بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الثالثة عشر
رجعتُ من الولايات المتحدة الامريكية وباشرتُ عملي , وقد اصبحتُ الآن والحمد لله ( مُعَلِّماً ) أدَرّس مادة الطبوغرافيا ( المساحة والخرائط ) وقد وانتُدِبْت الى عدّة معاهد ومدارس عسكرية لتدريس تلك المادّة .
رزقني الله بمولودة . وكان الحدثُ يعتبر لي درساً غاية في الأهميّة , فقد اكتشفتُ مدى حبّ أبي لي . شعرتُ ان ابي كان يحبّني ولم اكن اعلم أو اشعر بذلك في قرارة نفسي .
ومن هنا عرفتُ ان هناك أمور قد لا يعرفها المرء مهما قيل له عنها ومهما حاول ان يفكّر فيها , إلاّ عن طريق أحداث ومؤثّرات يعيشها هو بنفسه . واقصد ان يحسّ ويشعر بها في وجدانه وكيانه فعلاً .
وفي شهر شعبان 1409 هـ
توفيَّ اخي علي . وقد تأثّرتُ نفسيّا بذلك . ولكن الحمد لله على كل حال . هذا انعكس سلباً على حياتي , فإنّ تتالي وتعدّد الصدمات العاطفيّة له تأثير وخاصّة عند الذين بعيدين عن الله سبحانه وتعالى . بعد شهر من وفاة أخي رزقني الله البنت الثانية . ولكني اصبحتُ لا اطيق الرياض . اصبتُ بهم وغم وكرب وضيق في مدينة الرياض . لم استطع العيش في الرياض . وكان ذلك بدون سبب ملموس وبلا مبرر ولا مصدر لذلك الكرب والطّفش والنّفور .
ان الله يقود الانسان الى الهداية من حيث لا يعلم , ويهيئ له سُبُل الوصول للحق من حيث لا يدري .. طلبتُ من عملي ان ينقلني الى حفر الباطن والحمد لله تم لي ذلك , واكرمني الله بأن صرتُ على رقم معلّم دائم وازاول مهنة التعليم العسكري بإستمرار .
وفي حفر الباطن بدأتُ نقاشاتي مع نفسي حول الدين برمّته .
بدأتُ حواراتي مع نفسي . اطرح الموضوع واناقشه مع نفسي . وكان كل ما بدأتُ موضوعاً انتهي الى طريق مسدود . فأبدأ بموضوع آخر , وقد اشتري الكتب التي تتحدّث عن ذلك الموضوع , واسأل مشائخ , ومطّلعين فلم يكن البحث سهلاً كما هو عليه الأيام هذه . فأخذ مني ذلك وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً , وبدأتْ قواي تنهار من شدّة التّعب .
نعم كنتُ انجح في أمور وكنتُ احصل على فوائد دنيويّة وعلوم وتوسّع في الإدراك .
وأمّا الدين وبالذّات ( العقيدة ) فقد حاولتُ بشتّى السُبل , واجتهدتُ بصدق وجد ولكن بلا فائدة . قلتُ في نفسي , لابدّ ان هناك خطأ ما , إما في طريقتي او اسلوبي او وسائلي بدأتُ من جديد أفكّر وافكّر .... واعصر فكري واجهد نفسي . وفجأة تذكّرتُ اهم شيء في تخصّصي ..!!!
فالعمل الذي اصبحتُ فيه معلّماً يحتّم علينا : أنّ في أي مشروع او عمل ميداني يجب علينا ان ننطلق من نقطّة معلومة ( الأحداثيات ) . نقطة ثابتة ومحدّدة إما معروفة مسبقاً أو نعرّفها قبل كل شيء او نفترض أنها معلومة ونتعامل معها كنقطة صحيحة معلومة . وبهذا تستطيع ان تنطلق منها وتنسب باقي المعلومات اليها وكأنها فعلاً نقطة معلومة ( احداثيّا ) .
قلتُ لماذا لا استخدم هذا الاسلوب او هذه الطريقة ..؟؟
سبحان الله الذي خلق لنا العقل وامرنا باستعماله .
