بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الحادية عشر
في هذه الحلقة وما بعدها سيبدأ توجّه جديد ( في حالتي ) وسيبدأ منعطف آخر مختلف تماما عن ذي قبل , وأرجو من الله ان يوفّقني الى أن اتذكّر احسن عناصره وأهمّ جوانبه .
لعلّك ايها القارئ الكريم لا زلتَ تتذكّر ما جرى بيني وبين مدير المعهد العالي للدّعوة الإسلامية . ففي مساء ذلك اليوم وكنّا في عطلة نهاية الاسبوع , وقد اجتمع الكثير من الاصدقاء وقد اشترينا ( قات ) ...!!
وهو شجرة مشهورة في اليمن وجنوب المملكة وافريقيا . وهي شجرة مخدّرة , تطرد النّوم وتقسّي القلب وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة وعن معرفة الحق . انها شجرة الثّرثارين . فحين يتعاطاها الشخص فإنّه يُكثر الكلام ويزيد في الخصومة . وقد كنتُ اتعاطاها .
وما ان بدأنا نمضغ أوراق القات ونحشوا بها اشداقنا , بدأ الحديث حتى فاجأتُ الحاضرين بقصّتي مع المدير وكيف كانت اخلاق ذلك المدير سيئة معي للغاية .
وهذا ايضا هو دَيْدن معظم بسطاء الناس أمثالي وهذا هو دأب العُصاة ومن هم على شاكلتي , فما ان يقع خبرٌ مثل هذا حتى يذيعوا به , سواء تعاطوا قاتً او لم يتعاطوه ....!!
يسوّدون صفحات الآخرين .. لعلّ صفحاتهم تبقى بيضاء .
نقلتُ الخبر وبالغتُ في النّقل وزدتُ عليه ...!!
عكستُ صورة للرّجل لا يُحسد عليها . وفي المقابل كنتُ اذكر لأصدقائي حسن أدبي وعلو أخلاقي ومدى لطفي في التعامل مع ذلك المدير . وزدْتُ على ذلك بقولي أن هدفي كان ساميا وهو مساعدة رجل كافر لعلّه يعتنق الاسلام وانّ مطلبي كان فقط القرآن الكريم ..... الخ .
ولم يقصّر الاصدقاء والحاضرون من جانبهم فقد ذكروا هم ايضاً الكثير من القصص المشابهة والمتفرّقة , يأتون بها من هنا وهناك , مرّة ينسبونها لأنفسهم وتارات ينسبونها لغيرهم والكثير منها إماّ غير صحيح أو على الأقل قِيل لهم عنها بغير سند ..!!
كانت سهرة ساخنة وصاخبة ...!!!!
وفي ساعة متأخّرة من الليل انفضّ المجلس وتفرّق الجمع . ذهبتُ الى غرفتي وبدأت تخيّم عليّ حالة الصّمت والاكتئاب التي تنتاب كل من يتعاطى القات بعد ن يتوقّف عن مضغه للقات .
بدأ عليّ توتّر وشيء من غضب ربما من اثر القصص التي تناولها المجلس آنفاً . وذهبتُ اتخيّل ما حصل بيني وبين مدير المعهد . والغريب أن القات يجعل متعاطيه لا يستطيع ان يتخلّص من أي فكرة علقت بعقله .
ولذا تراهم يبيتون الليل يفكّرون في شيء تافه جداً وبسيط للغاية .!
فبقيتُ افكّر في قصّة ذاك المدير واقلّبها يمينا وشمالاً . ثمّ اقول في نفسي خلاص انتهى كل شيء , لا جدوى من تكرارها . وما أن اغمض عينيّ حتى ترجع الفكرة من جديد , فابقى افكر فيها مرّة ثانية ... ثمّ انهر نفسي واحاول ان اغيّر تفكيري في شيء آخر . وبعد ثواني تعود القصّة , فاستطرد معها من جديد مضيفاً اليها عنصرا جديدا كأنْ أقول ليتني ضربته أو لماذا لم اهزئه وتستمر معي الأفكار والخيالات . ثم اقطعها بشيءٍ ما ولكن بلا جدوى .... حاولتُ القراءة فلم استطع , اجبرتُ نفسي علي القراءة ولكن ما ان اقرأ جملتين او ثلاث حتى اجد نفسي متوقّفا عن القراءة وافكّر في ذلك المدير ....
