اهم ضوابط الفتوى لعلها تكون نبراسا منيرا لكل من أراد التمييز في الفتوى بين صحيحها وسقيمها وبين الراجح والمرجوح منها ضوابط الفتوى -فهم المفتي النازلة: ينبغي على المفتي أن يفهم الواقعة المراد الفتوى فيها فهما صحيحا ويحيط بجميع ملابساتها وظروف وقوعها، ويقلبها على وجوهها، ويمعن النظر في ألفاظ صاحبها، فإن ذلك من أعظم السبل إلى إدراك وجه الحق فيها، قال ابن القيم: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات حتى يحيط به علما، والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا". فالمفتي ابن زمانه وطبيب وقته، فعليه أن يكون مدركا لما يجري حوله، واعيا بقضايا مجتمعه كلها فلا يكفيه فقه النصوص بل لابد من فقه محالها، ومحل النص هو النزول إلى الميدان وإبصار الواقع الذي عليه الناس ومعرفة مشكلاتهم ومعاناتهم واستطاعتهم وما يعرض لهم وما هي النصوص التي تنزل عليهم في واقعهم في مرحلة معينة وما يؤجل من التكاليف لتوفير الاستطاعة، وبمقدار فقه الواقع وبحجم استيعابه وبمقدار إبصار مقاصد النصوص واسرارها ينجح المفتي في تحقيق أغراض الدين وخدمة الدنيا فالدين كما يقول الشاطبي ما وضع إلا لمصالح العباد في العاجل والآجل. -التفطن لحقيقة السؤال: لا بد للمفتي من التفطن لحقيقة السؤال، فلا يطلق الجواب في مسألة فيها تفصيل إلا إذا علم أن السائل إنما سأل عن إحدى تلك الأنواع، بل إذا كانت المسائل تحتاج إلى التفصيل استفصله كما استفصل النبي ماعزا الأسلمي لما أقر بالزنا. يقول ابن القيم رحمه الله: " فكثيرا ما يقع غلط المفتي في هذا القسم فالمفتي ترد إليه المسائل في قوالب متنوعة جدا، فإن لم يتفطن لحقيقة السؤال هلك وأهلك. فتارة ترد عليه المسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلف، فصورة الصحيح والجائز صورة الباطل والمحرم ويختلفان بالحقيقة، فيذهل بالصورة عن الحقيقة فيجمع بين ما فرق الله ورسوله بينه، وتارة ترد عليه المسألتان صورتهما مختلفة وحقيقتهما واحدة وحكمهما واحد، فيذهل باختلاف الصورة عن تساويهما في الحقيقة، فيفرق بين ما جمع الله بينه، وتارة ترد عليه المسألة مجملة تحتها عدة أنواع، فيذهب وهمه إلى واحد منها ويذهل عن المسؤول عنه منها فيجيب بغير الصواب، وتارة ترد عليه المسألة الباطلة في دين الله في قالب مزخرف ولفظ حسن فيتبادر إلى تسويغها وهي من أبطل الباطل وتارة بالعكس". يقول الإمام القرافي: "ينبغي على المفتي أن لا يأخذ بظاهر لفظ المستفتي العامي حتى يتبين مقصوده، فإن العامة ربما عبروا بالألفاظ الصريحة عن غير مدلول ذلك اللفظ ومتى كان حال المستفتي لا تصلح له تلك العبارة ولا ذلك المعنى فذلك ريبة ينبغي للمفتي الكشف عن حقيقة الحال كيف هو ولا يعتمد على لفظ الفتيا أو لفظ المستفتي، فإذا تحقق الواقع في نفس الأمر ما هو أفتاه وإلا فلا يفتيه مع الريبة، وكذلك إذا كان اللفظ ما مثله يسأل عنه ينبغي أن يستكشف ولا يفتي بناء على ذلك اللفظ فإن وراءه في الغالب مرمى هو المقصود ولو صرح به امتنعت الفتيا". -التثبت والتحري في الفتوى: وأن لا يقطع بالحكم في المسألة إلا بعد روية وتدبر فإن لم يعلم حكمها أو خفي عليه دليلها التزم قول لا أدري وشاور أهل العلم معه في ذلك قال مالك "ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام لأن هذا هو القطع في حكم الله، ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيها والفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا ، وقال: لا يفتي مفت حتى يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه في الاخرة، وقد سأل رجل مالكاً فلم يجبه فقال له : يا أبا عبد الله أجبني فقال : ويحك تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله فأحتاج أنا أولاً أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك ، وكان يقول في أكثر ما يسأل عنه : لا أدري. عن ابن وهب قال : سمعت مالكاً يقول : العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق ، وكان يقال : ما عجل امرؤ فأصاب واتأد آخر فأخطأ إلا كان الذي اتأد أصوب رأياً ولا عجل امرؤ فأخطأ واتأد آخر فأخطأ إلا كان الذي اتأد أيسر خطأ ، وسئل الشافعي عن مسألة فسكت فقيل له: مالك لا تجيب، فقال حتى أدري الفضل في سكوتي او في الجواب. وقال الإمام احمد : من عرض نفسه للفتيا فقد عرضها لأمر عظيم، وسئل أيهما أفضل الكلام أو الإمساك؟ فقال :الإمساك أحب إلي إلا لضرورة. وعن الإمام أبي حنيفة انه قال: لولا الفرق من اللّه تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت أحدا يكون له المهنأ وعلي الوزر . وعن الحسن البصري انه قال:إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.وعن سحنون أن رجلا أتاه فسأله عن مسألة فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام فقال له مسألتي أصلحك الله لي اليوم ثلاثة أيام، فقال له وما أصنع لك يا خليلي مسألتك معضلة وفيها أقاويل وأنا متحير في ذلك، فقال له وأنت أصلحك الله لكل معضلة، فقال له سحنون هيهات يا ابن أخي ليس بقولك هذا أبذل لك لحمي ودمي إلى النار، ما أكثر ما لا أعرف، إن صبرت رجوت أن تنقلب بمسألتك، وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامض تجاب مسألتك في ساعة، فقال له إنما جئت إليك ولا أستفتي غيرك فقال له فاصبر عافاك الله ثم أجابه بعد ذلك. قال الشيخ الشنقيطي في منظومته دليل السالك على موطإ الإمام مالك : وبعضهم يظن أن السرعة ** جودة وبراعة في الشرعة وأن من أبطأ حيث سئلا ** عن الجواب للعلوم جهلا وهو لأن يبطأ للصواب ** خير من السرعة في الجواب إذ قد يضل ويضل السائلا ** وذاك شأن من يكون جاهلا كذاك من يفتي بلا مراجعة ** وشدة التحرير والمطالعة ـ أن يعلم انطباق الحكم على الواقعة المسؤول عنها، بأن يتحقق من وجود مناط الحكم الشرعي الذي تحصّل في الذهن في الواقعة المسؤول عنها لينطبق عليها الحكم، وذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية بخصوصها وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة، تتناول أعداداً لا تنحصر من الوقائع، ولكل واقعة معيّنة خصوصية ليست في غيرها، وليست الأوصاف التي في الوقائع معتبرة في الحكم كلها، ولاهي طردية كلها بل منها ما يعلم اعتباره، ومنها ما يعلم عدم اعتباره، وبينهما قسم ثالث متردد بين الطرفين فلا تبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلاَّ وللمفتي فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، وهل يوجد مناط الحكم في الواقعةأم لا؟ فإذا حقق وجوده فيها أجراه عليها، وهذا اجتهاد لابد منه لكل قاض ومفت، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام على أفعال المكلفين إلاَّ في الذهن، لأنها عمومات ومطلقات، منزّلة على أفعال مطلقة كذلك، والأفعال التي تقع في الوجود لاتقع مطلقة، وإنما تقع معينة مشخّصة، فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلاَّ بعد المعرفة بأن هذا المعيّن يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلاً وقد لايكون وذلك كله اجتهاد. ـ مراعاة مقاصد الشريعة في الفتوى : والمراد بمقاصد الشريعة هي : المقاصد التي شرعت الأحكام لتحقيقها وهي المصالح التي تعود إلى العباد وإسعادهم في دنياهم وأخراهم سواء أكان تحصيلها عن طريق جلب المنافع أو عن طريق دفع المضار ويعبر بعضهم عن المقاصد بقوله: هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها ، وأحسن من ذلك قول بعضهم : المقاصد هي : الأحكام المقصودة للشارع في جميع أحوال التشريع، وعلى رأس هذه المقاصد الكليات الخمس والمصالح الضرورية التي تعتبر أصولاً للشريعة وأهدافاً عامة لها وهي : حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ويلحق بها العرض ، ويلحق بها المصالح الحاجية وهي التي لا بد منها لقضاء الحاجات كتشريع أحكام البيع والنكاح وسائر ضروب المعاملات، وتشتمل على الرخص وكل ما فيه تيسير وتوسعة لتمكين المكلف من القيام بما كلف به دون مشقة ، ويلحق بها أيضاً المصالح التحسينية وهي :كل ما يعود إلى العادات الحسنة والأخلاق الفاضلة والمظهر الكريم والذوق السليم مما يجعل الأمة الإسلامية أمة مرغوباً في الانتماء إليها والعيش في أحضانها، فهذه المقاصد التي قصد الشارع إلى تحقيقها مثل حفظ المصالح ودفع المفاسد أو حفظ النظام العام، والحرص على عمارة الأرض، ودفع الحرج عن المكلفين، وقاعدة المشقة تجلب التيسير، وقاعدة العدل، وقاعدة الإحسان ونحوها لا بد من إحاطة المفتي بها والتمرس على درايتها والتعمق في أعماقها ، وأن يفتي بالدليل الجزئي من آية أو حديث ويربط بينه وبين الكليات العامة للتشريع والمقاصد العامة للشريعة، ولهذا نجد أن الشاطبي حصر درجة الاجتهاد في شرطين: - فهم مقاصد الشريعة على كمالها . - التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها . ومثال ذلك:إن الشرع قصد إلى إقامة العدل ونفي الظلم في المعاملات عامة وفي العقود خاصة فإذا تضمن العقد ظلماً بيناً بأحد الطرفين أو كليهما فلا يسع المفتي تجاهل ذلك بدعوى استيفائه لأركانه وشروطه الظاهرية، لأن العقود الظالمة ظلماً بيناً مخالفة صريحة لمقاصد الشريعة. ومثاله أيضا قتل الجماعة بالواحد يخالف قاعدة المثلية، ولكن ضرورة حفظ الأنفس التي من أبرز مقاصد الشريعة اقتضت قتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في القتل لأنه لو لم يقتلوا لكان ذلك مغرياً باللجوء إلى القتل المشترك هرباً من القصاص. فإذا لم تتحقق مراعاة هذا الشرط أو الضابط وقع المفتي في التخبط والاضطراب والزلل، حتى لتجده آخذاً ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها، قال الشاطبي:" فزلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه"، ذلكم أن المقاصد أداة لإنضاج الاجتهاد وتقويمه وأداة لتوسيعه وتمكينه من استيعاب نوازل الحياة بكل تقلباتها وتشعباتها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كل من كتب عن الغلو وأسبابه وأثاره يذكر إغفال مقاصد الشريعة في فهم النص الشرعي أهم العوامل على الاطلاق. ويتفرع عن هذا الضابط عدة قواعد أهمها اثنتان: 1-قاعدة التيسير ورفع الحرج: لابد للمفتي من مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية في اليسر ورفع الحرج بدون تضييق ولا خشونة حتى لا يضيق على المستفتي ويوقعه في الضيق والحرج والله عز وجل يقول" يريد الله بكم السير ولا يريد بكم العسر" والشريعة حمل على الوسط لا على مطلق التخفيف ولا على مطلق التشديد، قال الشاطبي: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى درجة الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مرّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين، خرج عن قصد الشارع ولذلك كان مَنْ خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين …فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما طرف التشديد فإنه مهلكة وأما طرف الانحلال فكذلك أيضاً ؛ لأن المستفتي إذا ذُهِبَ به مذهب العنت والحرج بُغِّض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد، وأما إذا ذُهِبَ به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة ، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة"، فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضاداً للمشي على التوسط كما أن الميل للتشديد مضاد له أيضاً، بل إن التضييق على المفتي قد يفتح له باب المحظور قال ابن العربي:" فالأفضل للمفتي أن يفتح له بابا يمشي به على طرائق فإنه إن سد عليه باب الشرع فتح هو إلى الحنث بابا يقتحمه." هذا، فإذا كان المفتي لم تتوافر لديه أدوات الاجتهاد وشروطه فهل له أن يتخير من أقوال فقهاء المذاهب ما يكون أيسر للناس؟ لا نزاع في أن المفتي إذا استطاع أن يميز بين الأدلة ويختار من فقه المذاهب المنقولة نقلا صحيحا على أساس الاستدلال كان له أن يتخير في فتواه ما يراه مناسبا، ولكن عليه أن يلتزم فى هذا بأربعة قيود : الأول ألا يختار قولا ضعف سنده . الثانى أن يختار ما فيه صلاح أمور الناس والسير بهم في الطريق الوسط دون إفراط أو تفريط . الثالث أن يكون حسن القصد فيما يختار مبتغيا به رضا اللّه سبحانه متقيا غضبه، وغير مبتغ إرضاء حاكم أو هوى مستفت . الرابع ألا يفتى بقولين معا على التخيير مخافة أن يحدث قولا ثالثا لم يقل به أحد . 2ـقاعدة اعتبار المآلات : فعلى المفتي النظر إلى مآلات الأقوال والأفعال في عموم التصرفات، ومن هنا فالمجتهد حين يجتهد ويحكم، عليه أن يقدر مآلات الأفعال التي هي محل حكمه و إفتائه، وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه ولا يعتقد أن مهمته تنحصر في إعطاء الحكم الشرعي، وضابط هذا الأمر كما قال الشاطبي" أن تعرض مسألتك على الشريعة فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمن وأهله فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، أما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم وأما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا السماع فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية. وقال أيضا:" النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً أكانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جار على مقاصد الشريعة". -ذكر دليل المسألة: ينبغي على المفتي أن يذكر دليل حكم الواقعة المستفتى فيها قال ابن القيم:" ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ويأخذه ما أمكنه من ذلك ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجا مجردا عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه(نطاقه) وقلة بضاعته من العلم، ومن تأمل فتاوى النبي الذي قوله حجة بنفسه رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره ووجه مشروعيته"، وقد عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى وهذا العيب أولى بالعيب بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم والقياس الصحيح عيبا فإذا ذكر الدليل، فقد حرم على المستفتي أن يخالفه وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم، وذكر الدليل إنما هو في حق من يفهم الأحكام ويدرك مقاصدها ومراميها ولذلك استحب العلماء أن لا يذكر الدليل للعامي إلا أن يطلبه فيقتصر له على المراد. قال الإمام النووي: 'قال الصميري: لا يذكر الحجة إن أفتى عاميا ويذكرها إن أفتى فقيها" كما يجب تجنب حكاية الخلاف والإكثار من إيراد الأقوال المختلفة حتى لا يشوش على المستفتي، إذ في ذلك مضيعة للوقت ولأن العامي كما قال الشاطبي:" لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين والذي دليله اضعف؟ ولا يعلم هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا؟ لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلا للنظر وليس العامي كذلك". ومع ذكر الدليل لا بد للمفتي أن يكون فطنا يستفصل حيث تدعو الحاجة إلى الاستفصال، ويتركه حيث لا يحتاج إليه ويحيل فيه مرة على ما علم من شرعه ودينه من شروط الحكم وتوابعه. قال اللقاني:" ومتى كان للمسألة شروط وتفاصيل منها قريب ومنها بعيد فالمتعين على المفتي ذكر الشروط والتفاصيل القريبة دون البعيدة. ـ مراعاة أعراف البلدان وتغير العوائد حتى لا يفتى بخلافها، فيكون ذلك سببا في التنفير والتضييق على الناس فإن المفتي والقاضي كما قال الخوارزمي لابد لهما من معرفة أعراف الناس وإلا مضغهما الناس وإن الأحكام المبنية على العوائد تتغير بتغيرها، قال القرافي:" إن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت, وتبطل معها إذا أبطلت وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين"، فالشرع ربط الأحكام بأوصاف، وبنيت عليها أمور الناس، فالعدالة – مثلاً- شرط في قبول الشهادة بنص كتاب الله( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) وحين مراجعة كلام أهل العلم وتعريفاتهم للعدالة وأوصاف أصحابها نلاحظ ربطهم لها بمألوف الناس ودلائل التعقل والمروءة، وهذا حق لا مرية فيه . ومن المعلوم أن هذا أمر متغير، فما يكون مألوفاً في بلد أو فيه دلالة مروءة قد لا يكون في البلد الآخر، وكذلك عند اختلاف الزمن فمثلا: السير مكشوف الرأس أو الأكل في الطرقات كان في يوم من الأيام، أو بلد من البلدان مظهراً من مظاهر خوارم المروءة يقول القرافي:"ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب الشافعي ومالك وغيرهما المرتبة على العوائد والعرف الذين كانا حاصلين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إذا تغيرت تلك العوائد، وصارت العوائد تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولاً فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة ؟ أو يقال: نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد؟ فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين ؟ " ويعقب–رحمه الله تعالى- مجيبا :"إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالة في الدين. بل كل ماهو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغيره إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد". وإلى جانب هذا لا بد من مراعاة تغير العوائد حتى داخل البلد الواحد فإن كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة ومن أمثله هذا ما نقل عن مالك أنه قال:" إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول أن القول قول الزوج مع أن الأصل عدم القبض قال القاضي إسماعيل هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها واليوم عادتها على خلاف ذلك فالقول قول المرأة مع يمينها لأجل اختلاف العوائد. ومثاله ماورد عن مالك أن الشريفة لاترضع مراعاة للعرف أما اليوم فقد تغيرت العادة وتمييز الشريفة من الدنيئة مما يعسر في الرتب كما قال ابن العربي. قال اللقاني: وينبغي أن يعلم أن معنى العادة في اللفظ أن يغلب إطلاق لفظ واستعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من ذلك اللفظ عند الإطلاق، مع أن اللغة لا تقتضيه فهذا هو معنى العادة في اللفظ وهو الحقيقة العرفية وهو المجاز الراجح في الأغلب وهو معنى قول الفقهاء، "أن العرف يقدم على اللغة عند التعارض». ومن أمثلة ما وقع في المدونة أن الرجل إذا قال لامرأته أنت علي حرام أو حلية أوبرية أو وهبتك لأهلك يلزمه الطلاق الثلاث في المدخول بها ولا تنفعه النية إن أراد أقل من الثلاث وهذا بناء على أن هذا اللفظ في عرف الاستعمال اشتهر في إزالة العصمة واشتهر في العدد الذي هو الثلاث. لكن مع مرور الزمن لا تجد الناس يستعملون