إقرار الأمير بمبدأ الشورى: أبداً لم يكن يرى أن مشروعية خلافته مستمدة من تلك النصوص التي زعمها القوم له، وقد علمت حالها جميعاً، وأنه لو كان من ذلك شيء حق لقاتل عليها حتى لو تظاهرت العرب كلها عليه، بل كان يرى أن شرعية خلافته إنما هي مستمدة من مبدأ الشورى الذي أقره القرآن وأكده الرسول بهديه وسنته. كيف لا وهو القائل : إن رسول الله قال: من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة، ويغصب الأمة أمرها، ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فإن الله عز وجل قد أذن ذلك([206]). ويقول لمعاوية: إن الناس تبع المهاجرين والأنصار وهم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم وأمراء دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولست أستحل أن أدع ضرب معاوية يحكم على هذه الأمة ويركبهم ويشق عصاهم. فلما بلغ معاوية ذلك قال: ليس كما يقول، فما بال من هو ههنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر؟ فقال : ويْحَكُم! هذا للبدريين دون الصحابة، وليس في الأرض بدري إلا وقد بايعني وهو معي، أو قد أقام ورضي، فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم([207]). وقال لمعاوية في موطنٍ آخر: إن بيعتي لزمتك بالمدينة وأنت بالشام؛ لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار؛ فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيراً([208]). فهو يرى إجماع المهاجرين والأنصار على رجل هو رضاً لله. بل ولا يرى بيعته دون رضاهم كما قال: إن بيعتي لا تكون إلا عن رضا المسلمين وفي ملأ وجماعة([209]). وهو القائل : وما كان الله ليجعلهم على ضلال ولا يضربهم بعمى([210]). وقال له في موطن آخر: إن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة وأنت أمير لعمر على الشام، وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر بالمدينة وهو أمير لأبي بكر على الشام. أما قولك: إن بيعتي لم تصح لأن أهل الشام لم يدخلوا فيها، فإنما هي بيعة واحدة تلزم الحاضر والغائب لا يستثنى فيها النظر، ولا يستأنف فيها الخيار، والخارج منها طاعن، والمروي فيها مداهن([211]). وكان يقول له: واعلم أنك من أبناء الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا يعرض فيهم الشورى([212]). وكذلك قال ابنه الحسن لمعاوية في كتاب الصلح الذي استقر بينهما: هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان: صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين، على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الراشدين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين([213]). فهل ترى بعد كل هذا أن الأمير أو ابنه ا يرون رأي من زعموا أنهم من شيعتهم من أن الله عز وجل ورسوله قد نصا عليهما ا، أو أنهم يقررون مبدأ الشورى وبه يستمدون شرعية إمامتهم للمؤمنين دون أن يتطرقوا إلى ذكر أي نص من تلك النصوص التي زعمها القوم لهم، وهم في تلك الحال من الخلاف، وفي موطن هم بأمس الحاجة فيه إلى ذكر نص من تلك النصوص لو وجدت، ليرد به على معاوية الذي احتج عليه بعدم اجتماع أهل الشام عليه؟ فهل قال له علي مثلاً: ليس لاختيار أهل الشام أو بيعتهم شأن أو قيمة، ما دام الله عز وجل ورسوله قد نصا على إمامتي؟ أو أنه دلل على بيعته باجتماع أهل المدينة عليه، حتى لم ير شرعية لخلافته إلا بقياس ذلك على بيعة الصديق، والفاروق، وذي النورين أجمعين، وأن بيعتهم كانت لله رضاً، وأنهم كانوا خلفاء راشدين، يستحقون أن يدعوا من جاء بعدهم بالاقتداء بهم، لا أنهم مغتصبون لحق غيرهم. ولم ير خلاف ذلك وهو يؤكد شرعيتهم، ويعلم يقيناً باعتبار معتقد القوم أن الإمامة لا تكون بالاختيار أو الشورى إنما بنص من الله ورسوله ، ومن جاء من غير هذا الطريق فهو كافر ومن يتولاه فهو مثله، وأن من ترك ولايته خارج عن الإسلام كما نسبوا ذلك إلى رسول الله ، كما مرَّ بك، ووضعوا في ذلك العشرات من الروايات وجعلوا لها أبواباً، مثل: باب: أنه لا تقبل الأعمال إلا بالولاية، وباب: كفر المخالفين والنصّاب، وغيرها. فهل يرى القوم أنه ترك حقه وهو يعلم أن تركه ذلك خروج عن الإسلام وإحباط للأعمال والطاعات كما يزعمون، وهو يتولى من سبقه ويؤكد شرعية إمامتهم؛ بل ويستمد شرعية إمامته من إمامتهم، ويرى أن ذلك كان لله رضاً، وأنهما قد أحسنا السيرة وعدلا في الأمة، وأنه كان يرى الخيرية في وزارته لهم دون إمامته، ويدعو إلى بيعة غيره، ويؤكد لهم التزامه لمن اختاروه بأنه سيكون أطوعهم له كما قال؟ فلم ير باعتبار معتقد القوم أن الخير فيما اختاره الله عز وجل، بل رأى خلاف ذلك، فرأى أن كونه وزيراً خير من اختيار الله عز وجل له بأن يكون أميراً. هكذا يريد منا القوم أن نقول، وهكذا يريد لنا القوم أن نعتقد فيه . بل ويرى أن اختيار ذلك إلى البشر خير من تولية إمام منصوب من الله، ويحث الناس على طاعة من اختاروه، ويتقدمهم في ذلك، وهو يعلم باعتبار القوم أن ذلك خلاف إرادة الله عز وجل، وأن الله عز وجل قد نصَّ على إمامته قبل خلق كل شيء بملايين السنين، وأنه علة خلق كل شيء. ويرينا القوم أنه ضرب بعرض الحائط كل هذا، وترك كل تلك النصوص التي زعمها القوم له منذ بدء العشيرة، مروراً بـ: إنما وليكم الله، وإنما يريد الله، وعشرات غيرها، بل ومئات، وانتهاء بحادثة الغدير، ليرى تنصيب غيره، وترك ما أمر به الله عز وجل ورسوله ، ويطلب بذلك رضا الناس بسخط الله عز وجل. وكأنه نسي قول رسول الله : من طلب رضى الناس بسخط الله جعل الله حامده من الناس ذاماً([214]). وقولـه: لا دين لمن دان بطاعة من عصى الله([215]). وهو يرى أن من تولى على المسلمين دونه غير عاص لله، كيف وهو يدعو إلى طاعته، ويرى أن ذلك لله رضاً. وكأنه نسيَ قوله : من أرضى سلطاناً جائراً بسخط الله خرج من دين الله([216]). بل قوله هو : لا دين لمن دان بطاعة المخلوق في معصية الخالق([217])، وغيرها. فضلاً عن عشرات الروايات الأخرى في عقاب من ادعى الإمامة بغير حق أو أطاع إماماً جائراً، كقولـهم عن الصادق: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إماماً من الله، ومن زعم أن لهما -أي: أبا بكر وعمر ا- في الإسلام نصيب. وقولـه في قولـه تعالى: ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)) [الزمر:60]، قال: من ادعى أنه إمام وليس بإمام، وإن كان علوياً فاطمياً. وقولـه: من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر. وقولـه: إن هذا الأمر لا يدعيه غير صاحبه إلا بتر الله عمره. وقولـه: من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أفضل منه فهو ضال مبتدع. وقول الباقر: من ادعى مقامنا -يعني: الإمامة- فهو كافر. وغيرها وهي كثيرة([218]). بهذا تكون أقوال الأمير السابقة قد أسقطت كل ما أوردناه من أول الكتاب من أحاديث وروايات منسوبة إلى الله عز وجل ورسوله والصحابة والأئمة أجمعين. وأكد إقراره بمنهج القرآن الكريم: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)) [آل عمران:159]. و: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) [الشورى:38]. لذا فلا عجب من أن يردد : إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً. ولا عجب من أن يقول لمعاوية في المهاجرين والأنصار: وما كان الله ليجعلهم -وفي لفظ: ليجمعهم- على ضلالة ولا يضربهم بالعمى([219]). ويقول للخوارج وقد خطئوه وضللوه: فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت فلم تضللون عامة أمة محمد بضلالي([220])؟ كيف لا وهو قد سمع رسول الله يقول: لا تجتمع أمتي على ضلالة([221]).