05-07-13, 03:00 AM
|
المشاركة رقم: 2
|
المعلومات |
الكاتب: |
|
اللقب: |
عضو |
الرتبة |
|
الصورة الرمزية |
|
البيانات |
التسجيل: |
Jun 2012 |
العضوية: |
8290 |
المشاركات: |
1,600 [+] |
الجنس: |
انثى |
المذهب: |
على خطى السلف |
بمعدل : |
0.34 يوميا |
اخر زياره : |
[+] |
معدل التقييم: |
17 |
نقاط التقييم: |
188 |
الإتصالات |
الحالة: |
|
وسائل الإتصال: |
|
|
كاتب الموضوع :
عقيدتي نجاتي
المنتدى :
البيــت العـــام
المبحث السادس
لزوم الرفق، ومجانبة الغلظة والعنف
من القواعد الكريمة والأصول الحميدة التي يجب أن يتمسك بها من يتصدى لدعوة الناس إلى الخير ونهيهم عن الشر، وخاصة في زمن الفتن : الرفق، ولين الجانب؛ ليكون التأثير أبلغ والاستجابة أقوى ، وهذه الصفة من اللطف والرفق واللين هي من أميز ما يجب أن يظهر به الداعية في طريق الإصلاح والتبليغ والدعوة إلى الله ، فقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم : " ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا عزل عن شيء إلا شانه"( ) .
إن الرفق واللطف واللين في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له فوائد عظيمة في كسب الأنصار والمؤيدين وبالتالي انطلاقالدعوة إلى الخير والالتفاف حولها ، ولقد امتن ربنا _جل وعلا_ على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن جبله على الرفق ومحبة الرفق، وأن جنبه الغلظة، والفظاظة، فقال _عز وجل_: "وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ "( ) .
ولقد كانت سيرته- عليه الصلاة والسلام- حافلةً بهذا الخلق الكريم الذي مَنْ مَلَكَه بسط سلطانه على القلوب.
وكما كان _عليه الصلاة والسلام_ متمثلاً هذا الخلق فقد كان يأمر به، ويبين فضله.
قال "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على غيره ( ) .
ولما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذاً إلى اليمن قال لهما: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا"( ) .
قال الإمام أحمد –رحمه الله-: "يأمر بالرفق والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب؛ فيكون يريد ينتصر لنفسه" ( ) ولقد أحسن من قال:
لو سار ألفُ مَدَجَّجٍ في حاجة *** لم يَقْضِها إلا الذي يترفق( )
وكان يقال: "من لانت كلمته وجبت محبته"( ) .
ويتأكد هذا الأدب في مثل هذه الأحوال العصيبة التي نحتاج فيها إلى تلك المعاني التي تنهض بالأمة، وتشد من أزر الدعوة.
كما كان ذلك دأب الأنبياء، قال _تعالى_ في خطاب هارون وموسى- عليهما الصلاة والسلام - " اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى " ( )
ولقَّن موسى- عليه الصلاة والسلام- من القول اللين أحسنَ ما يخاطب به جبار يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فقال تعالى: " فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى "( ).
قال ابن القيم – رحمهالله -: "وتأمل امتثال موسى لما أُمِر به كيف قال لفرعون: " فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى "( ) .
فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض، لا مَخْرجَ الأمر، وقال:"إِلَى أَنْ تَزَكَّى" ولم يقل: (إلى أن أزكيك).
فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ التزكِّي دون غيره؛ لما فيه من البركة، والخير، والنماء.
ثم قال: "وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ" أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك.
وقال: "إِلَى رَبِّكَ" استدعاءً لإيمانه بربه الذي خلقه، ورزقه، ورباه بنعمه صغيراً وكبيراً ( ).
ولهذا فإن الكلمة التي تُلقى أو تحرر في أدب، وسعة صدر، تسيغها القلوب، وتهش لها النفوس، وترتاح لها الأسماع.
وخلاصة القول أن الرفق هو الأصل، وهو الأجدى، والأنفع، وأن الشدة لا تصلح من كل أحد، ولا تليق مع كل أحد، فقد تلائم إذا صدرت من ذي قدر كبير في سن، أو علم وكانت في حدود الحكمة، واللباقة، واللياقة.