ولكن من اين يا ترى سأنطلق ..!!!؟؟
لم يطل وقت حتى وجدتها . انها الرّبوبية . أي وجود الرّب الخالق .
يجب ان ابحث عن الخالق حتى اتأكّد , فاذا لم اتأكّد فسوف افترض ان هناك خالق ثم اتعامل مع باقي المعلومات على ذلك الاساس .وسأحصل على نتائج
وبعد ذلك سافترض انه لا يوجد خالق , ثم اتعامل مع المعلوما بهذا الاساس . وسأحصل على نتائج ايضاً وبعدها اقارن النتيجتين واقيسها قياسا علميا .
طرحتُ على نفسي هذه الأسئلة وهي :
1 - هل يوجد خالق لهذا الكون ..؟؟
إذا كان الجواب ب ( نعم ) . فهل هو يسمعنا ويرعانا أم لا ..؟؟
وإذا كان الجواب ب ( لا ) . فكيف وُجِدْنا , وكيف وُجد هذا الكون .؟؟
2 - هل ارسل الينا رُسلاً فعلاً ...؟؟ إذا الجواب ب ( نعم )
فكيف أتأكّد من صحّة ذلك ...؟؟
وأذا الجواب ب ( لا )
فلماذا ادّعى الانبياء ذلك بدون ان يحصلوا على أيّة فوائد شخصيّة .؟؟
اطلقتُ تلك الأسئلة على ان يكون السؤال الأول هو نقطة الإنطلاق او البداية لباقي الأسئلة .. فهي مرتبطة ببعضها البعض . وكنتُ مستعجلاً فهي أول محاولة لي من هذا النوع .
وقد تبدوا تلك الأسئلة غبيّة وساذجة . ولكن هذا ما كان معي ولم اعلم اني ساذج الاّ بعد حين . فلا تستغرب فإنّ الضلال يفعل اكثر من هذا .
أول ما سألتُ نفسي تلك الأسئلة , بادرتني هي بالسؤالين التاليين:
مِنْ أي المصادر تريدني أن آتي لك بالأجوبة ... !!؟؟
من كُتُب المسلمين أم من كُتب الكفار والملحدين ...!!؟؟
وقفتُ امام هذين السؤالين مبهوتاً حائرا . فلو الجواب سيكون من كتب المؤمنين فلا يحتاج الأمر بحثاً فهم يقرّون بوجود الله والملائكة والكتب السماويّة والانبياء والبعث . وهي موجودة امام ناظريّ منذ 30 سنة . أي منذ عرفتُ العالم .
وان طلبتُ الجواب يكون من كتب الملحدين والكفار المنكرين لله , فكيف ابحث عن الله في كتب تنكره اصلاً , واهلها كفّار ينفون وجود الله ...!!
ارجو ان تتأمّلوا السطرين اعلاه جيّدا فهما مهمّان ..!!!
طلبتُ من نفسي تأخير جوابي عليها الى حين , وبقيت أفكّر.
فكرتُ طويلاً وحاولتُ .... حتى اني حاولت الانتحار من شدّة العنت والعناء الذي صادفته , وكنتُ كل فترة أقول لنفسي سآتي لك بالجواب اليوم او بكرة .. كنتُ مشغولاً بذلك اكثر مما يتصوّر أي احد .
حصلت لي تساؤلات لم تخطر في بالي من قبل . وهي لماذا انت تسأل الآخرين عن الله وعن الحق .؟؟ لماذا لا تبحث عن الحق بنفسك ..؟؟ وما دام انك تلوم الآخرين الذين يتّبعون اباؤهم او يتّبعون ( المطاوعة ) المشائخ بدون وعي فها أنت تتبع داروين وغيتس ولوثر وغيرهم .
فلماذا تلوم الآخرين ..؟؟ ومن الذي قال لك أن داروين صادقاً ..؟؟ او هرتزل موثوقاً به ..؟؟
لماذا تكذّب على كيفك وتصدّق من تشاء ..!!؟؟
ولأوّل مرّة تخطر في بالي آية من القرآن الكريم وهي هذه الآية :
مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً
[الكهف : 51]
هزّت كياني تلك الآية وبقيتُ اتأمّلها كأنّها نزلت تلك اللحظة .
فبقيتَ فترة أقلّب افكاري وأخيرا , قلتُ لنفسي بقراري وهو : لا اريد الجواب لا من كتب المسلمين ولا من كتب الكفّار . اريد الجواب من خبرتك انت , أي مما تعرفينه أنتِ يا ( نفسي )
. قلتُ لها اريد الجواب من حياتك ووعيك وفهمك أنْتِ ..!!!
وأذكرُ أنه في الحال راودني وسواس يقول لي :
من حضرتك ...؟؟؟ وما هي المعلومات التي تمتلكها ... ؟؟؟
يا برفسور الغفلة .. هل نسيتَ انّك مجرّد عسكري طرطور .؟
طبعا ذلك الوسواس يريد ان يثنيني ويثبّطني .!
فأصرّيت على ان تكون الاجابة من خبراتي الذاتيّة ومن ملاحظاتي الشخصيّة , مهما كانت صغيرة وتافهة , وبأي كيفيّة وبأي صيغة .
وسبحان الله ... لا إله الّاه الاّ الله
حاولتُ بكل ما اتيتُ من امكانيّة اريد على الاقل بداية انطلاق .. اقول واحاول بلا أي جدوى لم اجد حتى البداية او الكيفيّة التي ابدأ بها . كأنّ شيئا يمنع عني ذلك او يحجب عن المعلومات .
مضى وقتُ وقد كنتُ ناسياً للموضوع لم يكن على بالي تلك اللحظة .
وكما ذكرتم لكم في البداية انه كان لدي بنتان صغيرتان وكنتُ اداعبهما متأمّلا شكلهما الجميل وضحكهما وردود افعالهما الساذجة . وذات مرة كنتُ بمفردي معهما اذ ان زوجتي عند جارتها , فابقيت البنتين عندي , ولا اعلم السبب الذي جعلني افكّر في موضوعي فجأة تذكّرته فما كان مني إلاّ أن رفعتُ كفّي الصغيرة ّ من بناتي ذات العام من عمرها .
رفعتُ يديها الى السماء وقلتُ لها قلي :
( يا رب أهدي بابا ) .. كرّرتها عدّة مرات
فكانت بنتي الكبيرة وعمرها سنتين تتمتم بكلمات مكسّرة فلم تكن تجيد الكلام بعد ... فأخذتُ بتلك الكفين الصغيرين ورفعتهما الى السماء وقلتُ :
(( اهدني أنا يا رب , يا الله أهدني الى الحق , يا رب لو كانت يديّ نجستين من أثر ذنوبي فإني امدّ اليك يد هذه الطفلة الطاهرة , واطلب منك الهداية , تعبتْ يا الله وانا اركض والهث وسط هذه الحيرة وهذا الضياع .. تعبتُ يا الله .. تعبت يا الله .. تعبتُ يا الله ... ))
وأجهشتُ بالبكاء ...
كنتُ ابكي بشدّة , فاقتربت بنتي الكبيرة مني وقامت تتلاعب بدموعي بأصبع من اصابعها الصغيرتين . كأنّها تريد مسح دموعي ثمّ بلغة الاطفال قالت :
( تبتي ..!! ) بابا تبتي , تقصد ( يا ابي أنت تبكي ) .
بكيت بكاءً حارّاً , حتى شاهدتُ بناتي قد تغيّرتْ وجوههن وأوشكن على البكاء فتوقفتُ غصباً , وبقي لصدري أزيز وحركة كالتي تصدر من صدور الاطفال حينما يبكون لوقت طويل .
وحاولتُ ان امسح دموعي التي لم تتوقّف .
اشفقتُ على البنات فتوقفت .
وبعدما توقفت عن البكاء وهدأتُ وجدتُ في نفسي راحة لم اشعر بها من قبل وبرد يغشى قلبي لم اعرفه . يا الله ... سكنت كل صراعاتي .. كان ذلك الشعور رهيباً وجميلاً وغريباً .
ولكن الأغرب من ذلك الذي سوف تقرأه ان شاء الله في الحلقة القادمة
الى اللقاء بحول الله وعونه