بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة العاشرة
بعد ان هدأت الأمور وسكنتْ العواطف وبدأت الحياة تدريجيّا تأخذ مجراها الطبيعي . وقد بدأت تظهر عليّ سمات الإلتزام , فكنتُ اواضب على الصلاة واتجنّب النقاشات الدّينيّة الاّ ما ندر . اصابتني عزلة بعض الشيء فقام المسئولون في العمل وكذلك الاصدقاء جزاهم الله خيراً قاموا بمراعاة حالتي النفسيّة التي كانت في الحضيض . وجدتُ بعض الهدوء النفسي لفترة من الوقت .
وكنتُ قد ذكرتُ لكم فيما سبق التزاماتي التي ابرمتها في جنيف . وكان لزاما علي الوفاء بها او اتّخاذ أي اجراء حيالها , فأنا شخص طبعني الله على احترم العهود والمواثيق والوفاء بتعهداتي مهما كلّفني ذلك . وهذا من فضل ربي , وليس لي فيه أي اجتهاد بل هو طبع فطرني الله عليه .
وكنتُ قد اخبرت الطرف السويسري عبر الهاتف بما حدث لي من ثاني يوم من وصولي المملكة وطلبتُ منهم تأخير كل شيء ريثما تعود الى حياتي الطبيعيّة . وكنتُ قد دفعتُ 10 آلاف دولار كمقدّم من ثمن المطعم البالغ حوالي 40 الف دولار ندفعها مناصفة بيننا كشركاء في الثمن .
فكّرتُ في الأمر كثيراً وقلّبتُ الأمور , فلم يعد الذهاب الى سويسرى أمراً ممكناً وذلك لما وجدتّه من تعلّق بأخي الأصغر ( علي ) الذي قد اصبح في الصف الأول الثانوي وبقيتُ متعلّقا به أكثر من ذي قبل . اصبحتُ احبّه اكثر ولا أريد البعد عنه , فقد كان لوفاة أخي حسن رحمه الله تأثيرا على عواطفي وقراراتي ..
في النهاية , رسى الأمر على عدم الذّهاب الى سويسرى .
فأرسلتُ لهم برسالة تحتوي على صورة من شهادة وفاة أخي وصورة من قرار وزارة الدفاع الذي يمنع العسكريين من الزواج بأجنبيات .
وذكرتُ لهم ان أي خسائر أو اضرار لحقت بهم جراء تصرّفي هذا , فلهم أن يأخذوها من المبلغ الذي قد دفعته سابقاً فإذا لم تكفي فعليهم ابلاغي وسوف ارسل لهم ما يعوض عن خسائرهم التي حصلت بسببي .
لم يكن بالامكان محادثة الرجل عبر الهاتف فهو لا يتحدّث الانجليزيّة إلاّ قليلاً جداً , وانا لا اعرف الألمالنية فكانت الرسائل هي الحل الوحيد وكانت الترجمة تتم عبر ابنته او مصدر آخر .
وبعد اسبوع استلمتُ رسالة منه يعزّيني فيها ويشكرني على الالتزام بالاتفاق , وذكر انه لم تلحق به أي خسارة بسببي ولكنّه يحتاج المبلغ ال ( 10 دولار ) لمدة شهرين وسوف يعيدها لي بعدها .
ارسلتُ له امتناني وشكرته على تفهمه لظروفي وأعطيته مهلة شهرين آخريْن فوق الشهرين التي طلبها هو . وان صعب عليه الأمر فمتى ما وجدها , ورجوت منه بأن لا يشق على نفسه في رد المبلغ ...... وهنا سؤال :
لماذا كل هذا التفصيل في هذا الأمر البسيط , وما الفائدة منه ...!!؟؟
فصلتُ في ذلك الأمر لأمرين الأوّل هو قصّة طريفة حصلت واراها مناسبة لأذكرها والثاني يتعلّق بانتكاستي التالية ....هههههه
واليكم القصّة
فذات مرّة وصلتني منه رسالة شكرني فيها على ثقتي به واعطائه المهلة وقال في رسالته انه معجب بسلوكي ومرتاح من تصرّفاتي . وقال ( مثل .... )
وقبل ان اكمل القراءة , كنتُ احسبه سيذكر من بين السلوكيّات مثلاً , الشجاعة الكرم والصدق والالتزام والثبات على العهود ....ولكنه لم يفعل
نعم لقد اشار الى بعضها من بعيد ولكنه ركّز على شيء آخر لم الق له بالاً .
