ما إن تُرى إلا تكبر أو تُعَلِّمُ أو ترتل سورة أو تسجدُ، إنها صورة حية مصغرة لعبادة رسول الله
، تُداوم على العبادة عامة، ولا تدع قيام الليل خاصة. روت: (أن رسول الله
كان يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله) ثم قالت: (ولقد كنت أصليها على عهد رسول الله، والله لو أن أبي نُشر من قبره فنهاني عنها ما تركتها). ولما قال رسول الله
للنساء: (لكن أفضل الجهاد، حج مبرور). قالت: (لا أدع الحج بعدما سمعت هذا من رسول الله
). فإني ما حييت على هُداه....وإني بالمغيب له نصيرُ
كانت إذا عملت عملا أثبتته أُسوة برسول الله، الذي قالت عنه: (كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان يستطيع رسول الله
). وإذا حَلَّت الهداية قلبًا.....نشطت للعبادة الأعضاء
علت عباد ذي الأرضين طرًّا....كما علت "الصوى" شُم الجبال
كَعَرف الطيب فاح من الشمالِ.
إنه تواضع آل بيت النبوة، انكسار لرب البرية، مع نفس كريمة أبية.
وكذا الشريف إذا تناهى في العُلى....عَدَّ التكبر أوضع الأفعالِ
تقول في عظيم تواضع لله، يوم برأها الله: (والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله رُأيا يبرؤني بها الله).
لأن كريم الأصل كالغصن كلما....تَحَمَّل من خير تواضع وانحنى
وفي الصحيح أنها أوصت عبد الله بن الزبير: (لا تدفني مع رسول الله، وادفني مع صواحبي في البقيع، لا أُزكى به أبدًا).
كذا مُثْمر الأغصان يدنو من الثرا.....وعاطِلُه يبغي بهامته الشِّعرى
إن يكن للوقار في الناس أم....فهي رغم الأوباش أم الوقار
عائشة والكرم والجود والسخا ما عائشة!
أسخى الكرائمِ كفها سحَّاءُ، تُعطي بلا وجلٍ ولا ينتابها عند العطاء تردد وجفاءُ، ثقةً بأن الله جل جلاله هو خير من يُرجى لديه جزاءُ.
كانت مثلا في الجود والزهد، لا يثبت لها مال في يد.
لا يألف الدرهم المضروب راحته.....لكن يمر عليها وهو منطلقُ
كانت خالية القلب عما في يدها، فكبف بما خلت منه يدها؟. أعرضت عن الدنيا وأقبلت على الله والدار الآخرة، فهي كما وُصفت للدنيا قالية، وعن شرورها لاهية، وعلى فقد أليفها باكية.
ما تأخرت عن بذلٍ أبدًا.....وما أمسكت عن معروف يدًا
يقول عروة: (ولقد رأيتها تقسم سبعين ألفًا وهي ترقع جَيْب دِرعها).
فكات ترى المعروف خير الغنائمِ....وهَمُّ بني الدنيا وغالب سعيهم
لجمع المواشي شائها والأباقرِ
ثبتت على الحياة التي عاشتها مع رسول الله، فلم تغير شيئا منها.
استضافها عروة يوما وبالغ في إكرامها، فجعل يرفع قصعة ويضع أخرى، ويقرب طعاما ويرفع آخر، فحولت وجهها إلى الحائط واندفعت تبكي. فقال لها عروة: (كدرت علينا أي أماه. فقالت: -وهي تتخيل حياة رسول الله- والذي بعث محمدا بالحق، ما رأى المناخل مذ بعثه الله، وما شبع من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبضه الله).
ولن أنساه لا والله حتى......أُوسَّد في الثرا بعد انتقالي
فاستعبر الجميع، وتركوا الطعام بحاله.
وأهدى لها معاوة ثيابا وورِقا، فقلبتها ثم بكت وقالت: (لكن رسول الله ما كان يجد هذا). ثم تصدقت بها ولم تدخر شيئا له، وحالها:
لا لذةٌ ليَ في غير الجميل ولا.....في غير أودية المعروف أفراحي
إنها أكرم أهل زمانها، تجمع الشيئ إلى الشيئ ثم تَقسِمه، بعث لها معاوة بمائة ألف درهم، فما أمست حتى فرقتها، وبعث لها ابن الزبير بمثلها، فجعلت تقسمها وهي صائمة ونسيت نفسها.
فشاركها في مالها كلُّ مُمْلِقٍ.....وما إن لها في قدرها من مشارك
وتؤثر غيرها بالزاد جودًا.....وتقنع في المعيشة بالرماقِ
ما أكثر ما تصدقت بالرغيف والتمرة، وتفطر على الماء.