لم استطع ان اتخلّص من تلك الافكار ولم استطع النوم ..!!
وكأنّه لم يبقى في العالم كلّه سوى هذه العناصر الثالثة
شاهي , دُخان , المدير . المدير , شاهي , دخان ...
يتقدّم بعضها ويتأخر البعض الآخر ....
سبحان الله العظيم , تبارك الله وتعالى
وفي هذه الأثناء غضبتُ من نفسي وقمتُ اتحدّث الي نفسي كأنّي اتحدّث الي شخص آخر أو كأنّي أوبّخ شخص غيري . وهذا الشعور يعرفه كل واحد منّا . انها الثنائية في الأنسان . وقد بدأتُ هذه السطور بتسبيح الله وتعظيمه , وذلك لأن هناك آيات يعرضها الله علينا ونحن معرضون , وهناك طرق للهداية يمنحها الله فنتغافل عنها , هناك اشياء بسيطة يسهل على المرء فعلها تلوح امامه في كل زمان وتلاحقه في كل مكان , ولكنه يتجاهلها . ليس شرطاً ان تكون تلك العبر في مسجد ولا عند شيخ ولا مختبر ولا معمل . هي هناك يجعلها الله في أي شيء ومتى يشاء .
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون .
ذكرتُ لكم أعلاه اني غضبتُ من نفسي وقمتُ اتحدّث معها وكأنّنا اثنان .
فقلتُ في بادئ الأمر مخاطباً نفسي :
ما الذي يجعلك تفكّرين بذلك المدير اكثر من اللازم . ؟
وما الذي يجعلك تعوّلين على هذا الأمر اكثر من غيره . ؟
لماذا لا تفكرين في الديانات واختلاف العقائد ..!!!؟؟
ألَمْ يكن معرفة الحق هو احب المواضيع الك ...!!!؟؟؟؟
قلتُ تلك الأسئلة الأربعة شفهيّا , فأعجبني ذلك وراق لي . وقبل ان اجيب عليها شفهيّا تناولتُ قلما ودفترا , وبدأتُ اكتب تلك الأسئلة ..!
كتبتُ السؤال الأوّل , وقلتُ في نفسي :
اجيب أوّلا على هذا السؤال ثم انتقل للسؤال الآخر . وهكذا .
وكان السؤال الأول عن سبب ( كُثْرة التفكير بمدير المعهد )
أمسكتُ القلم وبقيت ابحث عن جواب , مقنع . وبدأت نفسي تبحث عن اجوبة تناسبها هي وتميل الى جانبها او تتستّر بها . فأذكر اني قلت لها بصوت عالي جازم
(( مُقْنِع ))
وقد هالني مدى حيف الانسان عن الحق وأدهشني مدى غطرسة النفس .
وكان الجواب الأول ليس مقنعا وغير منطقيّ فقد كان هكذا :
افكّر في المدير كثيراً لأنّه سيء الأخلاق ...!!!
وبقيتُ قليلاً افكّر في الجواب واتأمّله , فانبثق سؤال آخر وهو:
وهل انت مسؤولة عن الناس ..!!؟؟
هل ان كل شخص سيء ستبقين تفكرين فيه ...؟؟
واذكر اني قلتُ (( هو سيء , وأنت مالك )) كما يقولها الاخوة المصريين
ولكن النفس تتهرّب وتتملّص من الحق وتختلق الكذب فقد بدأتْ تستخدم الدين لتجد لها عذرا ومبرّرا , ولتظهر ان غضبها كان لأجل الدين .
فقالت :
ان سبب غضبها لكون المسلمين بهذا الشكل من سوء الأخلاق .!!
وسبحان الله ألهمني الله الأعتراض فقلتُ ..
كم مسلم اسأء إليك أمس ..؟؟
طبعاً الجواب هو ( شخص واحد ) وهو المدير .!!
فقلتُ ان مدينة ارياض كل سكانها مسلمين واساء اليك منهم شخص واحد . افتتركين الآلاف وتتذكّرين الشخص الواحد .!!؟؟
ثمّ هل تعلمين ما هي ضروف ذلك الشخص الواحد فربما كان في مصيبة وربما انه يعاني من مشاكل ربما ارهقه الدَّيْن او ان بيته سيقع على اطفاله ... الم تسيء التصرف مع الرجل الجالس الى جانبه ..
وكنتُ افكّر بذلك تفكيرا فقط بدون كتابة وفي هذه الأثناء تذكّرتُ المسؤولين في عملي واصدقائي وكيف انهم ساعدوني اثناء مصيبتي . فقلتُ : اليس أولئك مسلين ..!!؟؟ .... كلهم مسلمين ...
عددتُ الكثير منهم وكلهم مسلمين . والبنقلاديشي الذي اعطاني الترجمة مسلم , وصاحب المطعم مسلم والرجل الكويتي الذي اسعفني في طريق الخرج مسلم , والهندي الذي يؤذّن في مسجد مصنع الاسمنت مسلم واخلاقه عالية فوق العادة وفلان مسلم ...... الخ .
وبدأتْ النفس تتنقّل من عذر لآخر واعتقدتْ انها وجدت ضالتها في الجواب التالي او التبرير التالي لغضبها على المدير فقالت :
أن غضبي الشديد هو بسبب أن المدير لم يشأ ان يساهم في هداية الرجل الكافر ( السويسري ) الذي يريد ترجمة للقرآن بالألمانيّة ...!!!
وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى وبفضله جلّ جلاله .
الهمتُ السؤال التالي على جوابها ( أي نفسي ) وهو :
كم اهتدى على يديك من النصارى عندما كنتَ في بريطانيا ..!!؟؟؟
ثمّ انهالت عليّ اسئلة كثيرة وبطريقة غريبة جداً ومنها اذكر :
هل نسيتَ انك تنكر وجود الله ..؟؟
الم تكن ليبراليّا ملحدا كافرا ...!!؟؟
الم تجلس مع صاحبك السويسري اياما كثيرة من قبل ..؟؟
فهل ذكرتَ له شيئا عن الاسلام ..!!؟؟
الم تحاول ان تتزوّج من امرأة نصرانية ..؟؟
وهل وكم وكيف ومتي وأين والى متى ......
يا الله .
لقد اعجبني هذا الشيء ... اقصد ان اتحاور بصدق مع نفسي .
ولقد ادمنتُ عليها . وبقيتُ معها فيما بعد ليالي طوال . لم اكتب شيئا تلك الليلة ولكني تركتُ في دفتري ملاحظة وتذكير بذلك الشيء الجديد وتصوّرا بسيطا عن كيفية استعماله فيما بعد وعزم على استغلّاله فقد حل مشكلتي مع المدير بأبسط الطرق وبأسرع وقت . وفتحت امامي ابوابا واسعة الج فيها متى ما اشاء واخرج منها على كيفي ...
وكان عملي الأوّل هوعبارة عن مسح ميداني جيوديسي لجميع أرض المملكة جغرافياً . وهذا يتطلّب منا التّنقل والسّفر بين مناطق المملكة المترامية الاطراف . وقد اعطاني هذا التنقل الفرصة للتعرّف على مناطق البلاد من شرقها لغربها ومن شمالها ( باستثناء تبوك ) الى جنوبها واحتكّ بكل اطياف المجتمع واتعامل مع مختلف القبائل والعشائر , مما اكسبني خبرة ودراية بعادات وتقاليد كثير من الناس , وهذا شيء مفيد لأنه يزيد من الادراك والوعي لدى الشخص .
وقد قضيتُ كثيرا من الليالي في الصحراء . أما بمفردي او مع شخص واحد فقط . فقد كنا نتوزّع فِرَقا , كل فرقة عبارة عن سيّارة وبها جهاز وطقم يتكوّن من شخص او شخصين .
وكانت الاقمار الاصطناعيّة gps حينها فقط 6 اقمار منها اربعة فقط للعمل أي في بداية المسح بالاقمار . وتلك الاقمار كانت تشرق على المملكة ليلاً . وهذا أتاح لي الوقت الكافي ومنحني الفرصة لكي ابقى لوحدي أتناقش مع نفسي واحاورها . لقد كنتُ امضي معظم وقتي افكّر في هدوء وصمت واقلّب الأمور بكل تأنٍ وعلى نار هادئة .
وسوف اسرد لكم الكثير من تلك النقاشات التي في الآخير أدت بي بفضل الله ورعايته الى الهدى والدين الصحيح اعبد الله وكأني اراه .
ثمّ تزوّجتُ بعد فترة اقل من السّنة وكان عمري حينها حوالي خمسة وعشرون عاما ... وارجو ان لا يستعجل القارئ الكريم فلم يزل الطريق طويلاً .... في حفظ الله ورعايته