فقد قال في رسالته ...
(( .... اعجبني منك جداً حينما كنّا نستقلّ الحافلة وصعد الرجل العجوز فلم يجد مقعداً حيث كانت الحافلة مكتضّة بالركاب ..... فنهضتَ انت واخذتَ بيد ذلك العجوز واجلسته مكانك وبقيتَ أنتَ واقفاً ...))
ثمّ استأنفَ بقوله .
(( ... لقد كنتُ فخورا بك , ليس فقط في تلك الرحلة بل بكل صداقتي لرجلٍ مثلك ولن اندم في يوم ما على معرفتي بك ..... الخ ))
هل لاحظتم ماذا اعجب الرجل فيّ ....!!!؟؟؟
ولم تنتهي الرسالة بعد فقد ذكر في آخر رسالته قوله :
(( ... وقد ذكرتْ لي ابنتي أن لديكم كتاباً مقدّسا , فأرجو اذا كانت تتوفّر لذلك الكتاب ترجمة باللغة الألْمانيّة فأرجوك ان ترسله لي ... ))
لاحظتم انه يطلب ترجمة للقرآن الكريم ...!!!
وما كان السبب الرئيس الذي اعجبه فيّ سوى
أن رجلا عجوزا صعد الى الباص ولم يجد مقعدا . فنهضتُ واعطيته مقعدي
الى هنا انتهت رسالة الرجل وانتهى كل ذكر له في هذه الحلقات , ولن تسمعوا عنه بعد الآن شيئا .
أما أنا فقد ذهبتُ في عصر ذلك اليوم الى سوق البطحاء ابحث عنما طلبه زميلي فقد فضّلتُ أن اشتريها من مالي ابتغاء الاجر والثواب . فلم اجد في مكتبات البطحاء أي نسخة للقرآن الكريم مترجمة الى الألْمانية , وذلك لنفاذها . وذهبتُ الى اكثر من مكان والى اكثر من مكتبة فم اجد . فذكرني شخص من اهل المكتبات بالمعهد العالي للدعوة الاسلامية . وبعد ظهر اليوم التالي استأذنتُ من عملي وذهبتُ الى المعهد العالي للدّعوة لأطلب منهم نسخة للقرآن مترجمة الى اللغة الألمانية . وكنتُ اعلم ان هناك تراجم كثيرة للقرآن في ذلك المعهد فقد تلقّيتُ فيه دورة لمدة شهر يأخذها كل مبتعث للخارج اجبارياً . وكانوا يوزّعون علينا الكتب المترجمة مجاناً ومنها القرآن الكريم والحديث وبمختلف اللغات .
ذهبتُ لمكتب المدير وطرقتُ الباب بهدوء حتى سمعت الإذن بالدخول فوجدت المدير وكان رجلاً كبيرا في السن وعنده شخص آخر يتحدّثان معاً عن الاراضي والمنح , والعقارات . وكنتُ مرتدياً الزّي العسكري . فسلّمتُ عليهما وبقيت واقفا صامتا ريثما ينتهيان من الحديث .
كنتُ لا أريد مقاطعتهما ..
تحدّثا قليلاً ثمّ التفتَ المدير نحوي بطريقة ليست حسنة .. وقال :
نَعَمْ ...... إيشْ عندّك ....!!؟؟
فقلتُ : سلامتك
أريد نسخة للقرآن الكريم مترجمة الى اللغة الألمانيّة .
فقال : وانا وشْ دخلني في هذا ..!!؟؟
فقلتُ :
على الأقل دلّني على الطريقة التي احصل بها على نسخة مترجمة فهناك شخص طلب مني ذلك وربما انه يسلم وبهذا نساهم معاً في هدايته .
