"لكل عصر جُعْلانه"، فكما تولى رأس النفاق الطعن في عرضها وهي جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، هاهو الطعن يتجدد من زنادقة العصر وهي موسدة في قبرها، وذا دليل على عظمتها ووهن وجبن وخَوَرِ خصومها، ونقول بقولها لما تناول الأقزام في حياتها أبا بكر وعمر
ا: (وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل، فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر). ليس الضياء يُقاسُ بالظلماء.
إن يكن للعفاف في الناس أم ......فهي رغم الأوباش أم العفاف
برَّء الله عِرضها في كتابٍ.....لامست آيُه أديم الشغافِ
عائشة ووداع الحبيب محمد
يال عائشة! يال عائشة وهي تودع حبيبا ما خلق الله خلقًا أكرم عليه منه، رأت رضي الله عنها في منامها أنه سقط في حُجرتها ثلاث أقمار، وأخبرت أبا بكر فقال: (إن صدقت رؤياك دُفن في بيتك ثلاثةٌ هم خير أهل الأرض). وبُدئ الوجع برسول الله، وأخذ يسأل: (أين أنا غدًا) حِرصا على بيت عائشة، فأذن له أزواجه أن يكون حيث أحب، فنالت شرف خِدمته في لحظاته الأخيرة.
وبيْنَا رسول الله
في بيتها وفي يومها، قد أسندته إلى صدرها بالود والحب المتين، دخل أخوها والسواك بيده، فرأته ينظر إليه، قالت: (فقلت آخذه لك؟ فأشار أن نعم. أليِّنه لك؟ فأشار أن نعم) قالت: (فأخذته فمضغته ونفضته وطيبته ثم دفعته إليه فاسْتَنَّ به كأحسنِ ما رأيته مستنا قط) وظلت تحمد الله الذي جمع بين ريقها وريقه في آخر يوم له، حالها: فلو ندَّاه ريقك وهو شهْدٌ.....ولاقى ثغر مخلوق سِواك
لقال على البديهة هل سمعتم ....خلاي الشهد تُدعى ياأراكَ
ياحبذا نفحة مرت بفيك لنا.....ورَاكَةٌ غُمست فيها ثناياكَ
قالت: (وجعلت يُدخل يديه في رَكوة ماء ويمسح بها وجهه، ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات. ثم رفع بصره إلى السماء، وجعل يقول: اللهم في الرفيق الأعلى. فعلمت أنه لا يختارنا).
قد كنت أهوى أن أُشاطره الرَّدى.....لكن أراد الله خير مرادِي
أعْزِزْ علَيَّ بأن يُفارق ناظري......لمعان ذاك الكوكب الوقادِ
من فوق صدر الأم فاضت نفسه في الخالدي، قالت: (فلم أجد ريحا كانت أطيب من ريح نفسه حين خرجت منه). وقامت كئيبًا ليس في وجهها....دم من الحزن تذري عَبْرةً تتحدر
مصائب لو وقعن على......جبالٍ لهدمت الجبال الراسيات
القلوب فزعة، والنفوس مُروَّعة، والعقول حيْرَى ذاهبة.
لوَاعجٌ أفصحت عنها الدموع وقد.....كادت تُجَمْجِمها الأحشاء والضِّلعُ
ولا خطب من هذا أمرُّ وأفدح......وما عذر عين لا تجود وتسفحُ
فمن كان قبل اليوم يستقبح البكا.....فقد حسن اليوم الذي كان يَقْبُحُ
فصدرها بشواظ الحزن موقودُ، تنسى الخطوب ولا تنسى غداة حدى به الحِمامُ، وركن القلب مهدودُ.
الموقف عصيب، طاشت فيه أحلام عمالقة الرجال، وثبَّتها الكبير المتعال، كما ثبت الله الناس بأبيها خير الرجال، ودُفن
في المكان الذي تُوفي فيه، حينها قال أبو بكر: (هذا خير أقمارك ياعائشة). وأضحت حجرة عائشة بما حوته من جسده الطاهر، أفضل بقعة على وجه الأرض، بينها وبين منبره روضة من رياض الجنة. وبعد سنتين لقي الصديق ربه، بعد أن ثبت الله به الدين، ودُفن في حجرتها ليكون القمر الثاني بعد سيد المرسلين، وبعد مدة يستأذن الشهيد عمر أن يدفن مع صاحبيه فأذنت له وآثرته به، فاجتمع في تلك الحجرة ثلاثة هم خير أهل الأرض أجمعين.
فمن قاس الملوك بهم لجهل.....كمن قاس النجوم إلى بَراحِ
أُولاكَ فخري، فمن يأتي بمثلهمُ؟.....في منزل هابطٍ او ظاهرٍ ضاحِ
إن يكن للثبات في الناس أم....فهي رغم الأوباش أم الثباتِ
يتبع