الرد على الاستدلال بما صح من الروايات إذا عرفت هذا فيكون الكلام فيما صح من أمر الغدير وبيان وجه الاستدلال به، ولكن قبل هذا لا أرى بأساً من تعليق بسيط فيما يتعلق بشأن زعم نزول الآيتين الكريمتين: [التبليغ، وإكمال الدين] في قصة الغدير. فأقول: إن القوم أثبتوا في كتبهم أن النبي كان يتحارسه أصحابه، فأنزل الله: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]، فترك الحرس حين أخبره تعالى أنه يعصمه من الناس لقولـه: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)) [المائدة:67]. وفي رواية: قال لحراس من أصحابه كانوا يحرسونه -منهم: سعد، وحذيفة-: الحقوا بملاحقكم، فإن الله سبحانه عصمني من الناس([122]).. وغيرها. وهذا تماماً ما أثبته أهل السنة في كتبهم من طرق صحيحة عن النبي ، أضف إلى ذلك أن سورة المائدة -التي منها هاتان الآيتان- قد نزلت بالمدينة، إلا آية إكمال الدين، وقد أثبت القوم ذلك في تفاسيرهم([123])، وهو الصحيح، وآية إكمال الدين هذه نزلت يوم عرفات، كما ثبت بالنقل الصحيح، وقد سلَّم القوم بذلك([124]). فتبين عندك أنه لم ينزل يوم الغدير الذي هو يوم الثامن عشر من ذي الحجة شيء من القرآن، وحسب هذا الاستدلال كل هذا الاضطراب. وهذا أيضاً يجرنا إلى القول بأن ما أنزل الله بشأنه آية إكمال الدين يوم عرفة إنما كان ركن الحج الذي هو آخر أركان الدين. نعم، نزلت بعض مسائل الحلال والحرام بعدها، وإنما القول هنا بإكمال أركان الإسلام، وهذا يعني أن الغدير وما كان فيه لم يكن من أركان الإسلام، هذا إن كان فيه أصلاً ما يفيد ذلك، وستقف على خلافه. وكان للقوم في هذا الإشكال -أعني: أن أركان الإسلام اكتملت بركن الحج ونزول آية الإكمال، وهي تفيد الحصر الزمني بذلك اليوم والإكمال بصيغة وقوع الفعل لقولـه: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3] أي: أن يوم إكمال الدين إنما كان يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وليس يوم الغدير الذي كان في اليوم الثامن عشر منه. أقول: وقد كان للقوم في هذا الإشكال اضطرابٌ بيِّنٌ وتكلف واضح في رده: فمن ذلك: قول أحدهم: إنه من الجائز أن ينزل الله سبحانه معظم السورة وفيه قولـه: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3]، وينزل معه أمر الولاية كل ذلك يوم عرفة، فأخر النبي بيان الولاية إلى غدير خم، وقد كان تلا آيتها يوم عرفة([125]). وقبله نسبوا إلى الباقر أنه قال في حديث طويل عما فرض الله عز وجل على العباد، ثم نزلت الولاية، وإنما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة، أنزل الله عز وجل: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3] وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب... الرواية([126]). فأنت ترى هنا تصريحاً بنزولها يوم عرفة، أي: يوم التاسع من ذي الحجة، فكيف يزعم القوم أنها نزلت يوم الثامن عشر منه، أي: يوم الغدير، وقد رد البعض على هذه الرواية بأن عرفة يحتمل أن تكون هنا بالضم، وهي اسم لثلاثة عشر موضعاً، فلا يبعد أن يكون أحدها قريباً من غدير خم([127])، والقوم معذورون، إذ قد اضطربوا بهذه الروايات. ثم لا أدري كيف يمكن تلاوة آية تفيد وقوع الإكمال للدين، وفي يوم محدد وهو يوم عرفة في هذا الحشد الهائل ممن كان معه والذي بلغ في رواية تسعين ألفاً. وفي أخرى: مائة ألف وأربعة عشر ألفاً. وأخرى: مائة ألف وعشرون ألفاً. وأخرى: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وقيل غير ذلك([128]). وبعد بيان مناسك الحج الذي هو آخر الأركان، وذكرِ القواعد العامة للإسلام كما جاء في خطبة الوداع باتفاق المسلمين، وقولـه : ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟ فقال من حضر: نعم، فقال: اللهم اشهد، وأمر بتبليغ الحاضر للغائب، ويكون مما أمر بتبليغه حصل ذلك اليوم. لا أدري كيف يكون هذا؟ ثم يأتي قائل فيقول: إن أمر الولاية نزل يوم عرفة، فأخر النبي بيان ذلك حتى بلغ غدير خم الذي يقع على بعد عشرة فراسخ من المدينة، وعلى أربعة أميال من الجحفة، حيث إن كثيراً من الذين حجوا معه أو أكثرهم لم يكونوا معه يوم الغدير، بل بقي أهل مكة في موطنهم، ورجع أهل الطائف وأهل اليمن وأهل البوادي القريبة من ذاك إلى مواطنهم، وإنما رجع معه أهل المدينة ومن كان قريباً منها، حيث لم يبق معه يوم الغدير -حسب روايات القوم- سوى اثني عشر ألف رجل، أو عشرة آلاف رجل كما في أخرى، أو ألف وثلاثمائة رجل كما في رواية الباقر([129])، من أصل المائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً الذين كانوا معه يوم عرفة، كما مرَّ بك. فدل ذلك على أن ما جرى يوم الغدير لم يكن مما أمر بتبليغه كالذي بلغه في حجة الوداع، والذي لم يصح فيه ذكر لعلي ، وأن قولـه : هل بلغت؟ دليل على أن الله عز وجل ضمن له العصمة من الناس إذا بلغ الرسالة، مما يدل على أن نزول آية التبليغ سابقة ليوم عرفة فضلاً عن يوم الغدير، حيث لم يكن خائفاً من أحد يحتاج أن يعتصم منه، بل كل من كان معه مسلمون منقادون له، ليس فيهم كافر، والمنافقون مقموعون مسرون للنفاق ليس فيهم من يحاربه ولا من يخاف الرسول منه، كما قيل في ذلك. ومن الطرائف: أن القوم ملئُوا كتبهم من حماس النبي في تبليغ ولاية علي إلى قومه قبل ذلك بكثير، خلافاً لمشيئة الله عز وجل كما تروي رواياتهم، وهو الأمر الذي نراه قد انقلب تماماً هنا، فمن هذه الروايات: ما نسبوه إلى الباقر أنه قال في قولـه تعالى: ((وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)) [الإسراء:110] قال: لا تجهر بولاية علي فهو الصلاة، ولا بما أكرمتك به حتى آمرك، فأما قوله: ((وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)) [الإسراء:110] يقول: تسألني أن آذن لك أن تجهر بأمر علي بولايته، فأذن له بإظهار ذلك يوم غدير خم، فهو قولـه يومئذٍ: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه([130]). فأنت ترى أنه بزعم القوم أراد إبلاغ ولاية علي بن أبي طالب قبل الغدير بأكثر من عشر سنوات، إذا علمنا أن سورة الإسراء التي منها هذه الآية من السور المكية. بل نراه يوم عرفة غير هائب لقومه في بيان فضائل علي على الملأ، كما يروي القوم أنه قال: إني رسول الله إليكم غير هائب لقومي ولا محاب لقرابتي، هذا جبرئيل يخبرني أن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب علياً في حياتي وبعد موتي([131]). ثم يقولون بتردده حتى يوم الغدير، والغريب أن القوم وهم يقولون بعصمة النبي والأئمة بالصورة التي ذكرناها لك عند الكلام في آية التطهير، وبالرغم من استماتتهم في رد كل ما ينافي تلك العصمة، نراهم هنا يستميتون في بيان خلاف ذلك، لأنهم يرون أن في ذلك خدمة لمعتقدهم. فلم نر أحداً منهم رد على هذا الأمر الذي فيه خلاف النبي في تبليغ أمرٍ من أمور الشرع، حتى بدأ الناس ينفضون من حوله ويعودون إلى أوطانهم، حتى لم يبق معه سوى القليل، وكان جبرئيل ينزل المرة تلو الأخرى بالأمر بتبليغ رسالة ربه، والنبي يتردد، حتى استوجب غضب الله عز وجل وتهديده، حتى قال هو كما مرَّ بك بزعم القوم: تهديد بعد وعيد، لأمضين أمر الله عز وجل، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبني العقوبة الموجبة في الدنيا والآخرة. فلم نجد أحداً منهم رد هذا الخلاف البين المنافي للعصمة بل نرى العكس، فقد وضعوا في إثبات ذلك روايات عدة، منها ما هو في غير هذه المناسبة، بل إن ذلك كان منه بزعمهم منذ بدء الدعوة، فمن هذه الروايات: عن علي قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله : ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] دعاني رسول الله ، فقال لي: ياعلي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، قال: فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فَصَمتُّ على ذلك وجاءني جبرئيل ، فقال: يا محمد، إنك إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك عز وجل... الرواية([132]). يتبع....