لم تُبق يم صيامها شيئا به....تقتات حين يُخيِّم الإمساءُ
كانت صائمة ذات يوم وجاء سائل فقالت للجارية: (أعطي السائل. قالت: ليس عندنا سوى قرص شعير تفطرين عليه. قالت: ادفعيه إليه ويرزق الله). ذهبت بريرة متثاقلة وأعطته، وجاء وقت الإفطار وأفطرت على الماء وقامت تصلي المغرب، ولم تفرغ من صلاتها حتى أتى آتٍ بشاة وكفنها من خبز وغيره. (ما هذا يابريرة؟ قالت أهداه رجل والله ما رأيته قبل اليوم يُهدي لنا شيئا قط. قالت: كلي يابريرة! هذا خير من قرصك). والله لا يكمل إيمان عبد حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه بما في يده.
وذا الكَلِمُ الذي إن كان حدٌّ.....لغايات اليقين فذاك حده
تدخل عليها سائلة معها ابنتاها فأعطتها ثلاث تمرات ولعلها لم تجد سواها.
لا الدنيا وما رجحت......به الموازين فيها والمكايلُ
إذا لم تجد شيئا تتصدق به باعت بعض ما تملك لتتصدق به.
بذلت جميع عطائها.....وتخيرت بصنيعها أن يشبع الفقراءُ
حتى وإن جاعت وأمسى غيرها....في خير حال واعتراه رخاءُ
كانت عظيمة العناية بالأرقاء والأيتام والموالي، اشترت بريرة وأعتقتها، وأعتقت في كفارة يمين أربعين رقبة، وعندها جارية قيل إنها من ولد إسماعيل فأعتقتها، وقامت بتربية ابن الزبير، وبنات محمد بن أبي بكر وبعض جوار الأنصار.
إلى حِجرها يأوي اليتامى كما.....أوى إلى حرم الله الحمام أَوَالفَ
فأخرج الله من تحت يدها عباقرة كانوا على دين الله أُمناء حفظة: كمسروق وعَمرة، والقاسم وعروة.
مناقبٌ لا مرور الدهر يُخْلِقُها.....ولا يُخاف على محوٍ لها ماحِ
إنها الصديقة بنت الصديق، الكريمة بنت الكريم. قد عُوِّدت بسط الأكف صغيرة من والد لم تشهد الغبراء كسخائه بعد النبي محمد مهما تنافس في النَّدى الكرماءُ.
حتى غدى خلقا لها وسجية....تَرْقى بها الصديقة العصماءُ
فهذا النَّوْر من تلك الغّوَادِ.....وهذا المهر من ذاك الجوادِ
وأختها أسماء ذات النطاقين، لا تدخر شيئا لغد.
وخاتمة المسك ومسك الختام ودرة الدرر، زوجها خير البشر، أجود بالخير من الريح المرسلة.
كأن أيدِيَهم في الناس ما خُلقت.....إلا لبذل الأياد والعطياتِ
وكذا الفروع تطول وهي شبيهةٌ.....بالأصل في ورق وفي أثمارِ
إن يكن للسخاء في الناس أم.....فهي رغم الأوخاش أم السخاء
عائشة عند أكابر الصحابة والتابعين ما عائشة!
هي البدر يشرق للمستنير.....هي البحر يزخر للواردِ
لقد كانت محلَّ ثناء وتقدير أكابر صحابة رسول الله والتابعين
أجمعين. عمر يزيد فيما فرض لها ألفين، ويقول: (إنها حبيبة رسول الله).
وعلي مع ما وقع بينهما يُثني عليها ويقول: (إنها خليلة رسول الله).
وعمار يقول لرجل نال منها: (اغرب مقبوحا! أتؤذي حبيبة رسول الله؟).
وأسيد بن حضير يقول لها: (جزاك الله خيرًا، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك فيه مخرجا وجعل فيه للمسلمين بركة).
وكان مسروق إذا حدث عنها قال: (حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة من فوق سبع سماوات).
والناس في خيرٍ وفي ضده.....هم شهداء الله في أرضه
عائشة وعثمان ما عائشة وعثمان!
نفوس أخصبت حبا وأدنت ....إلى الدنيا، جَنًا عذب المذاقِ
عرف عثمان لها فضلها ومكانتها وحاجة الناس لعلمها فاعتنى بها وبأخواتها، وكانت أعرفَ الناس بمنزلة عثمان، فانفردت برواية بعض ما ورد في مناقب عثمان، فهي راوية أنها رأت رسول الله يدعو لعثمان رافعًا يديه، وهي راوية قوله صلى الله عليه وسلم فيه: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة).
ولما سمعت من ينال منه غضبت غضبا شديدا، وقالت: (لقد زوجه رسول الله ابنتيه، وكان كاتبه، وما كان الله لينزل عبدا من نبيه بتلك المنزلة إلا وهو كريم عليه).
إن أنكَرَتْ غُلف البصائر قدره.....فالنور دَيْجُورٌ بِمُقلة أغلفَ
عائشة وفاطمة ما عائشة وفاطمة!
رابطة متينة، وصلة قوية، على أكمل ما ترضاه السَّجيَّة البشرية.
