالمؤمنين في الدنيا فسيعقبه البكاء والحزن والويل والثبور ‏{‏عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ‏}‏ أي أن المؤمنين على الأرائك في الجنة، والأرائك هي السرر الفخمة الحسنة النضيرة ‏{‏يَنظُرُونَ‏}‏ أي ينظرون ما أعد الله لهم من الثواب، وينظرون أولئك الذين يسخرون بهم في الدنيا، ينظرون إليهم وهم في عذاب الله كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 51 - 54‏]‏‏.‏ يقول لأصحابه في الجنة يعرض عليهم أن يطلعوا إلى قرينه الذي كان في الدنيا ينكر البعث ويكذب به ‏{‏فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ‏}‏ في قعره وأصله قال له‏:‏ ‏{‏تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ‏}‏ فأنت ترى أن المؤمنين يرون الكفار وهم يعذبون في قعر النار والمؤمنون في الجنة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏{‏ثُوِّبَ‏}‏ أي جوزي، و‏{‏هَلْ‏}‏ هنا للتقرير أي أن الله تعالى قد ثوب الكفار وجازاهم جزاء فعلهم في الدنيا، وهو سبحانه وتعالى حكم عدل‏.‏ فحكمه دائر بين العدل والفضل، بالنسبة للذين آمنوا حكمه وجزاؤه فضل، وبالنسبة للكافرين حكمه وجزاؤه عدل، فالحمد لله رب العالمين، وبهذا تم الكلام الذي يسره الله عز وجل على سورة المطففين نسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم به، وأن يجعلنا من المتعظين الواعظين‏.‏ إنه جواد كريم‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس