عرض مشاركة واحدة
قديم 26-03-12, 10:28 PM   المشاركة رقم: 13
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.03 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 14
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة البروج


‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ‏}‏ الواو هذه حرف قسم يعني يقسم تعالى بالسماء ‏{‏ذَاتِ الْبُرُوجِ‏}‏ أي صاحبة البروج، والبروج جمع برج، وهو المجموعة العظيمة من النجوم وسميت بروجًا لعلوها وارتفاعها وظهورها وبيانها، والبروج عند الفلكيين اثني عشر برجًا جمعت في قول الناظم‏:‏ حملٌ فثور فجوزاء فسرطان فأسدٌ سنبلة ميزانفعقربٌ قوسٌ فجدي وكـ ذا دلو وذي آخرها الحيتان فهي اثنا عشر برجًا، ثلاثة منها للربيع، وثلاثة للصيف، وثلاثة للخريف، وثلاثة للشتاء، فيقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج وله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، أما نحن فلا نقسم إلا بالله بأسمائه وصفاته، ولا نقسم بشيء من المخلوقات لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت‏)‏ ولقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك‏)‏، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ‏}‏ اليوم الموعود هو يوم القيامة، وعد الله تعالى به وبينه في كتابه، ونصب عليه الأدلة العقلية التي تدل على أنه واقع حتمًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏ ‏{‏وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏}‏ ذكر علماء التفسير في الشاهد والمشهود عدة أقوال يجمعها أن الله أقسم بكل شاهد وبكل مشهود، والشهود كثيرون منهم محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيدًا علينا، ومنهم هذه الأمة شهداء على الناس، وأعضاء الإنسان يوم القيامة تشهد عليه بما عمل من خير وشر، ومن الملائكة يشهدون يوم القيامة فكل من شهد بحق فهو داخل في قوله ‏{‏وَشَاهِدٍ‏}‏ وأما ‏"‏المشهود‏"‏ فهو يوم القيامة وما يعرض فيه من الأهوال العظيمة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فأقسم الله بكل شاهد وبكل مشهود‏.‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ‏}‏ ‏{‏قُتِلَ‏}‏ يعني أهلك، وقيل‏:‏ القتل هنا بمعنى اللعن، وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، و‏{‏أَصْحَابُ الأُخْدُودِ‏}‏ هم قوم كفار أحرقوا المؤمنين بالنار، وقد وردت قصص متعددة في هؤلاء القوم منها شيء في الشام، ومنها شيء في اليمن، والمقصود أن هؤلاء الكفار حاولوا بالمؤمنين أن يرتدوا عن دينهم، ولكنهم عجزوا فحفروا أخدودًا حُفرًا ممدودة في الأرض كالنهر وجمعوا الحطب الكثير وأحرقوا المؤمنين بها - والعياذ بالله - ولهذا قال‏:‏ ‏{‏النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ‏}‏ يعني أن الأخدود هي أخدود النار‏.‏ ‏{‏ذَاتِ الْوَقُودِ‏}‏ أي الحطب الكثير المتأجج‏.‏ ‏{‏إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ‏}‏ يعني أن هؤلاء الذين حفروا الأخاديد وألقوا فيها المؤمنين كانوا - والعياذ بالله - عندهم قوة وجبروت يرون النار تلتهم هؤلاء البشر وهم قعود عليها على الأسرة، فكهون كأن شيئًا لم يكن، وهذا من الجبروت أن يرى الإنسان البشر تلتهمه النار وهو جالس على سريره يتفكه بالحديث ولا يبالي‏.‏ ‏{‏وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ‏}‏ يعني هم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين أي حضور لا يغيب عنهم ما فعلوه بالمؤمنين، ولذلك استحقوا هذا الوعيد، بل استحقوا هذه العقوبة أن الله أهلكهم ولعنهم وطردهم وأبعدهم عن رحمته‏.‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ أي ما أنكر هؤلاء الذين سعروا النار بأجساد هؤلاء المؤمنين إلا هذا، أي‏:‏ إلا أنهم آمنوا بالله عز وجل ‏{‏إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ وهذا الإنكار أحق أن ينكر؛ لأن المؤمن بالله العزيز الحميد يجب أن يساعد ويعان، وأن تسهل له الطرق، أما أن يمنع ويردع حتى يصل الحد إلى أن يحرق بالنار فلا شك أن هذا عدوان كبير، وليس هذا بمنكر عليهم، بل هم يحمدون على ذلك؛ لأنهم عبدوا من هو أهل للعبادة، وهو الله جل وعلا، الذي خلق الخلق ليقوموا بعبادته، فمن قام بهذه العبادة فقد عرف الحكمة من الخلق وأعطاها حقها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ العزيز هو الغالب الذي لا يغلبه شيء، فهو سبحانه وتعالى له الغلبة والعزة على كل أحد، ولما قال المنافقون‏:‏ ‏{‏لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ‏}‏ قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الْحَمِيدِ‏}‏ بمعنى المحمود فالله سبحانه وتعالى محمود على كل حال وكان من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه إذا جاءه ما يُسر به قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات‏)‏، وإذا جاءه خلاف ذلك قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله على كل حال‏)‏، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان أن يقول عند المكروه ‏(‏الحمد لله على كل حال‏)‏ أما ما يقوله بعض الناس ‏(‏الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه‏)‏ فهذا خلاف ما جاءت به السنة به، قل كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏الحمد لله على كل حال‏)‏ أما أن تقول‏:‏ ‏(‏الذي لا يحمد على مكروه سواه‏)‏ فكأنك الان تعلن أنك كاره ما قدر الله عليك، وهذا لا ينبغي، بل الواجب أن يصبر الإنسان على ما قدر الله عليه مما يسوؤه أو يُسره، لأن الذي قدره الله عز وجل هو ربك وأنت عبده، هو مالكك وأنت مملوك له، فإذا كان الله هو الذي قدر عليك ما تكره فلا تجزع، يجب عليك الصبر وألا تتسخط لا بقلبك ولا بلسانك ولا بجوارحك، اصبر وتحمل والأمر سيزول ودوام الحال من المحال، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا‏)‏، فالله عز وجل محمود على كل حال من السراء أو الضراء؛ لأنه إن قدر السراء فهو ابتلاء وامتحان، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏‏.‏ ولما رأى سليمان عرش بلقيس بين يديه قال‏:‏ ‏{‏هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏‏.‏ فإذا أصبت بالنعمة لا تأخذها على أنها نعمة فتمرح وتفرح، هي نعمة لا شك لكن اعلم أنك ممتحن بها هل تؤدي شكرها أو لا تؤدي، إن أصابتك ضراء فاصبر فإن ذلك أيضًا ابتلاء وامتحان من الله عز وجل ليبلوك هل تصبر أو لا تصبر، وإذا صبرت واحتسبت الأجر من الله فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏الْحَمِيدِ‏}‏ أنه هو الحامد، فإنه سبحانه وتعالى يحمد من يستحق الحمد، يثني على عباده من المرسلين والأنبياء والصالحين، والثناء عليهم حمدٌ لهم، فهو جل وعلا حامد، وهو كذلك محمود، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، لأنه لولا أن الله يسر لك هذه الأكلة والشربة ما حصلت عليها، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 64‏]‏‏.‏ الله يسألنا، أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون‏؟‏ الجواب‏:‏ بل أنت يا ربنا ‏{‏لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا‏}‏ بعد أن يخرج وتتعلق به النفوس يجعله الله حطامًا، ولم يأت التعبير ‏"‏لو نشاء لم ننبته‏"‏ لأن كونه ينبت وتتعلق به النفس ثم يكون حطامًا أشد وقعًا على النفس من كونه لا ينبت أصلًا ‏{‏لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏}‏ ثم ذكر الشرب فقال‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ‏}‏ الجواب‏:‏ بل أنت يا ربنا ‏{‏لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا‏}‏ أي مالحًا غير عذب لا يستطيع الإنسان أن يشربه ‏{‏فَلَوْلا تَشْكُرُونَ‏}‏ يعني فهلا تشكرون الله على ذلك، وهنا لم يأت التعبير ‏"‏لو نشاء لم ننزله من المزن‏"‏، لأن كونه ينزل ولكن لا يشرب لا يطاق أشد من كونه لم ينزل أصلًا فتأملوا القرآن الكريم تجدون فيه من الأسرار والحكم الشيء الكثير‏.‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏{‏الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ له وحده ملك السماوات والأرض، لا يملكها إلا هو عز وجل، فهو يملك السماوات ومن فيها، والأراضين ومن فيها، وما بينهما، وما فيها كل شيء ملك لله ولا يشاركه أحد في ملكه، وما يضاف إلينا من الملك فيقال‏:‏ مثلًا هذا البيت ملك لفلان، هذه السيارة ملك لفلان فهو ملك قاصر وليس ملكًا حقيقيًا؛ لأنه لو أن إنسان أراد أن يهدم بيته بدون سبب فلا يملك ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - نهى عن إضاعة المال، لو أراد إنسان أن يحرق سيارته بدون سبب فلا يملك هذا‏.