أما إذا صدرت ممن ليس له قدر في سن، أو علم، أو كانت في غير موضعها، وتوجهت إلى ذي قدر أو جاه_فإنها _أعني الشدة_ تضر أكثر مما تنفع، وتفسد أكثر من أن تصلح.
المبحث السابع
التثبت مما يقال
يكون التثبت مما يقال بالنظر في جدوى نشره، والحرص على رد الأمور إلى أهلها:
فالعاقل اللبيب لا يتكلم في شيء إلا إذا تثبَّت من صحته؛ فإذا ثبت لديه ذلك نَظَرَ في جدوى نشره؛ فإن كان في نشره حفز للخير، واجتماعٌ عليه _نشره، وأظهره، وإن كان خلاف ذلك أعرض عنه، وطواه.
ولقد جاء النهي الصريح عن أن يحدث المرء بكل ما سمع.
قال- صلى الله عليه وسلم - : "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" ( ).
ومنها ما رواه بسنده عن عمر بن الخطاب- رضيالله عنه - قال: "بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع"( ).
وقال مسلم: "حدثنا محمد بن المثنى قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: "لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع"( ).
ويتعين هذا الأدب في وقت الفتن والملمات، فيجب على المسلم أن يتحرى هذا الأدب؛ حتى يقرب من السلامة، وينأى عن العطب.
قالالله _تعالى_:" وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا "( ) .
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي - رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية: "هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة مما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم _أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم: أهل الرأي، والعلم، والنصح، والعقل، والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها، فإذا رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين، وسروراً لهم، وتحرزاً من أعدائهم_فعلوا ذلك، وإن رأوا ما ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال: "لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ".
أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة، وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يُتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ.
وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمرُ بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه؟"( ) .
وقال - رحمهالله تعالى - في موضع آخر حاثاً على الثبت، والتدبر، والتأمل قال: "وفي قوله _تعالى_: " وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا "( ) أدبُ طالب العلم، وأنه ينبغي له أن يتأنى في تدبره للعلم، ولا يستعجل بالحكم على الأشياء، ولا يعجب بنفسه، ويسأل ربه العلم النافع والتسهيل"( ) وقال: قوله –تعالى-: " لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ "( )، هذا إرشاد منه لعباده إذا سمعوا الأقوال القادحة في إخوانهم المؤمنين رجعوا إلى ما علموا من إيمانهم، وإلى ظاهر أحوالهم، ولم يلتفتوا إلى أقوال القادحين، بل رجعوا إلى الأصل، وأنكروا ما ينافيه( ).
المبحث الثامن
الصبر على الفتن
جعلالله سبحانه وتعالى الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وجنداً غالباً لا يهزم، وحصناً حصيناً لا يهدم ولا يلثم، فهو والنصر أخوان شقيقان.
فالصبر إذاً معين ثرّ لا ينضب، ومورد عذب لا يثن، متى تمكن في القوب والضمائر، وتحكم في الأحاسيس والمشاعر أورث صاحبه قوة عارمة، وهمة عازمة، وثقة جازمة تجعله يتحمل المشاق، ويواجه الأخطار غير هياب ولا وجل، يندفع إلى الشدائد غير ضعيف ولا مستكين( ).
لقد أكد القرآن الكريم أن الابتلاء للناس لا محيص عنه، حتى يعدوا عدة الصبر لكل نازلة، ويكونوا على أهبة الاستعداد عند حلول أيّ ضائقة
وقال- عز وجل- " لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ "( ).
قال الله- جل وعلا-: " إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ "( ) .
ومن أعظم الصبرِ الصبرُ على هداية الناس، والصبر على انتظار النتائج؛ لأن استعجال الثمرة قد يؤدي إلى نتائج عكسية تضر أكثر مما تنفع؛ فالصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمة من الملل واليأس والانقطاع، وتفجرت بسببه ينابيع العزم والثبات.
إنه الصبر المترع بأنواع الأمل العريض، وليس صبر اليائس الذي لم يجد بداً من الصبر فصبر.