هذه الصيغ المتقدمة في ذلك، بل تمضي الأعمار ولا يسمع أحد يقول لامرأته إذا أراد طلاقها أنت خلية أو وهبتك لأهلك ولا يسمع أحد يستعمل هذه الألفاظ في إزالة العصمة ولا في عدد الطلقات، فالعرف حينئذ في هذه الألفاظ منفي قطعا وإذا انتفى العرف لم تبق إلا اللغة، لأن الكلام عند عدم النية والبساط يرجع إلى اللغة، واللغة لم تضع هذه الألفاظ لهذه المعاني التي قررها مالك في المدونة بالضرورة ولا يدعي أنها مدلول اللفظ لغة إلا من لا يدري اللغة. وإذا لم تفد هذه الألفاظ هذه المعاني لغة ولا عرفا ولا نية فهذه الأحكام حينئذ بلا مستند والفتيا بغير مستند باطلة إجماعا وحرام على قائلها ومعتقديها وعليه فلفظ الحرام يدل على إزالة العصمة فيكون طلقة رجعية، وغيرها من الألفاظ التي ذكرت معها لا تقع إلا بنية فإن لم تكن نية لا يلزم فيها شيء لأنها من الكنايات الخفية. ومثل هذا يقال فيمن اشتهر عندهم لفظ أنت منطلقة في إزالة العصمة بدل أنت طالق فيحمل الأول في فك العصمة بغير نية لاشتهارها في ذلك ولا يحمل الثاني عليه إلا بنية لعدم اشتهاره فيه. يقول اللقاني: ولا يكفي في الاشتهار كون المفتي يعتقد ذلك، فإن ذلك نشأ عن قراءة المذهب ودراسته والمناظرة عنه، بل الاشتهار أن يكون أهل ذلك المصر لا يفهمون عند الإطلاق إلا ذلك المعنى لا من لفظ الفقهاء بل لاستعمالهم لذلك اللفظ في ذلك المعنى، فهذا هو الاشتهار المقيد لنقل اللفظ من اللغة للعرف." -مراعاة أحوال المستفتي من حيث الشدة واللين: فللمفتي أن يغلظ في الجواب للزجر والتهديد إن احتاج إلى ذلك، وأن يستعمل التأويل في محل الحاجة كما إذا سأله من له عبد عن قتله له وخشي منه المفتي أن يقتله فليقل له أن قتلته قتلناك مناولا له على قوله :" من قتل عبده قتلناه" وقد سئل ابن عباس عن توبة القاتل فقال:" لا توبة له" وسأله آخر فقال له "له توبة ثم قال، رأيت في عيني الأول إرادة القتل فمنعته ورأيت الثاني قد قتل وجاء يطلب المخرج فلم أقنطه". وقد سئل مالك هل لقاتل العمد من توبة؟ فقال ليكثر من شرب الماء البارد يعني لأنه مفقود في النار التي يدخلها إن شاء الله ذلك، أوهمه بذلك الخلود تغليظا عليه وكل هذا مع أمن مفسدة تترتب على الجواب قال اللقاني: وفي بعض الأحوال يتعين الإغلاظ والمبالغة في النكير إذا كان اللين يوهن الحق ويدحضه، وبالجملة فليسلك أقرب الطرق لرواج الصواب بحسن ما يتجه في تلك الحادثة ." -عدم التساهل في الفتوى: قال ابن فرحون: ولا يجوز التساهل في الفتوى ومن عرف بذلك لم يجزله أن يستفتي بل على الحاكم منعه، لأنه قد يحمله على ذلك الأغراض الفاسدة كمتتبع الحيل المحظورة ترخيصا على من يريد نفعه وتغليظا على من يريد ضرره. وقال ابن الصلاح: ومن فعل ذلك هان عليه دينه، أما إذا صح قصد المفتي واحتسب في قصده حيلة ليخلص بها المستفتي من ورطة يمين فذلك حسن جميل.والدليل على جواز الحيل السليمة القصد قوله عز وجل:" وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث"مخاطبا أيوب لما حلف ليضربن امرأته. وبين السمعاني والنووي أن التساهل نوعان: الأول: تتبع الرخص والشبه والحيل المكروهة والمحرمة. والثاني: أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ بمبادىء النظر وأوائل الفكر، فهذا مقصر في حق الاجتهاد، فلا يحل له أن يفتي كذلك ما لم تتقدم معرفته بالمسؤول عنه. قال ابن القيم:" لايجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك بل استحب. ومن التساهل أن يكتب للمستفتي ما له، ولا يكتب ما عليه، مع اقتضاء السؤال لهما ولو أخبره بذلك مشافهة لغرض من الأغراض الفاسدة. وأجاز بعضهم للمفتي أن يتشدد في الفتوى على سبيل السياسة لمن هو مقدم على المعاصي متساهل فيها، وأن يبحث عن