‏ ولو أنه فعل لحجر القاضي عليه بمنعه من التصرف في ماله، مع أن الله منعه قبل، إذن ملكنا قاصر، والملك التام لله، ‏{‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ مطلع عز وجل على كل شيء، ومن جملته ما يفعله هؤلاء الكفار بالمؤمنين من الإحراق بالنار، وسوف يجازيهم، ولكن مع ذلك ومع فعلهم هذه الفعلة الشنيعة قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏ قال بعض السلف‏:‏ انظر إلى حلم الله عز وجل يحرقون أولياءه، ثم يعرض عليهم التوبة يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا‏}‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ ‏{‏فَتَنُوا‏}‏ بمعنى أحرقوا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏ فهؤلاء أحرقوا المؤمنين وأحرقوا المؤمنات في النار‏.‏ وقيل‏:‏ فتنوهم أي صدوهم عن دينهم‏.‏ والصحيح‏:‏ أن الآية شاملة للمعنيين جميعًا، لأنه ينبغي أن نعلم أن القرآن الكريم معانيه أوسع من أفهامنا، وأنه مهما بلغنا من الذكاء والفطنة فلن نحيط به علمًا، والقاعدة في علم التفسير أنه إذا كانت الآية تحتمل معنيين لا يتضادان فإنها تحمل عليهما جميعًا، فنقول‏:‏ هم فتوا المؤمنين بصدهم عن سبيل الله، وفتنوهم بالإحراق أيضًا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا‏}‏ أي يرجعوا إلى الله ‏{‏فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏ لأنهم أحرقوا أولياء الله فكان جزاؤهم مثل عملهم جزاء وفاقًا‏.‏ في هذه الآيات من العبر‏:‏ أن الله سبحانه وتعالى قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله عز وجل الكفار على المؤمنين وقتلوهم وحرقوهم، وانتهكوا أعراضهم، لا تستغرب فلله تعالى في هذا حكمة، المصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانهم، فمثلًا نحن نسمع ما يحصل من الانتهاكات العظيمة، انتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وتجويع الصغار والعجائز، نسمع أشياء تبكي، فنقول‏:‏ سبحان الله ما هذا التسليط الذي سلطه الله على هؤلاء المؤمنين‏؟‏ نقول يا أخي لا تستغرب فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا أمثالًا فيمن سبق يحرقون المؤمنين بالنار، فهؤلاء الذين سلطوا على إخواننا في بلاد المسلمين هذا رفعة درجات للمصابين، وتكفير السيئات، وهو عبرة للباقين، وهو أيضًا إغراء لهؤلاء الكافرين حتى يتسلطوا فيأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر‏.‏ وفي هذه الآيات من العبر‏:‏ أن هؤلاء الكفار لم يأخذوا على المسلمين بذنب إلا شيئًا واحدًا وهو‏:‏ أنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد، وهذا ليس بذنب، بل هذا هو الحق، ومن أنكره فهو الذي ينكر عليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر المسلمين في كل مكان، وأن يقينا شر أعدائنا، وأن يجعل كيدهم في نحورهم إنه على كل شيء قدير‏.‏ وفي الآية إشارة إلى أن التوبة تهدم ما قبلها، ولكن التوبة لا تكون توبة نصوحًا مقبولة عند الله إلا إذا اشتملت على شروط خمسة‏:‏ الأول‏:‏ الإخلاص لله عز وجل بأن يكون الحامل للإنسان على التوبة خوف الله عز وجل ورجاء ثوابه؛ لأن الإنسان قد يتوب من الذنب من أجل أن يمدحه الناس، أو من أجل دفع مذمة الناس له، أو من أجل مرتبة يصل إليها، أو من أجل مال يحصل عليه، كل هؤلاء لا تقبل توبتهم، لأن التوبة يجب أن تكون خالصة، وأما من أراد بعمله الدنيا فإن الله تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ‏}‏‏.‏ ‏[‏هود‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ الثاني‏:‏ من شروط كون التوبة نصوحًا‏:‏ الندم على ما حصل من الذنب بمعنى ألا يكون الإنسان كأنه لم يذنب، لا يتحسر ولا يحزن، لابد أن يندم، إذا ذكر عظمة الله ندم، كيف أعصي ربي وهو الذي خلقني ورزقني وهداني، فيندم‏.‏ الثالث‏:‏ أن يقلع عن الذنب فلا تصح التوبة مع الإصرار على الذنب، لأن التائب هو الراجع، فإذا كان الإنسان يقول‏:‏ أستغفر الله وأتوب إليه من أكل الربا، ولكنه لايزال يرابي فلا تصح توبته، لو قال‏:‏ أستغفر الله من الغيبة، والغيبة ذكرك أخاك بما يكره ولكنه في كل مجلس يغتاب الناس فلا تصح توبته، كيف تصح وهو مصر على المعصية، فلابد أن يقلع، إذا تاب من أكل أموال الناس وقد سرق من هذا، وأخذ مال هذا بخداع وغش فلا تصح توبته، حتى يرد ما أخذ من أموال الناس إلى الناس، لو فرضنا أن شخصًا أدخل مراسيمه في ملك جاره واقتطع جزءًا من أرضه وقال إني تائب، فنقول له‏:‏ رد المراسيم إلى حدودها الأولى وإلا فإن توبتك لا تقبل، لأنه لابد من الإقلاع عن الذنب الذي تاب منه‏.