وبالجملة فإن الصبر من أعظم الأخلاق، وأجلّ العبادات، وإن أعظمَ الصبرِ وأحمده عاقبةً الصبرُ على امتثال أمر الله، والانتهاء عمّا نهى الله عنه؛ لأنه به تَخْلُص الطاعة، ويصِحُّ الدين، ويُسْتَحَقُ الثوابُ؛ فليس لمن قل صبرُه على الطاعةُ حظٌّ من بِرٍّ، ولا نصيبٌ من صلاح.
ومن جميل الصبر: الصبرُ فيما يُخْشَى حدوثُه من رهبة يخافها، أو يحذرُ حلولُه من نكبةٍ يخشاها، فلا يتعجلْ همَّ ما لم يأتِِ؛ فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع.
ومن جميل الصبرِ الصبرُ على ما نـزل من مكروه، أو حلّ من أمر مخوف؛ فبالصبر في هذا تنفتحُ وجوهُ الآراءِ، وتُسْتَدْفَعُ مكائدُ الأعداءِ؛ فإن من قلّ صبره عَزُب رأيه، واشتد جزعُه، فصار صريعَ همومه، وفريسةَ غمومه.
وكما أن الأفرادَ بأمسِّ الحاجةِ إلى الصبر فكذلك الأمة؛ فأمة الإسلام كغيرها من الأمم؛ لا تخرج عن سنن الله الكونية، فهي عرضةٌ للكوارث، والمحن.
وهي_في الوقت نفسه_مكلفةٌ بمقتضى حكم الله الشرعي بحمل الرسالة الخالدة، ونشر الدعوة المباركة، وتحمُّلِ جميعِ ما تلاقيه في سبيلها برحابة صدر، وقوةِ ثباتٍ، ويقينٍ بأن العاقبة للتقوى وللمتقين.
وهي كذلك مطالبة بالجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، ونشر دين الله، وإزاحة ما يقف في وجه الدعوة من عقبات؛ فلا بد لها من الجهاد الداخلي الذي لا يتحقق إلا بمجاهدة النفس والهوى( ).
وهذا الجهاد لا يتحقق إلا بخلق الصبر، ومغالبة النفس والشيطان والشهوات؛ فذلك هو الجهاد الداخلي الذي يؤهِّل للجهاد الخارجي؛ لأن الناس إذا تُرِكوا وطباعَهم وما أُوْدِعَ فيها من حبِّ للراحة، وإيثارٍ للدَّعة، ولم يُشَدَّ أَزْرُهُمْ بإرشاد إلهي تطمئن إليه نفوسهم، ويثقون بحسن نتائجه_ عجزت كواهِلُهم عن حمل أعباء الحياة، وخارت قواهم أمام مغرياتها، وذاب احتمالُهم إزاء ملذاتها وشهواتها؛ فَيَفْقِدُون كلَّ استعدادٍ لتحصيل السمو، والعزة، والمنـزلة اللائقة.
فلهذا اختارالله لهم من شرائع دينه ما يصقُل أرواحهم، ويزكّي نفوسهم، ويمحص قلوبهم، ويربي ملكات الخير فيهم من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج وغيرها من الشرائع
المبحث التاسع
قيام روح الشورى
قيام روح الشورى مهم جداً، وخصوصاً بين أهل العلم، والفضل، والحل والعقد، وذلك بأن ينظروا في مصلحة الأمة، وأن يقدموا المصالح العليا، قال الله تعالى في وصف المؤمنين: " وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ "( ) .
وقال _ عز وجل _ لنبيه ": " وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ "( ) .
فقد أذن الله له "بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي السماء؛ تطييباً لنفوس أصحابه، وتقريراً لسنة المشاورة للأمة من بعده.
وكان أبو بكر الصديق – رضي الله عنه - من العلم بالشريعة، والخبرة بوجوه السياسة في منزلة لا تطاولها سماء، ومع هذا لا يبرم حكماً في حادثة إلا بعد أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة ( ) .
وهكذا كان عمر- رضي الله عنه - في الشورى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : "فكان عمر يشاور في الأمور لعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى ولغيرهم، حتى كان يدخل ابن عباس معهم مع صغر سنه.
وهذا مما أمرالله به المؤمنين ومدحهم عليه بقوله: " وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ "( ) .
