وعن جابر الجعفي قال: قرأت عند أبي جعفر قول الله تعالى: ((لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ)) [آل عمران:128] قال: بلى والله، إن له من الأمر شيئاً وشيئاً وشيئاً، وليس حيث ذهبت، ولكني أخبرك، ثم ذكر أن الله عز وجل أمر رسوله بإظهار ولاية علي ، ففكر في عداوة قومه له ومعرفته بهم.. إلى أن قال: ضاق عن ذلك صدره، فأخبر الله أنه ليس له من هذا الأمر شيء([133]). ومنها: أن جبرئيل نزل على رسول الله بولاية علي، فقال: يا جبرئيل، أخاف مِنْ تشتت قلوب القوم -وفي رواية: وبكى- فقال له جبرئيل : مالك يا محمد أجزعت من أمر الله؟ فقال: كلا يا جبرئيل، ولكن قد علم ربي ما لقيت من قريش إذ لم يقروا لي بالرسالة حتى أمرني بجهادي، وأهبط إلي جنوداً من السماء فنصروني، فكيف يقروا لعلي من بعدي؟ فانصرف عنه جبرئيل، ثم نزل عليه: ((فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ)) [هود:12] ([134]). وفي أخرى متصلة بالغدير: عن الباقر قال: فلم يبلغ ذلك وخاف الناس. وفي أخرى: وامتنع رسول الله من القيام بها لمكان الناس([135]). بل وجعلوا ذلك في أدعية يوم الغدير، حيث ذكروا في ذلك عن الصادق في دعاءٍ طويل فيه: أمرته أن يبلغ عنك ما أنزلت إليه من موالاة ولي المؤمنين وحذرته وأنذرته إن لم يبلغ أن تسخط عليه([136]).. وهكذا. بل وذكروا أن حفيد إبليس كان أحرص على ذلك من النبي ، حيث رووا أنه أتى النبي فسلم عليه، وقال: من تكون؟ فقال: أنا الهام بن الهيم بن لاقيس بن إبليس، فقال : بينك وبين إبليس أبوان؟ قال: نعم يا رسول الله، فذكر حديثاً طويلاً فيه: أن رسول الله سأل الهام حاجته؟ فقال: حاجتي أن تأمر أمتك أن لا يخالفوا أمر الوصي([137])، وغيرها. فكيف يقرون بصدور كل هذا منه من تردد وخشية الناس، وهو الذي نزل عليه قولـه تعالى: ((وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)) [الأحزاب:37] في مسألة من المباحات، بينما نجده هنا في مسألة من أعظم أركان الدين بزعم القوم. ومن الطرائف: أن من قال من المسلمين بجواز الخطأ على الأنبياء إنما قال ذلك في الجانب البشري لا التشريعي، أو فيما يبلغه عن ربه، خلافاً لمعتقد القوم في العصمة من أن الأنبياء والأئمة معصومون مطهرون من كل دنس، وأنهم لا يذنبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم، وأن ذلك يكون قبل النبوة والإمامة وبعدها، بل من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله سبحانه، فلا يقع منهم ذنب أصلاً لا عمداً ولا نسياناً ولا خطأ في التأويل ولا إسهاءً من الله سبحانه... إلى آخر ما قالوه في هذا الشأن، وقد مرَّ بك، ولكن تراهم هنا قد تغاضوا عن كل ما بنوه وأسسوه، وجوزوا ذلك عليه، وهذا في الجانب التبليغي، وهذا من عجائب التناقضات عند القوم وما أكثرها! نعود إلى الكلام أيضاً في شأن هذه الآية -أعني: آية التبليغ- فالاستدلال هنا كما ترى وكما ذكرنا إنما هو بالقرآن، والآية عامة في كل ما نزل، وليس فيها ذكر لشيء معين، وما ذهب إليه القوم هو الاستدلال بالخبر لا بالقرآن لخلوه من ذكر علي . وعندما تفطن بعضهم إلى هذا -مع يقينهم بعدم صحة كل ما أوردوه في إثبات نزول الآية في هذا المقام كما مر بك- ذهب إلى القول بأن اسم علي كان من ضمن ألفاظ الآية إلا أنه حذف. ومن ذلك: قول القمي صاحب التفسير في مقدمته: وأما ما هو محرف، فمنه قولـه: [يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي وإن لم تفعل فما بلغت رسالته]([138]). ومنها: ما رووه عن زر، عن أبي عبدالله قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله : يا أيها الرسول بلع ما أنزل إليك من ربك أن علياً مولى المؤمنين، فإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس([139]). ومنها: عن عيسى بن عبدالله، عن أبيه، عن جده في قولـه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك في علي، وإن لم تفعل عذبتك عذاباً أليما، فطرح عدوي -أي: عمر- اسم علي([140]). وغيرها([141]). فليس هناك أدل من هذا على تهافت هذا الاستدلال. إلى هنا تبين لنا بالدلائل القاطعة فساد كل ما قيل في شأن الغدير من نزول آيات من القرآن، ومن تردد النبي في تبليغ ما أمر به، ومن كون ذلك منذ يوم عرفة، ومن روايات مصطنعة بتكلف بَيّن، مثل رَدِّ مَنْ تقدم من القوم وحبس من تأخر، وأنه كان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء.. إلى آخر ما وضعوه في ذلك، حتى خلصنا إلى بيان أن ما كان من شأن غدير خم ليس سوى قولـه : (من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) ولكن ما الذي استوجب قولـه لهذا في حق علي ؟ لا جدال في أن علياً كان في اليمن عند خروج الرسول إلى حجة الوداع، وأنه لحق به وحج معه([142])، وهناك في اليمن حصلت أمور بينه وبين أصحابه توضحها روايات عدة: منها: ما رواه عمرو بن شاس الأسلمي: أنه كان مع علي بن أبي طالب في اليمن، فجفاه بعض الجفاة فوجد عليه في نفسه، فلما قدم المدينة اشتكاه عند من لقيه، فأقبل يوماً ورسول الله جالس في المسجد، فنظر إليه حتى جلس إليه، فقال: يا عمرو بن شاس، لقد آذيتني، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أعوذ بالله وبالإسلام أن أؤذي رسول الله، فقال: من آذى علياً فقد آذاني([143]). وعن الباقر قال: بعث النبي علياً إلى اليمن، فذكر قضاءه في مسألة فيها أن علياً قد أبطل دم رجل مقتول، فجاء أولياؤه من اليمن إلى النبي يشكون علياً فيما حكم عليهم، فقالوا: إن علياً ظلمنا وأبطل دم صاحبنا، فقال رسول الله : إن علياً ليس بظلام([144]). وفي رواية: أن النبي لما أراد التوجه إلى الحج كاتب علياً بالتوجه إلى الحج من اليمن، فخرج بمن معه من العسكر الذي صحبه إلى اليمن ومعه الحلل التي كان أخذها من أهل نجران، فلما قارب مكة خلف على الجيش رجلاً، فأدرك هو رسول الله ، ثم أمره بالعودة إلى جيشه، فلما لقيهم وجدهم قد لبسوا الحلل التي كانت معهم، فأنكر ذلك عليهم، وانتزعها منهم، فاضطغنوا لذلك عليه، فلما دخلوا مكة كثرت شكايتهم من أمير المؤمنين ، فأمر رسول الله مناديه فنادى في الناس: ارفعوا ألسنتكم عن علي بن أبي طالب؛ فإنه خشن في ذات الله عز وجل، غير مداهن في دينه([145]). وعن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله جيشاً واستعمل عليهم علي بن أبي طالب ، فمشى في السرية وأصاب جارية، فأنكروا ذلك عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله، فقالوا: إذا لقينا رسول الله أخبرناه بما صنع علي.. فذكر شكوى الأربعة وإعراض رسول الله عنهم، وقولـه: (من كنت مولاه فعلي مولاه) ([146]). وهكذا بدأت تتضح الصورة. وعن بريدة قال: بعثنا رسول الله في سرية، فلما قدمنا قال: كيف رأيتم صحابة صاحبكم؟ قال: فإما شكوته أو شكاه غيري، قال: فرفعت رأسي وكنت رجلاً مكباباً، قال: فإذا النبي قد احمر وجهه وهو يقول: من كنت وليه فعلي وليه([147]). وفي رواية عنه أيضاً قال: غزوت مع علي اليمن، فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله تنقصته، فرأيت وجه رسول الله يتغير، فقال: يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه([148]). وفي أخرى: أن رجلاً كان باليمن فجفاه علي بن أبي طالب، فقال: لأشكونك إلى رسول الله ، فقدم على رسول الله فسأله عن علي فشنا عليه، فقال: أنشدك بالله الذي أنزل علي الكتاب واختصني بالرسالة عن سخط تقول، ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: ألا تعلم أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال: بلى، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه([149]). فدلت هذه الروايات على أن سبب قولـه لذلك إنما كان بسبب ما ذكرناه من شكوى الناس منه ، وأنه ليس المراد به الدلالة على الوصاية إليه لجعله على سبب، وبعد تفرق الحجيج وانصراف كل أهل ناحية إلى ناحيتهم. والغريب أن كتب القوم تذكر أن قولـه في حق علي : من كنت مولاه فعلي مولاه، قد كان تكرر منه قبل الغدير بسنين عديدة، مما يدل على أنه ليس فيما كان في يوم الغدير خاصية مختلفة لقولـه هذا عن ذي قبل سوى أن قولـه يوم ذاك كان في محضر الكثير من أصحابه الذين خرجوا معه للحج، ومن تكرار شكوى الناس منه في اليمن، فتوهم من توهم أن قولـه ذلك إنما كان لبيان إمامته، وأضافوا من عند أنفسهم ما يؤيد هذا الزعم؛ من نزول آيات التهديد والوعيد للنبي إن لم يبلغ ذلك الزعم... إلى آخر ما مر بك. وكما ذكرنا أن ذلك كان منه قبل الغدير، فقد ذكر القوم الكثير من الروايات في ذلك: منها: ما كان يوم المؤاخاة الذي ذكرناه، حيث آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار وترك علياً فبكى فذهب إلى بيته، فأرسل رسول الله بلالاً في طلبه، فقال: يا علي، أجب النبي، فأتى علي النبي، فقال النبي: ما يبكيك يا أبا الحسن؟ فقال: آخيت بين المهاجرين والأنصار يا رسول الله وأنا واقف تراني وتعرف مكاني ولم تؤاخ بيني وبين أحد، قال: إنما ذخرتك لنفسي، ألا يسرك أن تكون أخا نبيك؟ قال: بلى يا رسول الله، أنَّى لي بذلك؟ فأخد بيده فأرقاه المنبر، فقال: اللهم إن هذا مني وأنا منه، ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى، ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه([150]). والمؤاخاة كانت في بداية الهجرة. ومنها: ما كان يوم التصدق بالخاتم بزعمهم، فعن زيد بن الحسن، عن جده قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: وقف لعلي بن أبي طالب سائل وهو راكع في صلاة تطوع، فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فأتى رسول الله فأعلمه ذلك، فنزل على النبي هذه الآية: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55]، فقرأها رسول الله علينا، ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه([151]). ومنها: ما جاء في حديث الطير وقول الرسول : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، فجاء علي، فقال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه([152]). وغيرها. فهذه مواطن قال فيها رسول الله : من كنت مولاه فهذا علي مولاه، وهي مقولة الغدير تماماً، فما الذي استوجب كل ما ذكره القوم في حادثة الغدير من قصص وحكايات، وتهديد ونزول آيات، ما داموا يقرون أنه لم يكن منه غير هذه المقولة، وقد وردت عنه منذ سنين عدة كما رأيت. فإن كان في هذا دلالة على الإمامة فقد ذكرها قبل الغدير، وإن لم يكن فقد أسقط في يد القوم. وهذا تماماً كقولنا الذي كررناه، وهو إن كان ما نحن فيه من استدلال هو دليل النص على الإمامة، فقد أبطلوا النصوص السابقة منذ بدء العشيرة، مروراً بحادثة ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1]، والتصدق بالخاتم، ناهيك عما أوردناه في مقدمة الباب الأول([153])، وإن كان العكس فأي جديد في الغدير؟! ويذكرني هذا بقول الصدوق في حديث الغدير: ونظرنا فيما يجمع له النبي الناس ويخطب به ويعظم الشأن فيه، فإذا هو شيء لا يجوز أن يكونوا علموه فكرره عليهم، ولا شيء لا يفيدهم بالقول فيه معنى، لأن ذلك صفة العابث، والعبث عن رسول الله منفي([154]). فهذا اعتراف من صدوق القوم أن كل ما مر بك من أول الكتاب إلى الاستدلال السابق ليس فيه ما يفيد النص على الإمامة لعلي ؛ لأنه بزعمه لا يجوز أن يكون شيئاً علموه فكرره عليهم. يتبع....