وتقول
ا: (جاءت جورية رسول الله
تستعينه في كتابتها، وكانت امرأة حُلوة مُلاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه؛ فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهتها وعرفت أن رسول الله سيرى منها ما رأيت). وكان ما حذِرتْه، إذ رآها وتزوجها
ا. وفي صحيح مسلم: أن رسول الله خرج من عند عائشة ليلاً، قالت: (فغرت! فجاء فرأى ما أصنع فقال: يا عائشة أغرت؟ فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك يارسول الله)
هل تحمل الغبراء مثلك أو......جرتْ يوم الرهان بمثلك الغبراء
فقال رسول الله
: (أوقد جاءك شيطانك؟ قالت: أومعي شيطان؟ قال: نعم. قالت: ومع كل إنسان؟؛ قال: نعم، قالت: ومعك يارسول الله، قال: نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم) وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة قالت: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله
؟ قلنا بلى. قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي
فيها عندي، انقلب فوضع نعليْه عند رجلَيْه، ووضع رداءه وبسط طرف إزاره على فراشه، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، ثم انتعل رُوَيْدًا، وأخذ رداءه رُوَيْدًا، ثم فتح الباب رُوَيْدًا، وخرج فأجافه رُوَيْدًا، قالت: فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري وانطلقت في إثره، فجاء البقيع، فرفع يديه ثلاثًا وأطال القيام، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، وسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل -أغمضت عينها كالنائمة والنفَس متواتر مرتفع- فقال: مالك ياعائش؟ حَشْيَا رابية؟ قالت: لا شيئ يا رسول الله. قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير. قالت: بأبي أنت وأمي يارسول الله، رأيتك خرجتَ فخرجت وراءك خشية أن تذهب إلا بعض نسائك. قال: فأنت السواد الذي أمامي؟ قلت: نعم! قالت: فلَهَدَني على صدري لهْدةً أوجعتني وقال: أظننت أن يحيفَ الله عليك ورسوله ياعائشة. قلت: بأبي أنت وأمي، مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: نعم، أتاني جبريل حين رأيتِ فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، وظننت أن قد رقدتِ فكرهت أن أوقظك وخشيتُ أن تستوْحشي). الرَّوْح والريحان في كلماته.....واللؤلؤ المكنون في بسماته
عليه صلاة الله ما ذّرَّ شارق وما.....سبح الرحمن في الأرض ساجدُ
وأهدت بعض أزواج النبي
إليه طعاما في قصعة وهو عندها، فأخذتها الغيرة وتملكتها رِعدةٌ هزتها، فضربت القصعة بيدها فانكسرت وألقت ما فيها، ورسول الله
في غاية الهدوء والسكينة والوقار، لا تقريع ولا ملام، يظم الكِسرتيْن إحداهما إلى الأخرى ويجمع الطعام، ويعتذر لها لأن لا يُحمل على الذم صنيعها، ويُشير إلى عدم مؤاخذة الغيرى قائلا: (كلوا! غارت أمكم) . كعنبرة شهْباءَ تحمل نفحةً تنفَّسُ في.....صدر النَّدِيِّ فتُنشَقُ تَُعَطر أنفاس الرواة فتعبقُ
ولسان حال المختار: إن البحث عن الدوافع له أثر كبير في تفسير الأفعال، والدافع لما حدث من عائشة هو حب رسول الله
، ولا ينبغي أن يكون الحب سببًا للإساءة إلى المحبوب بحال. ذاك الحبيب فلن يشقى الجليس به.....كم نال من جالس العطَّارَ أعطاره
ثم توج رسول الله ذالك بعدله، فلم يمنعه حب عائشة من أن يحكم عليه بتعويض المكسورة بأخرى من عندها صحيحة، والحال:
إناءٌ بإناء، وطعام بطعام؛ فسارت قضية، من كسر شيئًا فهو له، وعليه مثله.
هكذا مرت الحادثة بدرس في الحِلم وحسن المعاملة، حتى بعد انصراف الصحابة لم يكن لذالك أثر في تعامله، تُخبر عائشة عن ذالك قائلة: (فما رأيت ذالك في وجه رسول الله بعد ذالك). حالها:
فِدًا لك تالِدِي وفدتك نفسي.....ومالي إنه منكم أتاني
وعند أبي يعلى بسند قال فيه الحافظ في الفتح لا بأس به: أن عائشة كانت في سفر على جمل ناجٍ ومتاعها خفيف، وصفية على جمل ثَفَالٍ بطيئ، ومتاعُها ثقيل؛ فقال
: (حَوِّلوا متاع عائشة على جمل صفية، ومتاع صفية على جمل عائشة حتى يمضي الركب. فقالت عائشة وقد أخذتها الغيرة: يال عباد الله! غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله! فقال رسول الله
ما معناه: يأم عبد الله، إن متاعكِ فيه خِف ومتاع صفية فيه ثِقل، فأبطأ الركب فحولنا المتاع ليمضي الركب) وحاله: يا أيها الغيرى اسمعي لمقالتي.....وتفهمي عن بعض ما لم تفهمي
فقالت: (ألست تزعم أمك نبي الله؟. فتبسم وقال: أوفي شك أنت ياأم عبد الله؟. قالت: فهلا عدلت يا رسول الله؟ قالت: فسمعني أبو بكر وكان فيه غرب وحِدَّة.