التيسير والتسهيل على ما تقضيه الأدلة لمن هو مشدد على نفسه أو غيره، ليكون مآل الفتوى أن يعود المستفتي إلى الطريق الوسط، ذكر ذلك النووي في مقدمة المجموع. ومن نتائج التساهل في الفتوى: الإفراط بالعمل بالمصلحة ولو عارضت النصوص: فالمصلحة المعتبرة شرعاً ليست بذاتها دليلاً مستقلاً بل هي مجموع جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس، بمعنى أن تقدير ما به يكون الصلاح والفساد عائد إلى الشريعة نفسها، فيستحيل عقلاً أن تخالف المصلحة مدلولها أو تعارضه (وقد أُثبتت حجية المصلحة عن طريق النصوص الجزئية فيكون ذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهذا باطل)، فالمصلحة عند العلماء ما كانت ملائمة لمقاصد الشريعة لا تعارض نصاً أو إجماعاً مع تحققها يقينياً أو غالباً وعموم نفعها في الواقع ، أما لو خالفت ذلك فلا اعتبار بها عند عامة الفقهاء والأصوليين. -عدم التمييز بين الناس في الفتوى: كما يحرم التساهل يحرم التمييز بين الناس في الفتوى، فيفتي الفقير بغير ما يفتي به الغني أو يفتي من له سلطة بغير ما يفتي من ليست له سلطة مع اتحادهما في النازلة، قال القرافي: وإذا كان في المسألة قولان: أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تسهيل فلا يفتي العامة بالتشديد والخواص وولاة الأمور بالتسهيل وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه» وأقرب من هذا أن يعلم أحد الخصمين ما يدفع به حجة الآخر بغير حق. ـ تحرير ألفاظ الفتيا، بمعنى أن يحرص المفتي على وضوح العبارة في الفتوى قدر الإمكان وعدم استعمال العبارات الغامضة والمصطلحات الغريبة،قال ابن القيم: "لا يجوز للمفتي الترويج وتحيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة بل عليه أن يبين بياناً مزيلاً للإشكال متضمناً لفصل الخطاب كافياً في حصول المقصود لا يحتاج معه إلى غيره.." فالمراد هو الفهم الذي يحصل به المقصودفلا تكون الفتوى بألفاظ مجملة، لئلا يقع السائل في حيرة أو تفهم على وجه باطل، ، كمن سُئل عن مسألة في المواريث؟ فقال: تقسم على فرائض اللّه عزَّ وجل، أو سئل عن شراء العرايا بالتمر؟ فقال: يجوز بشروطه، فإن الغالب أن المستفتي لا يدري ما شروطه، لكن إن كان السائل من أهل العلم الذين لا يخفى عليهم مثل هذا، بل يريد أن يعرف قول المفتي جاز ذلك ، قال ابن عقيل: يحرم إطلاق الفتيا في اسم مشترك إجماعاً، فمن سُئل" أيؤكل أو يُشرب في رمضان بعد الفجر؟ لابد أن يقول: الفجر الأول أو الثاني، ومثله من سئل عن بيع رطل تمرٍ برطل تمرٍ هل يصح؟ فينبغي أن لا يطلق الجواب بالإجازة أو المنع، بل يقول: إن تساويا كيلاً جاز وإلا فلا. -تجنب الإفتاء إلا فيما وقع: يكره الإفتاء فيما لم يقع من القضايا والنوازل وإذا وردت على المفتي مسألة لابد من سؤال المستفتي هل وقعت؟ فإن قيل نعم أجاب فيها وإلا ترك وقال إذا وقعت يسر الله جوابها، وعن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب وهو على المنبر: أحرِّجُ بالله على كل امرئ مسلم سأل عما لم يكن فإن الله قد بين ما هو كائن،وقد نقل عن مالك انه كان يقول: دعها حتى تقع، وقد أشار أبو بكر محمد بن عاصم في مرتقى الأصول إلى منهج الإمام مالك في هذا الشأن: وإنما الفتوى بما فيه عملْ ** وغيره يصد عنه من سألْ ومكثر فيه السؤال لا يقــرْ ** ويقتدى فيه بما قضى عمــــــرْ ونقل ابن القيم عن كثير من الفقهاء تجنب الإفتاء فيما لم يقع ثم قال: والحق التفصيل فإن كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص ولا أثر فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ويعتبر بها نظائرها ويفرغ عليها فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى ".