الرد الثاني:
إن القرآن نقل إلينا بالتواتر،
جيلاً بعد جيل، فقد حمله من الصحابة من لا يحصي عددهم إلا الله، ونلقه عنهم أضعافهم عدداً إلى يومنا هذا، فتوافق الصحابة على النص القرآني حجة لا ينقضها ولا يقدح فيها مخالفة واحد من آحاد الصحابة أو من بعدهم، إذ مخالفة الآحاد لا تقدح في التواتر، فليس من شرطه عدم وجود المخالف، فقد تواتر عند الناس – اليوم - وجود ملك قديم ، الفرعون خوفو، فلو أنكر اليوم واحد من الباحثين هذا الذي تواتر عند الناس ، وقال: لم يوجد هذا الملك، فإنه لا يلتفت إليه، لمخالفته المتواتر.
ومثله تواتر القرآن برواية الجموع عن الجموع في كل جيل، فلو صح إنكار ابن مسعود سورة من سوره، بل لو أنكر القرآن كله لما قدح هذا بقرآنية القرآن ولا طعن في موثوقيته. هل أسقط ابن مسعود المعوذتين من مصحفه؟
لكن هذه الروايات لا تصح عن ابن مسعود ، ففي أسانيدها ما يقدح في صحتها، فخبر حكِّ السورتين من المصاحف، وقول ابن مسعود
: (ليستا من كتاب الله تبارك وتعالى)، مروي في مسند أحمد والطبراني في الكبير، وتدور أسانيدهما على أبي إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني عن عبد الرحمن بن يزيد.
وأبو إسحاق رغم توثيق العلماء له؛ فإنه قال عنه ابن حبان: "وكان مدلساً"،
والمدلس لا تقبل روايته إلا إذا صرح بالتحديث [أي قال : حدثني]، وترد روايته إذا كانت بصيغة العنعنة، كما في هذه الرواية، حيث يقول فيها: (عن عبد الرحمن بن يزيد).
ولا يتقوى هذا الإسناد بإسناد الطبراني للأثر من رواية الأزرق بن علي (أبي الجهم الحنفي)، وقد ذكره ابن حبان وقال: "يغرب"، أي له غرائب [1].
والأزرق صاحب الغرائب يرويه عن حسان بن إبراهيم الكرماني ، وقد وثقه البعض، وضعفه غيرهم ، كالعقيلي الذي قال عنه: " في حديثه وهم"، كما أعله غير واحد من العلماء، قال ابن حبان: "ربما أخطأ".
وقال أبو زرعة: "لا بأس به".
وقال النسائي: "ليس بالقوي".
وقال ابن عدي: "قد حدث بأفراد كثيرة، وهو عندي من أهل الصدق إلا أنه يغلط في الشيء ولا يتعمد" [2] .
وبهذا يتبين ضعف هذه الروايات المروية عن مثل هؤلاء ، وقد أشار العلماء من أهل الصنعة الحديثية إلى ذلك، فقال ابن حزم : "وكل ما روى عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه؛ فكذب موضوع لا يصح،
وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، وفيها أم القرآن والمعوذتان" [3] .
وكذلك فإن الباقلاني يكذب هذه الأخبار ويقول: "هذا باطل وزور، ولا ينبغي لمسلم أن يثبته على عبد الله بن مسعود بأخبار آحاد معارضة بما هو أقوى منها عن رجال عبد الله في إثباتها قرآناً"[4]،
ونرى في كلام ابن حزم والباقلاني إشارة إلى أمر مهم - نعود إليه - ، وهو مخالفة هذه الروايات الضعيفة للقراءات المتواترة عن ابن مسعود وغيره من الصحابة الكرام.
ويستشهد الباقلاني على ضعف هذه الروايات بعلة أخرى،
وهي سكوت الصحابة على قوله وهم جميعاً يقرؤون المعوذتين، فيقول:
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: الثقات، ابن حبان 8/136، تهذيب التهذيب، ابن حجر 1/175.
[2] انظر: الضعفاء، العقيلي 1/ 255، وتهذيب التهذيب، ابن حجر 2/214-215.
[3] المحلى، ابن حزم 1/13.
[4] نكت الانتصار لنقل القرآن، الباقلاني، ص 75.
[5] المصدر السابق، ص 90.
[6] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ح 9151 من طريق أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن السلمي.
[7] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ح 9152.
[8] أخرجه أحمد ح 20648.
[9] اعتبر أُبي بن كعب ما كان يقرأه النبي ﷺ في قنوته في الصلاة من القرآن، ثم رجع عنه كما يأتي جوابه.
[10] انظر: تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ص 43.
[11] مسند البزار ح 1586، مجمع الزوائد، الهيثمي 7/60.
[12] أخرجه أبو داود في سننه ح 1463.
[13] أخرجه مسلم ح 814.
[14] أخرجه ابن حبان ح 1842.
[15] أخرجه الترمذي ح 2058، والنسائي ح 5494، وابن ماجه ح 3511.
[16] أخرجه أحمد ح 20677.
[17] النشر في القراءات العشر، ابن الجزري 1/155، وانظر: الإقناع في القراءات السبع، ابن الباذش الأنصاري 1/124.
[18] النشر في القراءات العشر، ابن الجزري 1/165، وانظر: الإقناع في القراءات السبع، ابن الباذش الأنصاري 1/135.
[19] انظر: النشر في القراءات العشر، ابن الجزري 1/190.
[20] المجموع شرح المهذب، النووي 3/350.
[21] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير 4/741.
يتبع