‏ الشرط الرابع‏:‏ أن يعزم عزمًا تامًا ألا يعود إلى الذنب، فإن تاب وهو في نفسه لو حصل له فرصة لعاد إلى الذنب فإن توبته لا تقبل، بل لابد أن يعزم عزمًا أكيدًا على ألا يعود‏.‏ الشرط الخامس‏:‏ أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه التوبة، لأنه يأتي أوقات لا تقبل فيها التوبة، وذلك في حالين‏:‏ الحال الأولى‏:‏ إذا حضره الموت فإن توبته لا تقبل لقول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 18‏]‏‏.‏ بعدما عاين الموت وشاهد العذاب يقول تبت فلا ينفع هذا، ومثال واقع لهذه المسألة أن فرعون لما أدركه الغرق ‏{‏قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏}‏ يعني بالله ولم يقل آمنت بالله إذلالًا لنفسه حيث كان يحارب بني إسرائيل على الإيمان بالله، والان يقول آمنت بالذي آمنوا به فكأنه جعل نفسه تابعًا لبني إسرائيل إلى هذا الحد بلغ به الذل ومع ذلك قيل له ‏{‏آلآن‏}‏ تتوب، آلان تؤمن بالذي آمنت به بنوا إسرائيل ‏{‏وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏‏.‏ إذًا إذا حضر الموت فإن التوبة لا تقبل، فلابد من المبادرة بالتوبة لأنك لا تدري في أي وقت يحضرك الموت، ألم تعلم أن من الناس من نام على فراشه في صحة وعافية ثم حمل من فراشه إلى سرير تغسيله‏؟‏‏!‏ ألم تعلم أن بعض الناس جلس على كرسي العمل يعمل ثم حمل من كرسي العمل إلى سرير الغسل‏؟‏‏!‏ كل هذا واقع، لذا يجب أن تبادر بالتوبة قبل أن تغلق الأبواب‏.‏ الحال الثانية‏:‏ إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن الشمس إذا طلعت من مغربها ورآها الناس آمنوا لكن الله يقول‏:‏ ‏{‏لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ‏}‏ لما ذكر عقاب المجرمين ذكر ثواب المؤمنين، وهذه هي الطريقة المتبعة فيما يراد به الترغيب والترهيب، والقرآن الكريم مثاني، تذكر فيه المعاني المتقابلة، فيذكر فيه عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة، صفات المؤمنين وصفات الكافرين، من أجل أن يكون الإنسان سائرًا إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، ويعرف نعمة الله عليه في الإسلام، ويعرف حكمة الله تعالى في وجود هؤلاء الكافرين المجرمين‏.‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ هم الذين آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره وشره فإن هذا هو الإيمان كما فسره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان فقال‏:‏ ‏(‏أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره وشره‏)‏، وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ فالمراد عملوا الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي التي بنيت على الإخلاص لله، واتباع شريعة الله، فمن عمل عملًا أشرك به مع الله غيره فعمله مردود عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه أنه تعالى قال‏:‏ ‏(‏أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه‏)‏‏.‏ وأما المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن من عمل عملًا ليس على شريعة الله فإنه باطل مردود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏، وبناء على ذلك تكون عبادة المرائي الذي يعبد الله لكن يرائي الناس أي يظهر العبادة ليراه الناس فيمدحوه وهو لا يريد التقرب إلى الناس، يريد التقرب إلى الله لكن يريد أن يمدحه الناس على تقربه إلى الله وعبادته لله فهذا مراءٍ وعمله مردود أيضًا، كذلك من تكلم بكلام قرآن أو ذكر ورفع صوته ليسمعه الناس فيمدحوه على ذكره لله فهذا أيضًا مراءٍ، عمله مردودٌ عليه؛ لأنه أشرك فيه مع الله غيره، أراد أن يمدحه الناس على عبادة الله، أما من تعبد للناس فهذا مشرك شرك أكبر يعني من قام يصلي أمام شخص تعظيمًا له، لا لله، وركع للشخص وسجد للشخص فهذا مشرك شركًا أكبر مخرج عن الملة، وكذلك أيضًا من ابتدع في دين الله ما ليس منه كما لو رتب أذكارًا معينة في وقت معين فإن ذلك لا يقبل منه، حتى ولو كان ذكر الله لو كان تسبيحًا، أو تحميدًا، أو تكبيرًا، أو تهليلًا ولكنه رتبه على وجه لم ترد به السنة فإن ذلك ليس مقبولًا عند الله عز وجل؛ لأنه عمل عملًا ليس عليه أمر الله ورسوله، فالمهم أن الله اشترط مع الإيمان العمل الصالح، وبهذا نعرف أنه لا ينبغي لنا أن نركز دائمًا على العقيدة، ونقول‏:‏ نحن على العقيدة الإسلامية وعلى كذا، وعلى كذا، ولا نذكر العمل؛ لأن مجرد العقيدة لا يكفي لابد من عمل، فينبغي عندما تذكر أننا على العقيدة الإسلامية ينبغي أن تقول ونعمل العمل الصالح؛ لأن الله يقرن دائمًا بين الإيمان المتضمن للعقيدة وبين العمل الصالح، حتى لا يخلو الإنسان من عمل صالح، أما مجرد العقيدة فلا ينفع لو أن الإنسان يقول أنا مؤمن بالله لكن لا يعمل فأين الإيمان بالله‏؟