الفصل الأول : تاريخ الحكم على القراءات وأهميته ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول : تاريخ الحكم على القراءات .
المبحث الثاني : أهمية الحكم على القراءات .
تاريخ الحكم على القراءات:
يرجع تاريخ الحكم على القراءات إلى بداية الإذن بالقراءة على سبعة أحرف
فكان الحُكم ـ عند اختلاف الصحابة في القراءات ـ إلى الرسول 
ففي حادثة عمر ( ت 23 هـ )
مع هشام بن حكيم ( ت بعد 15 هـ )
لما استقرأهما الرسول
صوّب قراءة كل واحد منهما) (2)، كما وجّه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إلى أن يقرؤوا كما عُلّموا(3) .
فلا يقبل من القراءات إلا ما كان منقولا عن الرسول 
وعلى هذا النهج جمَع أبو بكر الصديق ( ت 13 هـ )
القرآن الكريم إذ كان من شروطه أن لا يثبتوا بين اللوحين إلا ما ثبت سماعه من الرسول
وتُلقي عنه (4) ومما يدل على ذلك قول عمر بن الخطاب( ت 23 هـ )
: " من كان تلقى من رسول الله شيئا من القرآن فليأتنا به "(5) فالتلقي شرط معتبر في القرآن الكريم وقراءاته.
وقد لزم جميع الصحابة رضوان الله عنهم هذا النهج القويم ، حيث كانوا يقرؤون بما تعلموا ، ولا ينكر أحد على أحد قراءته
ثم أن انتشروا في البلاد يعلمون الناس القرآن والدين ، " فعلّم كل واحد منهم أهل مصره على ما كان يقرأ على عهد النبي
فاختلفت قراءة أهل الأمصار على نحو ما اختلفت قراءة الصحابة الذين علموهم "(6).
وبعد سنة واحدة من خلافة عثمان بن عفان ( ت 35 هـ )
، أي في حدود سنة خمس وعشرين(7) شهد حذيفة بن اليمَان (ت 35 هـ )
فتح أَرْمينية وأَذربيجان فوجد الناس مختلفين في القرآن " ويقول أحدهم للآخر : قراءتي أصح من قراءتك ، فأفزعه ذلك(8)فركب حذيفة إلى أمير المؤمنين
فقال : " يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى"(9)
فقام عثمان بن عفان الخليفة الراشد بكتابة المصاحف على اللفظ الذي استقر عليه العمل في العرضة الأخيرة
عن النبي
بمشورة الصحابة
واتفاق منهم ، فأخذ المسلمون بها وتركوا ما خالفها(10) .
ومن هنا ظهر العمل بالمقياس القرّائي الذي يعتبر شرطا أساسا في الحكم على القراءة ، وهو موافقة الرسم العثماني وكل قراءة خالفت هذا الرسم عند جمهور العلماء لا تُعدّ متواترة عن النبي
،وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة(11).
فلا تصح القراءة بما خالف الرسم العثماني من أوجه القراءة وإن صح نقلها، وهذا هو أحد الأركان الثلاثة لصحة القراءة والركنان الآخران هما : ثبوت القراءة بالنقل الصحيح ، وموافقتها للغة العربية.
أما شرط النقل فقد تقدم آنفا ، وأما شرط العربية فمنشؤه من إنزال القرآن على لسان العربية ، قال الله تعالى : ( وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين ) (12)
ومقياس العربية أشبه بالوصف ، لأن القراءة إذا صحت نقلا لزم أن تصح عربية .
وبعد : فيمكننا القول : إن شروط قبول القراءات التي اعتمدها أهل السنة والجماعة(13) كانت أصولها منذ زمن الرسول
واكتملت بالتحديد بعد العرضة الأخيرة ، حيث لا تجوز القراءة إلا بما أقرأ به الرسول
من أوجه القراءات واتصل به ووافق ما رسم عليه المصحف على مقتضى العرضة الأخيرة ، ووافق لغة القرآن
فلا جرم أن تلك الأركان مستقاة مما تواتر نقله عن الرسول
على هذا النحو .
وما كان لهذه الشروط أن يرتكز عليها أهل السنة والجماعة لولا اعتمادها على نصوص الشريعة وأصولها ولاسيما أن الأمر يختص بالقرآن الكريم ، فما خالف هذه الشروط من أوجه القراءات فهو منسوخ أو باطل أو شاذ(14)
ولا يمكن اعتقاد ذلك والحكم به إلا بدليل من القرآن والسنة
" إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي،وما نُسخ بالإجماع،الإجماع يدل على ناسخ قد سبق في نزول الوحي من كتاب أو سنة(15)
وما يقال في النسخ يقال فيما شابهه من الأحكام المذكورة آنفا القاضية ببطلان ماخرج عن تلك الأصول
ولهذا قال العـلماء :" القـراءة سـنة"(16)، قال إسماعيل القاضي: ( ت 282 هـ ) في معنى ذلك :
" أحسبه يعني هذه القراءة التي جُمعت في المصحف(17)".
وقد عمل القراء بهذا الميزان إقراء وتأليفا في الحكم على القراءات، كما جاءت الإشارة إليه في أوائل مصنفاتهم
فقال أبو عبيـــد القاسم بن سلام (ت 224 هـ) - وهو أول إمام معتبر جمع القراءات ـ(18)
بعد أن ناقش أحد أوجه القراءات علل حكمه بأنه اجتمعت له الشروط الثلاثة المذكورة ، حيث قال :
" اجتمعت له المعاني الثلاثة من أن يكون مصيبا في العربية وموافقا للخط وغير خارج عن قراءة القراء"(19)
وعلى هذا الأساس اعتمد مكي بن أبي طالب ( ت 437 هـ ) ما يقبل من القراءات وما لا يقبل(20)
وقد ظل هذا المعيار هو الحكم الذي يُحتكم إليه عند اختلاف أوجه القراءات
ولا سيما بعد أن كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم ، وكثر أهل البدع الذين قرؤوا بما لا تحل تلاوته(21).
وكلما تقادم الزمن كثر القراء وانتشروا ، وخلفهم أجيال بعد أجيال في طبقات متتابعة
فمنهم المجوّد للتلاوة المشهور بالرواية والدراية ، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف
وكثر بسبب ذلك الاختلاف ، وكاد يختلط المتواتر بالشاذّ
فانبرى جهابذة العلماء فميزوا ذلك وحرروه وضبطوه في مؤلفاتهم(22).
قال الحافظ ابن الجزري ( ت 833 هـ ) :
"وإذا كان صحة السند من أركان القراءة كما تقدم تعين أن يعرف حال رجال القراءات كما يعرف أحوال رجال الحديث
لا جرم اعتنى الناس بذلك قديما ، وحرص الأئمة على ضبطه عظيما ، وأفضل من علمناه تعاطى ذلك وحققه
وقيد شوارده ومطلقه ، إماما الغرب والشرق الحافظ الكبير الثقة ـ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني ـ
مؤلف التيسير وجامع البيان وتاريخ القراء وغير ذلك ومن انتهى إليه تحقيق هذا العلم وضبطه
وإتقانه ببلاد الأندلس والقطر الغربي ، والحافظ الكبير ـ أبو العلاء الحسن بن أحمد العطار الهمداني ـ
مؤلف الغاية في القراءات العشر وطبقات القراء وغير ذلك ومن انتهى إليه معرفة أحوال النقلة
وتراجمهم ببلاد العراق والقطر الشرقي .
ومن أراد الإحاطة بذلك فعليه بكتابنا غاية النهاية في أسماء رجال القراءات أويى الرواية والدراية"(23).
ثم إن الحافظ ابن الجزري ( ت 833 هـ ) جمع ما انتهى إليه من سبقه في مصنفاته المنيفة
ويأتي في مقدمتها الكتاب المذكور غاية النهاية وكتابه النشر في القراءات العشر ومنظومته طيبة النشر
ومن ثم عكف الشيوخ عليها تأليفا وإقراء ، فاشتهر علم التحريرات الذي يعنى بعزو أوجه القراءات إلى طرقها ومصنفاتها
في دقة متـناهية مع بيان الجائز منها والممنوع حال الإقراء
وآخر ما انتهى إليه هذا العلم تحقيقا وتأليفا وإقراء هو الإمام محمد بن أحمد المتولي ( ت 13 13هـ )
الملقب بابن الجزري الصغير ، إذ عليه مدار الإقراء وبه تلتقي جل أسانيد القراء
فهو بجدارة إمام مدرسة القراءات في العصر الحديث(24) .
ولئن استمر العمل في تحرير القراءات والحكم عليها بعد ابن الجزري فإنه لن ينقطع بالمتولي
وهو مجال رحب للقراء والباحثين .
أهمية الحكم على القراءات:
القراءات ميراث خالد اختصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم ، وعلم القراءات علم جليل ، له من الرواية ذروة سنامها
ومن الدراية صافي دررها ، وإحكام مبانيها والتبحر في مقاصدها والغوص في معانيها بحر لا ساحل له وغور لا قاع له .
وعلم القراءات ليس له حد ينتهي إليه ، فمجالاته عديدة وفروعه متشعبة ، وطرق أسانيده لا تكاد تستقصى
ومعاني وجوه القراءات لا تكاد تنقضي ، فكلما أنعم الباحث النظر في تصاريفها تجددت معانيها في حلل أبهى .
وتجيء مكانة الحكم على القراءات في أولويات القيم العلمية لهذا النوع من العلوم الشرعية .
قال الحافظ ابن الجزري (ت 833 هـ) في سياق تعداد فوائد علم القراءات:
" ومنها بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم ، من حيث تلقيهم لكتاب ربهم هذا التلقي ، وإقبالهم عليه هذا الإقبال
والبحث عن لفظةٍٍ لفظةٍ ، والكشف عن صِيغةٍ صِيغةٍ، وبيان صوابه، وبيان تصحيحه
وإتقان تجويده حتى حموه من خلل التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف ، فلم يهملوا تحريكا ولا تسكينا
ولا تفخيما ولا ترقيقا ، حتى ضبطوا مقادير المدات وتفاوت الإمالات وميزوا بين الحروف بالصفات
مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم ، ولا يُوصل إليه إلا بإلهام بارئ النسم "(25) .
وتشتمل الأهمية العلمية للحكم على القراءات على الجوانب العقدية والفقهية .
أما الجانب العقدي :
فإن ما قُطع على صحته يكفر من جحده لأنه من القرآن
وكل قراءة ثبتت على هذا النحو فهي مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ، كلاهما حق يجب الإيمان بهما والعمل بهما
وسواء كانتا قراءتين أم أكثر ، وأما ما لم يقطع على صحته فإنه لا يكفر من جحده
لأن ذلك من موارد الاجتهاد التي لا يلحق النافي ولا المثبت فيها تكفير ولا فسق ، والأولى أن لا يُقدم على الجزم بردّ قرآنيته
وأما ما لم يثبت نقله ألبته أو جاء من غير ثقة فلا يقبل أصلا (26) .
وأما الجانب الفقهي :
فهو منبثق من الجانب العقدي ، إذ ما قطع عليه من القراءات بكونه قرآنا جازت القراءة به في الصلاة وخارجها
وما لم يقطع بصحته فقد اختُلف فيه(27) .
والقراءة الصحيحة المقروء بها لا خلاف في الاحتجاج بها , والأظهر أن الشاذ من القراءات إذا صح نقله
فإنه يحتج به في الأحكام وإذا لم يصح نقله فلا يجوز الاستدلال به في الأحكام(28).
وينبغي أن يحمل ذلك على ما جاء في التفسير واللغة أيضا ، فلا يُستند فيها إلا على قراءة صحيحة
ولو كانت منقولة نقلا آحادا ، كما أن القراءة إذا ثبتت وجب قبولها وعدم ردها ولو أباها بعض النحويين (29) .
حقا فدراسة القراءات والحكم عليها ذات أهمية فائقة ، وتبرز هذه الأهمية في سائر فروع القراءات ومجالاتها النقلية والعقلية
ولا سيما في معايير قبول القراءات واختيارها ، وفي مقدمتها أركان قبول القراءة السالفة الذكر.
ولا تزال القيمة العلمية في ذلك ذات أهمية فائقة ، وبخاصة في القراءات التي لا يقرأ بها الآن
وأكثرها يذكر في الكتب غير معزو بَلْهْ بيان نوعها ودرجتها
وربما أُخذ بها في الأحكام الفقهية والمعاني التفسيرية والقواعد اللغوية وغيرها
وإذا اتضح أن ما كان كذلك من القراءات لا يحتج به إلا إذا كان بنقل صحيح فإن البحث فيها من أولى المهمات .