وإن حدته والله يكلأه....كالبرق والرعد يأتي بعده المطر
قالت: فأقبل فلطمني) وحاله:
أفي الشمس شك أنها الشمس بعدما......تجلت عِيانًا ليس من دونها سَترُ
فقال رسول الله
: (مهلا يا أبا بكر! قال: يا رسول الله أما سمعت ما قالت. فقال: يا أبا بكر إن الغيرى لا تُبصر أسفل الوادي من أعلاه). كَلِمٌ كالروض حلاه الندى....بجمانٍ صِيغَ من ماء معين
والله لن تسعد أسرة في غير منهج الله الذي جلاه لنا رسول الله
. ومعتقدُ السعادة في سِواه......كمعتقد النبوة في سَجاحِ
وفي صحيح مسلم ما مختصره: اجتمع أمهات المؤمنين برسول الله في بيت عائشة وفي ليلتها، فجاءت زينب فمد يده إليها فقالت عائشة: هذه زينب، فكف يده. فتقاولتا حتى اصطخبتا وارتفعت أصواتهما؛ ومر أبو بكر فسمع الصوت، فقال: اخرج يارسول الله إلى الصلاة واحْثُ في أفواههن التراب.خرج رسول الله
وترك الموقف في ثورته، وتغاضى وتغافل عنه، وحاله: لا تُطفأ النيران بالنيرانِ. وانصرف لصلاته، فانطفأ ما حدث، وقُضي عليه في مهده؛ إلا أن عائشة بقيت تحمل هم ما يقول لها أبو بكر. فقالت: الآن يجيئ أبو بكر فيفعل بي ويفعل! وجاءها أبو بكر قائلا: أتصنعين هذا؟ ثم زجرها على ما بدر منها وقال لها قولا شديدًا. وحالها: أوقعْتِنِي ياغيرتي وفعلتِ فعلتك التي
لإن ند اللسان ففي فؤادي......رسَى حبٌّ له كالراسياتِ
فتغاضيا لا غفلة معشر الإخوة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة)
وروى الإمام أحمد: أن عائشة
ا قالت: رجع رسول الله من جنازة بالبقيع فوجدني أجد صداعًا، وأقول وارأساه؛ فقال: بل أنا وارأساه، ياعائشة! ما ضرك لو مِتِّ قبلي فقمت عليك فغسَّلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك. فقالت: لكأني بك والله لو فعلت ذالك قد رجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك) فتبسم رسول الله
بسماتٍ، لو برقْنَ على صخرة مادتْ من الطَّربِ. ثم بُدِءَ بوجعه الذي مات فيه.
فبمهجتي أفدي الذي.....أمسى يقيم بمهجتي
وكان رسول الله
إذا أراد سفرًا كما في الصحيح أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشة وحفصة، وكان
إذا كان بالليل سار مع عائشة يُحادثها، فقالت لها حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر؟. قالت عائشة: بلى! وركبت بعير حفصة فجاء النبي
إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها وسار معها حتى نزلوا، وافتقدته عائشة فثارت ومارت بها غيرةٌ يُقصِّر عن وصفها ما أقول. جعلت رجليها بين الإذخر وتقول: (يا رب سلطْ عليَّ عقربا أو حيّةً تلدغني! رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئًا). حالها: بَعُدتُ عنه فأمسى عَسْجَدي فِظة.....وأصبحت فِظَّتي من بعده فَظَّة
صبوحي إذا ما ذرَّت الشمس وجهُه....ولي وجهُه عند المساء غَبوقُ
وفقدت رسول الله كما في صحيح مسلم وظنت أنه ذهب لبعض نسائه، فتحسستْه فإذا هو راكع أو ساجد يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) فقالت: (بأبي أنت وأمي يارسول الله، إني لفي شأن وإنك لفي شأن). والحال:
سلام على من إليه أتوق....ومن لست للبعد عنه أطيقُ
وآخر ذكراي حين أنام......وأوَّل ذكراي حين أفيقُ
ومن عجيب غيرتها معشر الإخوة، أن كانت تغار من خديجة وقد لقيت ربها قبل أن تكون زوجًا لنبينا، ولعل ذالك من لطف الله بعائشة لأن لا يتكدر عيْشُها؛ قالت
ا: (ماغرْت على امرأة ما غِرت على خديجة، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين) لأنه
كان يجهر بحبها، ويُكثر ذكرها، ويذبح الشاة ويهديها لخلائلها، ويقول: (إني رُزقت حبها، ما أبدلني الله خيرًا منها) حاله: آليتُ لا أنساها ما هب الصبا.....حتى أُوسَّد في صفيح المُلحدِ
حُقَّ معشر الإخوة للصديقة أن تغار، وما لا تغار على سيد ولد آدم الذي فُتِحت عينها على حبه وإجلاله، ما لها لا تغار على الرجل الفريد، وهي التي لم تعرف غيره إذ هي البكر الوحيد، حُقَّ لها أن تغار، وأن تُردِّد في الأغوار والأنجادِ والبِيد:
زوجي رسول الله لم أر غيره....الله زوجني به وحباني
ومع غيرتها الشديدة كانت في غاية الإنصاف مع أخواتها، وما ذا بغريب على الصدّيقة الرشيدة.