ولهذا كان رأي عمر، وحكمه، وسياسته من أسدِّ الأمور، فما رؤي بعده مثله قط، ولا ظهر الإسلام وانتشر، وعزَّ كظهوره، وانتشاره، وعزه في زمنه.
وهو الذي كسر كسرى، وقصر قيصر الروم والفرس، وكان أميره الكبير على الجيش الشامي أبا عبيدة، وعلى الجيش العراقي سعد بن أبي وقاص، ولم يكن لأحدٍ -بعد أبي بكر- مثل خلفاءه ونوابه وعماله وجنده وأهل شوراه" ( ).
وكما كانت هذه هي سيرةَ الخلفاء الراشدين في الشورى فكذلك كانت سيرة من جاء بعدهم فهذا معاوية - رضيالله عنه - الذي كان مضرب المثل في الدهاء والحلم وكياسة الرأي كان يأخذ بسنة الشورى.
قال الثعالبي: "دهاء معاوية - رضي الله عنه - ذلك ما اشتهر أمره، وسار ذكره، وكثرت الروايات والحكايات فيه، ووقع الإجماع على أن الدهاة أربعة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه _رضي الله عنهم_ فلما كان معاوية - رضي الله عنه - بحيث هو من الدهاء وبعد الغور_وانضم إليه الدهاة الثلاثة الذين يرون بأول آرائهم أواخر الأمور_ فكان لا يقطع أمراً حتى يشهدوه، ولا يستضيء في ظلم الخطوب إلا بمصابيح آرائهم_سلم له أمر الملك، وألقت إليه الدنيا أزمتها، وصار دهاؤه ودهاء أصحابه الثلاثة مثلاً"( ).
ثم إن للشورى فوائد عظيمة منها تقريب القلوب، وتخليص الحق من احتمالات الآراء، واستطلاع أفكار الرجال، ومعرفة مقاديرها؛ فإن الرأي يمثِّل لك عقلَ صاحبه كما تمثل لك المرآةُ صورةَ شخصِه إذا استقبلها.
وقد ذهب الحكماء من الأدباء في تصوير هذا المغزى مذاهب شتى، قال بعضهم:
إذا عنَّ أمرٌ فاستشر فيه صاحباً *** وإن كنت ذا رأي تشير على الصحبِ
فإني رأيت العين تجهل نفسها *** وتدرك ما قد حل في موضع الشهب
المبحث العاشر
لزوم جماعة المسلمين وخليفتهم
إن من المخرج والخلاص عند حدوث الفتن والحوادث لزوم جماعة المسلمين، والجماعة ليست بالكثرة، ولكن من كان على منهج أهل السنة والجماعة فهو الجماعة .
وقد وردت في الكتاب والسنة آيات أدلة تحث المؤمنين على لزوم الجماعة والائتلاف، وتبين لهم أن الأمة الإسلامية أمة واحدة( )، ومنها:
قوله تعالى:" يأيها الذين اتقوا الله........ ولا تفرقوا "( ) .
وقوله تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ "( ).
عن حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر، قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير، قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟، قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟، قال: نعم، دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني؟ إن أدركني ذلك، قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة، ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"( ).
وقد لخص النووي هذا الحديث بأوجز عبارة حينما ترجم وبوب له فقال:" باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة"( ) .
والجماعة ليست بالكثرة ولكن من كان على منهج أهل السنة والجماعة فهو الجماعة.
يقول عبد الله بن مسعود : لو أن فقيهاً على رأس جبل لكان هو الجماعة .
وقال أيضاً : الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك .
فمن طرق النجاة من الفتن والحوادث لزوم جماعة المسلمين .
عندما كان عبد الله بن مسعود في الحج مع عثمان، وكان عثمان يتم الصلاة في منى وكان ابن مسعود يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في منى ركعتين .
فقيل له : تقول هذا وأنت تصلي مع عثمان أربع ركعات ؟ فقال: يا هذا الخلاف شر( ).