لقد جمع الإيمان بين قلوبهم.....كما جُمعت في الراحَتَيْن الأصابعُ
لقد كانتا شريكتين في قلب واحد، هو قلب سيد ولد ابن آدم أجمعين، لكنها شركة بين كريمتين.
لن يبلغ المدح في تَقْريض مجدهما.....مداه حتى كأن المادح الهادي
والله يعلم والأصحاب أن لهما.....عند الفَخَار لسان غيرُ لجْلاجِ
هذه عائشة
ا تقول: (ما رأيت أحدا أحسن من فاطمة غير أبيها). وسئلت: (من أحب الناس لرسول الله
؟: قالت فاطمة). وقالت: (ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا وهديا برسول الله
في قيامه وقعوده من فاطمة). وهي التي قالت: (أقبلت فاطمة تمشي، ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله
، فلما رآها رحب بها وأجلسها عن يمينه). وهي راوية حديث فضل أهل البيت، الذي يُعتبر من أعظم مناقب فاطمة وعلي والحسن والحسين
أجمعين. يوم أدخلهم رسول الله في مُرطه المرحل ثم قال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). وهي راوية حديث المُسَارَّة: (يافاطمة! أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة). هذا يجري في أواخر حياة فاطمة، مما يدل على علاقة وطيدة عظيمة بعائشة، وحال عائشة:
إن المودة في قُرْباكمُ لغنًى.....لا يستميل فؤادي عنه تمويلُ
وإني وإياكِ كعين وأختها.....وإني وإياك ككفٍّ ومِعصمِ
لأنت من دون هذا الخلق كلِّهمُ......أحق فينا وأولى بالموالات
عائشة وعلي ما عائشة وعلي!
رابطة شمَّاء، (أصلها ثابت وفرعها في السماء)، إنها علاقة الابن بأمه، فهو أعرف الناس بمنزلتها عند رسول الله، وقد قال على المنبر: (أشهد بالله إنها لزوجة رسول الله في الدنيا والآخرة).
وعرفت له فضله ومكانته من رسول الله، وقَرابته ومصاهرته وسابقته.
وهي راوية حديث المِرط الذي هو من أعظم مناقبه.
ولما سئلت عنه قالت: (ما رأيت رجلا كان أحب لرسول الله منه، ولا امرأة كانت أحب إلى رسول من امرأته).
تُحِيلُ إليه بعض المسائل وتقول: (إنه أعلم بها مني).
وكانت تنصح ببيعته، جاءها الأحنف بعد مقتل عثمان
ا فقال: (بمن تأمريني. قالت: بعلي). فهو بتبجيلٍ وتعظيم حَرِي....من رامه بالذمِّ فهو المفتري
أما مسيرها إليه فما كان بقصد القتال، بل للإصلاح بين الناس، والأمر بالإصلاح مخاطب به الذكر والأنثى وجميع الناس: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس). ولذا قال الزبير لها لما أرادت الرجوع: (عسى الله أن يصلح بك بين الناس). ولم يرد الله بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع الإصلاح، إذ قام السبئيون الثائرون لما رأوا أن الصلح ليس في صالحهم وأن الدائرة تدور عليهم بإنشاب الحرب سرًّا، إذ غدوا في الغَلَسِ فوضعوا السلاح في الفريقين. حاول علي وعائشة تهدئة ما حدث ولكن الأمر أفلت من أيديهم. خرجت عائشة لميدان القتال لإيقافه، فحدث خلاف ما أرادت، إذ حاول السبئية رميها فاستبسل حول الجمل أصحابها، وحمي القتال عندها وحدث ما حدث، وكان قدَرًا مقدورًا. ولقد ندمت على مسيرها ندامة كلية، على أنها ما فعلت ذالك إلا قاصدة للخير متأولة، فكانت إذا قرأت: (وقرن في بيوتكن) بكت حتى تبلّ دموعها خمارَها، وندم علي فقال لابنه الحسن: (ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة)، وكان يقول: (اللهم ليس هذا أردت). وبعد ما حدث، جاء إليها فسلَّم عليها، ولعله ذكر ما قاله له رسول الله
كما في المسند وحسنه ابن حجر: (إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر. فقال: أنا؟ قال: نعم. قال: فأنا أشقاهم يارسول الله! قال: لا، ولكن إذا كان ذاك فارددها إلى مأمنها) وقد فعل
، فجهزها بكل شيئ ينبغي لها، وأخرج أربعين من نساء البصرة معها، وقال لأخيها محمد: (تجهز فبلغها)، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاء حتى وقف لها وودعها، وعادت إلى المدينة بَرَّةً تقية مجتهدة مثابة فيما تأولت، مأجورة فيما فعلت كما قال ابن العربي
ا وعن علي. وقد ندم عامة السابقين على ما كان من قتال وقع بغير اختيارهم، ومع ذا فالله قد أوجب لهم الرضوان والجنة، ولقد عفا عنهم وهو يعلم ما سيكون منهم.
فالله يرضى عنهمُ وعنا....تفضُّلا وكَرما ومنًّا
يتبع