هي الروضة الغنّاء فوّاحة الشذى....تميسُ اختيالاً بالعطور ورودُها
تهتم بصواحبها وتوقرهن، وتثني عليهن بما تعلمه منهن.
تقول في ميمونة: (أما إنها من أتقانا لله).
وفي صفية: (ما رأيت صانعة طعام أحسن من صفية).
وفي سودة: (ما رأيت امرأة أحب إلي من أن أكون في مِسلاخها من سوْدة).
وفي زينب وهي التي تساميها في المنزلة: (لم أر امرأة قطُّ في الدين خيرًا منها).
وفي جويرية: (ما رأيت امرأة أعظم بركة على قومها منها).
وكانت مع حفصة مثالا حيا للصداقة والرأي الواحد في الأمور المنزلية.
إنهن نساء النبي، تأدبن بأدبه، وتطلعن إلى رضاه، فلم يجاوزن بالغيرة ما يجمل بهن على بشريتهن
ن وأرضاهن. نواشئُ في طهْرِ الطوايا موائِِسُ.....وطيِّبةٌ أعراقهم والمغارسُ
قلوبهمُ بيضا، رُواءٌ من التقى.... تكاد تَفَقَّا، والبطون خوامصُ
مُحكمات الذكر قد أغنتهمُ.....عن فضول القول من قيلٍ وقالِ
ُلطف رسول الله
مع عائشة ما لطفه! حُضارَةُ في لُطفه قطرةٌ.....ورَضْوى إلى حبه كالحصاة
إنه
خير الأزواج، وألطفهم بأهله، ما عنفها ولا اشتد عليها يومًا ما، بل كان يترضَّاها إذا غضبت، ويحول بينها وبين من يريدها بيسير الأذى ولو كان أباها. فمن كان في روضه رائضا.....فما زال في عيشة راضية
أخرج أحمد أن أبا بكر استأذن على رسول الله فسمع صوت عائشة عاليا فأهوى عليها أبو بكر ليلطمها، وهو يقول: (يا بنت أم رومان، ترفعين صوتك على رسول الله؟!) فأمسكه رسول الله، وحال بينه وبينها، فكان أرأف بها من أبيها، وخرج أبو بكر مغضبًا؛ فقال
: (يا عائشة! كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟). تجري إلى القلب....جري الماء إلى العودِ
وجاء أبو بكر فوجدهما يضحكان وقد اصطلحا، فقال: (أدخلاني في السلم كما أدخلتماني في الحرب. فقال
: قد فعلنا، قد فعلنا). حروف تفوق بتأثيرها....نفيس الحُليِّ على الخُرَّدِ
كان
يتعاهدها بما يسرُّها، فغالبا ما ينام ويضع رأسه على فخذها ويتكئ في حِجرها. خرجت ذات مرةٍ مع رسول الله في بعض أسفاره كما في الصحيح، فانقطع عِقدها، فأقام رسول الله والناس معه على التماسه، فقال الناس لأبي بكر: (ألا ترى ما صنعت عائشة، أقامت برسول الله والناس)، فجاء أبو بكر إليها ورسول الله واضعٌ رأسه على فخذها، فعاتبها وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتها، تقول: (فلا يمنعني من التحرك إلامكان رسول الله
على فخذي؛ وأصبح الناس على غير ماء، فأنزل الله: (فتيمموا صعيدًا طيبًا). فيأتي أبوها الذي كان يعنفها فرحا ويقول: (والله ما علمتُ يابنية إنكِ لمباركة، ماذا جعل الله للمسلمين في حبسك من اليسر والبركة؟). إنها حبيبة رسول الله، كانت تغتسل معه من إناء واحد، وتبادره: (دع لي، دع لي). وتشرب من إناء ثم تناوله فيضع فاه على موضع فيها، وتتعرَّقُ العظم ثم تناوله إياه، فيضع فاه على موضع فيها. لكأنها والله نَشْوى.
وما شربت مُدامًا إنما.....أضحت بخمر رُضابه تتنبَّذا
وسابقها مرة فسبقته، ثم سابقها أخرى فسبقها، ثم قال تطييبًا لخاطرها: (هذه بتلك) وهو يضحك. وحالها:
لعمرك ما كل الوجوه إذا بدت.....بمُغْنيةٍ عن وجهكم وهو واحدُ
ما زال حبك يجري في دمي.....وأنا من غيركم مّوْجةٌ ضاعت شواطيها
قد اشتريتك بالدنيا وما فيها....ودخلت جنة حبكم متنزها
إن يكن للعفاف في الناس أم.....فهي رغم الأوخاش أم العفاف
يتبع