‏ ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء أن تارك الصلاة كافر كفرًا مخرج عن الملة وقد بينا أدلة ذلك في رسالة لنا صغيرة، يغني عن إعادتها هنا‏.‏ ‏{‏لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ ‏{‏لَهُمْ‏}‏ يعني عند الله ‏{‏جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ وذلك بعد البعث فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقال الله في الحديث القدسي‏:‏ ‏(‏أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏)‏‏.‏ لأن فيها من النعيم ما لا يتصوره الإنسان والله تعالى يذكر في الجنات‏:‏ نخل، ورمان، وفاكهة، ولحم طير، وعسل، ولبن، وماء، وخمر، لكن حقائق هذه الأشياء ليست كحقائق ما في الدنيا أبدًا، لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لكنا نعلم ما أخفي لنا من هذا، ولكنها أعظم وأعظم بكثير مما تتصوره، فالرمان وإن كنا نعرف معنى الرمان، ونعرف أنه على شكل معين، وطعم معين، وذو حبات معينة، لكن ليس الرمان الذي في الاخرة كهذه فهو أعظم بكثير، لا من جهة الحجم، ولا من جهة اللون، ولا من جهة المذاق، كما قال ابن عباس نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةا‏:‏ ‏(‏ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء فقط‏)‏، أما الحقائق فهي غير معلومة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ قال العلماء‏:‏ ‏{‏مِن تَحْتِهَا‏}‏ أي من تحت أشجارها وقصورها وإلا فهي على السطح فوق، ثم هذه الأنهار جاء في الأحاديث أنها لا تحتاج إلى حفر ولا تحتاج إلى بناء أخدود، وفي هذا يقول ابن القيم في النونية‏:‏ أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان الأنهار في المعروف عندنا تحتاج إلى حفر، أو إلى أخدود تمنع من تسرب الماء يمينًا وشمالًا، لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، تجري حيث شاء الإنسان، يعني يوجهها كما شاء بدون حفر، وبدون إقامة أخدود، والأنهار في هذه الآية وفي آيات كثيرة مجملة لكنه فصلت في سورة القتال - سورة محمد - قال‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ‏}‏ ‏{‏ذَلِكَ‏}‏ المشار إليه الجنات وما فيها من النعيم ‏{‏الْفَوْزُ الْكَبِيرُ‏}‏ يعني الذي به النجاة من كل مرهوب وحصول كل مطلوب؛ لأن الفوز هو عبارة عن حصول المطلوب وزوال المكروه، والجنة كذلك فيها كل مطلوب، وقد زال عنها كل مرهوب، فلا يذوقون فيها الموت، ولا المرض، ولا السقم، ولا الهم، ولا النصب‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏{‏بَطْشَ‏}‏ يعني أخذه بالعقاب شديد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 98‏]‏‏.‏ فبطش الله يعني انتقامه وأخذه شديد عظيم ولكنه لمن يستحق ذلك، أما من لا يستحق ذلك فإن رحمة الله تعالى أوسع، ما أكثر ما يعفو الله عن الذنوب، ما أكثر ما يستر من العيوب، ما أكثر ما يدفع من النقم، وما أكثر ما يجري من النعم، لكن إذا أخذ الظالم لم يفلته كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏)‏، وتلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏، وعلى هذا فنقول‏:‏ ‏{‏بَطْشَ رَبِّكَ‏}‏ أي فيمن يستحق البطش، أما من لا يستحقه فإن الله تعالى يعامله بالرحمة، ويعامله بالكرم، ويعامله بالجود، ورحمة الله تعالى سبقت غضبه ‏{‏إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ‏}‏ يعني أن الأمر إليه ابتداء وإعادة وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ فهو الذي بدأ الأشياء، وإليه تنتهي الأشياء، الأشياء منه وإليه في كل شيء، الخلق من الله وإليه، الشرائع من الله وإليه، كل الأمور من الله وإليه، ولهذا قال ‏{‏يَبْدَأُ‏}‏ ولم يذكر ما الذي يبدؤه، فمعناه ‏{‏يَبْدَأُ‏}‏ كل شيء، ويعيد كل شيء، فكل الأمر بيده عز وجل، فاعرف أيها العبد من أين أنت، وأنك ابتدأت من عدم، واعرف منتهاك وغايتك، وأن غايتك إلى الله عز وجل ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ‏}‏ ‏{‏الْغَفُورُ‏}‏ يعني ذا المغفرة، والمغفرة ستر الذنب والعفو عنه فليست المغفرة ستر الذنب فقط بل ستره وعدم المؤاخذة عليه كما جاء في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن الله يخلو بعبده المؤمن يوم القيامة ويقرره بذنوبه حتى يقربها ويعترف فيقول الله عز وجل‏:‏ قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم‏)‏، ويُذكر أن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد منهم ذنبًا وجده مكتوبًا على باب بيته فضيحة وعارًا، لكننا نحن ولله الحمد قد ستر الله علينا، فعلينا أن نتوب إلى الله ونستغفره من الذنب فتمحى آثاره، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ‏}‏ أي الساتر لذنوب عباده المتجاوز عنها‏.‏ ‏{‏الْوَدُودُ‏}‏ مأخوذة من الود، والود هو خالص المحبة فهو جل وعلا ودود، ومعنى ودود أنه محبوب وأنه حاب، فهو يشمل الوجهين جميعًا، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏ فهو جل وعلا واد يحب الأعمال، ويحب الأشخاص، ويحب الأمكنة وهو كذلك أيضًا محبوب يحبه أولياؤه ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏‏.‏ فكلما كان الإنسان أتبع لرسول الله - صلى الله عليه وسلّم - كان أحب إلى الله، فهو جل وعلا واد وهو أيضًا مودود، أي أنه يِحب ويَحب، يِحب سبحانه وتعالى الأعمال ويحب العاملين، ويحب الأشخاص يعني أن محبة الله قد تتعلق بشخص معين مثل قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في يوم خيبر‏:‏ ‏(‏لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله‏.‏ فبات الناس ثم غدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - كلهم يرجوا أن يُعطاها فقال‏:‏ ‏"‏أين علي بن أبي طالب‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ يشتكي عينيه فدعا به فأتى فبصق في عينه فبرأ كأن لم يكن به وجع في الحال، ثم أعطاه الراية وقال‏:‏ ‏"‏انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام‏)‏‏.‏ الشاهد قوله‏:‏ ‏(‏يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله‏)‏ فهنا أثبت أن الله يحب هذا الرجل بعينه علي بن أبي طالب، ولما بعث على سرية صار يقرأ لهم في الصلاة ويختم القراءة بـ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ فلما رجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلّم - أخبروه بذلك، لأن عمله هذا وهو أنه يختم القراءة بـ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ غير معروف، فقال‏:‏ ‏(‏سلوه لأي شيء كان يصنع ذلك‏"‏‏؟‏ فسألوه فقال‏:‏ إنها صفة الله وأنا أحب أن أقرأها‏.‏ فقال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏"‏أخبروه إن الله يحبه‏"‏‏)‏، فهنا المحبة علقت بشخص معين يحبه الله، وقد تكون محبة الله بمعينين بأوصافهم مثل‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏‏.‏ هذا ليست في شخص معين لكن في شخص موصوف بصفة، كذلك يحب الله سبحانه وتعالى الأماكن ‏(‏أحب البقاع إلى الله مساجدها‏)‏، وأخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن مكة أحب البقاع إلى الله هذه المحبة متعلقة بالأماكن فالله تعالى يِحب ويَحب ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ‏}‏‏.‏ ثم بين عظمته وتمام سلطانه في قوله‏:‏ ‏{‏ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏{‏ذُو الْعَرْشِ‏}‏ أي صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى عليه الله عز وجل، وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها، وقد جاء في الأثر أن السماوات السبع والأراضين السبع بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة في الأرض، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة، حلقة الدرع صغيرة ألقيت في فلاة من الأرض ليست بشيء بالنسبة لها، ‏"‏وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة‏"‏، إذن لا أحد يقدر سعته، وإذا كنا نشاهد من المخلوقات المشهودة الان التباين العظيم في أحجامها‏.