فقال : يسْلم ما يسْلم ... انا وش دخلني بالموضوع ؟؟
فقلتُ :
كنتُ اعتقد ان هذا الموضوع يمكن ان يكون موجوداً عندكم .
فقال :
هذا معهد ... هذا معهد ... تعرف وش تعني كلمة معهد ....؟؟
فقلتُ :
طيّب ... الذي يريد ترجمة للقرآن , كيف يحصل عليها .!؟
فقال : يروح يسأل علنها في البطحاء ما هو في مكتبي
فقلت:
هل تعرف مكتبة في البطحاء محدّدة تدلني عليها ..؟؟
قال :
أقول وراك ما تذلف وتغلق الباب وتخلّي عنك خرابيطك ذِيْ .
كنتُ في بداية الأمر اعتقد أن شكلي لم يعجبه او ان منظري لم يكن مألوفا له , وهذا امر طبيعي فليس كل من تقابله يكون مبتسماً . ولكن استغربتُ انه حتى عندما سمع ان قصدي غاليا وعاليا وساميا ومع ذلك
قال لي : لماذا لا تغرب عن وجهي وتغلق الباب وتترك الهذيان .
الكلمات اعلاه هي ترجمة لكلامه .
ولقد كانت كلماته تلك صدمة لم اكن اتوقّعها من رجل يترأس معهدا متخصّصا في الدّعوة الى الله ....!!!
اشتطتُ غيضا وامتلأ قلبي حنقاً وارتفع ضغطي , فأطبقتُ شفتي صمتاً وهممتُ بالخروج دفعاً لسوء العاقبة ...
فسألني الرجل الذي كان جالسا عند المدير وقال :
تعرف شارع الستين بالملز ...؟؟
وكان يريد ان يدلّني على مكتبة او ربما مكان اجد فيه عازتي
فقلتُ له بغضب شديد : ( لا )
أنا أعرف شيئا واحداً وهو إما أنّكم كذابون أو أن الاسلام ليس دينا صحيحاً ...!!!!
استغفر الله
فقال الرجل : حسبي الله ونعم الوكيل ... انا لله وانا اليه راجعون .
أما المدير فقد قال : ايه ... هذا اللي توقعته من هذه الاشكال .
وللحق والأمانة , فالرجل الذي كان يجالس المدير كان مؤدّبا , فكانت تبدو عليه علامات الأسف من اسلوب المدير ولم ينطق بكلمة واحدة وكان مطرقا رأسه الى الارض ( اظنه حياء ) ...
اغلقتُ الباب بعنف , وخرجتُ غضبان , اتخبّط في غيظ شديد من سوء اخلاق بعض الخلق , وضيق الافق لديهم , ولا يهمّهم سوى انفسهم ,
وبينما انا اسير في أروقة مبنى المعهد قابلتُ شخصاً من بنقلاديش , يعمل هناك فيقوم بتنظيف المسجد وقاعة المحاضرات في ذلك المعهد , وكنتُ قد تعرّفتُ عليه سابقاً وقت دورتي قبل البعثة .
كان لطيفاً وكنتُ اعامله بلطف .. فأنا لا انظر ابدا لمنشأ الإنسان والناس عندي حسب مولدهم سواسي . فسلّم عليّ بحرارة وسألني عن سبب مجيئي الى المعهد , فذكرتُ له القصّة ... فضحك وقال لماذا لم تأتي اليّ أنا وسأعطيك كل ما تطلب وكم ما تريد ...!!!!!!!!!!!!!!
ثمّ اقتادني الى مستودع صغير هناك وفتحه وقال لي خذ كم ما شئتَ
وبأي لغة تريدها , ثم اختار لي هو لما لديه من خبرة في ذلك المجال وحسب ما تأتيهم من التعديلات والتنقيحات ....
حسبي الله ونعم الوكيل . وبهذا انتهت القصّة
على كل الاحوال حصلتُ ما اريد وارسلت الترجمة لزميلي .
والآن عندما تذكرتُ ذلك المدير ارتفع ضغطي وعلي ان اختم هذه
الحلقة والى اللقاء ان شاء الله .