المبحث الحادي عشر
الثقة بالله، واليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين
فإن من أهم ما يجب على المؤمن- في هذا الصدد- أن يقوي ثقته بربه، وأن ينأى بنفسه عن قلة اليقين بأن العاقبة للمتقين؛ فهناك من إذا شاهد ما عليه المسلمون من الضعف والتمزق، والتشتت، والتفرق، ورأى تسلط أعدائهم عليهم، ونكايتهم بهم _ أيس من نصر الله، وقنط من عز الإسلام، واستبعد أن تقوم للمسلمين قائمة، وظن أن الباطل سيدال على الحق إدالة دائمة مستمرة يضمحل معها الحق.
فهذا الأمر جد خطير، وهو مما يعتري النفوس الضعيفة، التي قل إيمانها، وضعف يقينها.
فهذا الشعور مما ينافي الإيمان الحقَّ، وهو دليلٌ على قلة اليقين بوعد الله الصادق، والتفاتٌ إلى الأمور المحسوسة دون نظر إلى عواقب الأمور وحقائقها.
وإلا كيف يُظَنُّ هذا الظن والله _ عز وجل _ قد كتب النصر في الأزل، وسبقت كلمته بأن العاقبة للتقوى وللمتقين، وأن جنده هم الغالبون، وهم المنصورون، وأن الأرض يرثها عباده الصالحون؟( ) .
فمن ظن تلك الظنون السيئة فقد ظن بربه السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله، وكماله، وصفاته، ونعوته؛ فإن حمده، وعزته، وحكمته، وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يُذِل حزبه وجنده، وأن تكون النصرةُ والغلبةُ لأعدائه.
فمن ظن ذلك فما عرفه، ولا عرف ربوبيته، وملكه، وعظمته؛ فلا يجوز في حقه _ عز وجل _ لا عقلاً ولا شرعاً أن يُظْهِر الباطل على الحق، بل إنه يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق( ) .
أما ما يشاهد من تسلط الكفار واستعلائهم _ فإنما هو استعلاء استثنائي، وذلك استدراجاً وإملاءً من الله لهم، وعقوبة للأمة المسلمة على بعدها عن دينها.
ثم إن سنة الله ماضية فـ"مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ "( )، وهذه الأمة تذنب، فتعاقب بذنوبها عقوبات متنوعة منها ما مضى ذِكْرُه؛ كي تعود إلى رشدها، وتؤوب إلى ربها، فتأخذ حينئذ مكانها اللائق بها.
ثم إن هذه الأمة أمة مرحومة تعاقب في هذه الدنيا، حتى يخف العذاب عنها في الآخرة، أو يغفر لها بسبب ما أصابها من بلاء.
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبي الرحمة الذي كانت بعثته خيراً للعالمين، وعلى من سار على نهجه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن نعم الله تعالى عليّ أن يسّر لي إتمام هذا البحث المعنون ب" أصول وقواعد في الدعوة إلى الله وقت الفتن"، وأسأله- سبحانه وتعالى- أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وسأعرض هنا أهم النتائج التي اشتمل عليها هذا البحث، وهي على النحو التالي:
1 – بيان حقيقة الفتنة في اللغة: أنها مأخوذة من فعل" فتن"، الفِتْنَةُ بمعنى: الاختبار والامتحان.
2- أن الفتنة في الاصطلاح: أشمل التعريفات عندي ما ذكره الحافظ ابن حجر:" ومعنى القتنة في الأصل: الاختبار، والامتحان، ثم استعملت في كل أمر يكشفه الامتحان عن سوء"( ) .
3- أن الإقبال على الله بأنواع من العبادات، كالدعاء والاستغار والتوبة من أعظم أسباب النصر والسلامة من الفتن .
4- أن الرجوع إلى الكتاب والسنة، والاعتصام بهما في كل الأمور هو طريق الفوز والفلاح، ومسلك الهدى والنجاح، لا سيما زمن الفتنة والكفاح.
5- التسلح بالعلم الشرعي من أهم ما ينجي من الفتن، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- : " إذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن وحدثت البدع والفجور ووقع الشر بينهم "( )
والله أسأل أن يوفقنا للعلم النافع، والعمل الصالح، والقول السديد، وأن يهدينا إلى الصواب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
فهرس المصادر والمراجع
1-القرآن الكريم .
2-(صحيح البخاري) الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسولالله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، المؤلف : أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري، المحقق : محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر : دار طوق النجاة،الطبعة : الأولى 1422هـ.
3-صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي،بيروت.
4-سنن أبي داود، المؤلف : سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر : دار الفكر .
5-الجامع الصحيح سنن الترمذي، المؤلف : محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي، تحقيق : أحمد محمد شاكر وآخرون، الناشر : دار إحياء التراث العربي – بيروت.
6-سنن ابن ماجه، المؤلف : محمد بن يزيد أبو عبدالله القزويني، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر : دار الفكر – بيروت .
7-مسند الإمام أحمد بن حنبل، المؤلف : أحمد بن حنبل، المحقق : شعيب الأرنؤوط وآخرون
الناشر : مؤسسة الرسالة، الطبعة : الثانية 1420هـ ، 1999م
8-الطبقات الكبرى، المؤلف : محمد بن سعد بن منيع أبو عبدالله البصري الزهري، المحقق: إحسان عباس، الناشر : دار صادر – بيروت، الطبعة : 1 - 1968 م.
9-لسان العرب لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، ، ط.1، بدون تاريخ، دار صادر، بيروت .
10-مختار الصحاح، المؤلف : محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي، الناشر : مكتبة لبنان ناشرون – بيروت، الطبعة طبعة جديدة ، 1415 – 1995
11-مقاييس اللغة، المؤلف : أبي الحسين أحمد بن فارِس بن زكَرِيّا، المحقق : عبد السَّلام محمد هَارُون، الناشر : اتحاد الكتاب العرب، الطبعة : 1423 هـ = 2002م.
12-زاد المعاد في هدي خير العباد – ابن القيم - مؤسسة الرسالة – مكتبة المنار الإسلامية - بيروت – الكويت – الطبعة 14 - 1407 – 1986 .
13- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، المؤلف : عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي
المحقق : عبد الرحمن بن معلا اللويحق
الناشر : مؤسسة الرسالة، الطبعة : الأولى 1420هـ -2000 م
14- فتح الباري شرح صحيح البخاري
المؤلف : أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي
الناشر : دار المعرفة - بيروت ، 1379
15- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، تحقيق : عبد الرزاق المهدي
دار النشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
16- شرح النووي على مسلم: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج
المؤلف : أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
الطبعة الطبعة الثانية ، 1392
17- سنن البيهقي الكبرى، المؤلف : أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي
الناشر : مكتبة دار الباز - مكة المكرمة ، 1414 - 1994
تحقيق : محمد عبد القادر عطا
18- شعب الإيمان، المؤلف : أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى : 458هـ)، حققه وراجع نصوصه وخرج أحاديثه : الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامدأشرف على تحقيقه وتخريج أحاديثه : مختار أحمد الندوي ، صاحب الدار السلفية ببومباي – الهند، الناشر : مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند
الطبعة : الأولى ، 1423 هـ - 2003 م
19- سنن الدارمي، المؤلف : عبدالله بن عبدالرحمن أبو محمد الدارمي
الناشر : دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الأولى ، 1407
تحقيق : فواز أحمد زمرلي , خالد السبع العلمي
20- موقف المسلم منالفتن في ضوء الكتاب والسنة، لأبي أنس حسين بن محسن الحازمي
مكتبة أضواء السلف- الرياض، الطبعة الأولى1420هـ- 200م
21- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، المؤلف : محمد بن حبان البستي أبو حاتم
الناشر : دار الكتب العلمية - بيروت ، 1397 - 1977
تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد
22- منهاج السنة النبوية، المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس
الناشر : مؤسسة قرطبة، الطبعة الأولى ، 1406
تحقيق : د. محمد رشاد سالم
23- جامع العلوم والحكم، المؤلف : أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
الناشر : دار المعرفة – بيروت، الطبعة الأولى ، 1408ه
24- بدائع الفوائد، لابن القيم
الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان .
المصدر
توقيع : عقيدتي نجاتي |
((اللَّهمَّ اْغفرْ لِواْلدَيَّ واْرْحمْهُماَ وَأسْكنْهُماَ الْفِرْدوْسَ اْلأَعْلَىْ))  |
|
|
|