‏ ولقد أطلعني رجل على صورة الشمس وصورة الأرض، فوجدت أن الأرض بالنسبة لهذه الشمس كنقطة غير كبيرة في صحن واسع كبير، وأنها لا تنسب إلى الشمس إطلاقا، فإذا كان هذا في الأشياء المشهودة التي تدرك بالتلسكوب وغيره فما بالك بالأشياء الغائبة عنا لأن ما غـاب عنا أعظم مما نشاهد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏ فالحاصل أن العرش هو سقف المخلوقات كلها، عرش عظيم استوى عليه الرحمن - جل وعلا - كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الْمَجِيدُ‏}‏ فيها قراءتان ‏(‏المجيدِ‏)‏ و‏(‏المجيدُ‏)‏ فعلى القراءة الأولى تكون وصفًا للعرش، وعلى الثانية تكون وصفًّا للرب عز وجل، وكلاهما صحيح فالعرش مجيد، وكذلك الرب عز وجل مجيد، ونحن نقول في التشهد إنك حميد مجيد‏.‏ ‏{‏فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ كل ما يريده فإنه يفعله عز وجل؛ لأنه تام السلطان لا أحد يمانعه، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه ‏{‏وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فكل ما يريده فإنه يفعله، لكن ملوك الدنيا وإن عظمت ملكيتهم لا يفعلون كل ما يريدون، ما أكثر ما يريدون ثم يوجد مانع يمنع، أما الرب فهو ذو السلطان الأعظم الذي لا يرد ما أراده شيء ‏{‏فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ وفي هذا دليل على أن جميع ما وقع في الكون فإنه بإرادة الله عز وجل؛ لأن الله هو الذي خلقه فيكون واقعًا بإرادته، ولكن الله لا يريد شيئًا إلا لحكمة، فكل ما يقع من أفعال الله فإنه لحكمة عظيمة قد نعلمها وقد لا نعلمها‏.‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ‏}‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ يشمل كل من كفر بالله ورسوله سواء كان من المشركين، أو من اليهود، أو النصارى أو غيرهم؛ وذلك لأن اليهود والنصارى الان وبعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلّم - ليسوا على دين ولا تنفعهم أديانهم لأنه - أي النبي - صلى الله عليه وسلّم - خاتم الأنبياء فمن لم يؤمن به فليس على شيء من دينه، بل إن من لم يؤمن برسول واحد من الرسل فهو كافر بجميع الرسل، فمثلًا من لم يؤمن بنوح أنه رسول ولو آمن بغيره من الأنبياء فإنه مكذب لغيره من الرسل، فإذا ادعت اليهود أنهم على دين وأنهم يتبعون التوراة التي جاء بها موسى نقول لهم‏:‏ أنتم كافرون بموسى كافرون بالتوراة، وإذا ادعت النصارى الذين يسمون أنفسهم اليوم ‏(‏بالمسيحيين‏)‏ أنهم مؤمنون بعيسى قلنا لهم‏:‏ كذبتم أنتم كافرون بعيسى؛ لأنكم كافرون بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - والعجب أن هؤلاء اليهود والنصارى يكفرون بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - مع أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لكن العناد والكبرياء والحسد منعهم أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 109‏]‏‏.‏ فالحاصل أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ يشمل كل من كفر بمحمد حتى من اليهود والنصارى، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة - يعني أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار‏)‏، كل الكفار في تكذيب وقال ‏{‏فِي تَكْذِيبٍ‏}‏ فجعل التكذيب كالظرف لهم يعني أنه محيط بهم من كل جانب ‏{‏وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ‏}‏ يعني أن الله تعالى محيط بهم من كل جانب لا يشذون عنه لا عن علمه ولا سلطانه ولا عقابه، ولكنه عز وجل قد يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏.‏ ‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏ ‏{‏بَلْ هُوَ‏}‏ أي ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏{‏قُرْآنٌ مَّجِيدٌ‏}‏ أي ذو عظمة ومجد، ووصف القرآن بأنه مجيد لا يعني أن المجد وصف للقرآن نفسه فقط، بل هو وصف للقرآن، ولمن تحمل هذا القرآن فحمله وقام بواجبه من تلاوته حق تلاوته، فإنه سيكون لهم المجد والعزة والرفعة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏ يعني بذلك اللوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي هو أم الكتاب كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وهذا اللوح كتب الله به مقادير كل شيء، ومن جملة ما كتب به أن هذا القرآن سينزل على محمد - صلى الله عليه وسلّم - فهو في لوح محفوظ، قال العلماء ‏{‏مَّحْفُوظٍ‏}‏ لا يناله أحد، محفوظ عن التغيير والتبديل، والتبديل والتغيير إنما يكون في الكتب الأخرى؛ لأن الكتابة من الله عز وجل أنواع‏:‏ النوع الأول‏:‏ الكتابة في اللوح المحفوظ وهذه الكتابة لا تبدل ولا تغير، ولهذا سماه الله لوحًا محفوظًا، لا يمكن أن يبدل أو يغير ما فيه‏.‏ الثاني‏:‏ الكتابة على بني آدم وهم في بطون أمهاتهم، لأن الإنسان في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر، بعث الله إليه ملكًا موكلًا بالأرحام، فينفخ فيه الروح بإذن الله، لأن الجسد عبارة عن قطعة من لحم إذا نفخت فيه الروح صار إنسانًا، ويؤمر بأربع كلمات‏:‏ بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد‏.‏ النوع الثالث‏:‏ كتابة حولية كل سنة، وهي الكتابة التي تكون في ليلة القدر، فإن الله سبحانه وتعالى يقدر في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 4‏]‏‏.‏ فيكتب في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة‏.‏ النوع الرابع‏:‏ كتابة الصحف التي في أيدي الملائكة، وهذه الكتابة تكون بعد العمل، والكتابات الثلاث السابقة كلها قبل العمل، لكن الكتابة الأخيرة هذه تكون بعد العمل، يكتب على الإنسان ما يعمل من قول بلسانه، أو فعل بجوارحه، أو اعتقاد بقلبه، فإن الملائكة الموكلين بحفظ بني آدم أي بحفظ أعمالهم يكتبون قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9 - 12‏]‏‏.‏ فإذا كان يوم القيامة فإنه يعطى هذا الكتاب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏ يعني تعطى الكتاب ويقال لك أنت‏:‏ اقرأ وحاسب نفسك، قال بعض السلف‏:‏ لقد أنصفك من جعلك حسيبًا على نفسك، وهذا صحيح أي إنصاف أبلغ من أن يقال للشخص تفضل هذا ما عملت حاسب نفسك، أليس هذا هو الإنصاف‏؟‏‏!‏ بل أكبر إنصاف هو هذا، فيوم القيامة تعطى هذا الكتاب منشورًا مفتوحًا أمامك ليس مغلقًا، تقرأ ويتبين لك أنك عملت في يوم كذا، في مكان كذا، كذا وكذا، فهو شيء مضبوط لا يتغير، وإذا أنكرت فهناك من يشهد عليك ‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ‏}‏ يقول اللسان‏:‏ نطقت بكذا ‏{‏وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ تقول اليد‏:‏ بطشت، تقول الرجل‏:‏ مشيت، بل يقول الجلد أيضًا، الجلود تشهد بما لمست ‏{‏وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 21‏]‏‏.‏ فالأمر ليس بالأمر الهين - نسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم بعفوه ومغفرته - وإلى هنا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة التي ابتدأها الله تعالى بالقسم بالسماء ذات البروج وأنهاها بقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏ فمن تمسك بهذا القرآن العظيم فله المجد والعزة والكرامة والرفعة، ولهذا ننصح أمتنا الإسلامية بادئين بأفراد شعوبها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، ونوجه الدعوة على وجه أوكد إلى ولاة أمورها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، وأن لا يغرهم البهرج المزخرف الذي يرد من الأمم الكافرة التي تضع القوانين المخالفة للشريعة، المخالفة للعدل، المخالفة لإصلاح الخلق، أن يضعوها موضع التنفيذ، ثم ينبذوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وراء ظهورهم، فإن هذا والله سبب التأخر ولا أظن أحدًا يتصور أن أمة بهذا العدد الهائل تكون متأخرة هذا التأخر، وكأنها إمارة في قرية بالنسبة للدول الكافرة، لكن سبب ذلك لا شك معلوم هو أننا تركنا ما به عزتنا وكرامتنا وهو‏:‏ التمسك بهذا القرآن العظيم، وذهبنا نلهث وراء أنظمة بائدة فاسدة مخالفة للعدل، مبنية على الظلم والجور، فنحن نناشد ولاة أمور المسلمين جميعًا، أناشدهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن يرجعوا رجوعًا حقيقيًّا إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلّم - حتى يستتب لهم الأمن والاستقرار، وتحصل لهم العزة والمجد والرفعة، وتطيعهم شعوبهم، ولا يكون في قلوب شعوبهم عليهم شيء؛ وذلك لأن الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين ربه، أصلح الله ما بينه وبين الناس، فإذا كان ولاة الأمور يريدون أن تذعن لهم الشعوب، وأن يطيعوا الله فيهم، فليطيعوا الله أولًا حتى تطيعهم أممهم، وإلا فليس من المعقول أن يعصوا مالك الملك وهو الله عز وجل، ثم يريدون أن تطيعهم شعوبهم هذا بعيد جدًّا، بل كلما بَعُد القلب عن الله بعد الناس عن صاحبه، وكلما قَرُب من الله قرب الناس منه، فنسأل الله أن يعيد لهذه الأمة الإسلامية مجدها وكرامتها، وأن يذل أعداء المسلمين في كل مكان، وأن يكبتهم، وأن يردهم على أعقابهم خائبين، إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس