الأثر الرابع
الانتهاء إلى العواقب المُرْديَة والمآلات السَّيئَة
من آثار الفتن وعواقبها: أن من يدخل الفتنة ويتوَّرط فيها: يبوء بالعواقب المردية والمآلات السَّيئَة، ولا ينال منها خيرًا، وفي الوقت نفسه لا يحصِّل خيرًا، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تتبَّع جملةً من الفتن الَّتي ثارتْ في أزمنة قبله ورصدها رحمه الله، وذكر في كتابه ((منهاج السُّنَّة)) خلاصةً جميلةً نافعةً مفيدةً لمآلات تلك الفتن فقال رحمه الله: (( قلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلاَّ كان ما تولَّد على فعله من الشَّرِّ أعظم ممَّا تولًّد من الخير ))، وذكر أمثلةَ كثيرةً لِفِتَنٍ حصلتْ، ثمَّ لخَّص نَتَاجَ وآثار تلك الفتن: فقال رحمه الله: ( فلا أقاموا دينا، ولا أَبْقَوْا دُنْيَا )(1).
أي : من تصدَّروا تلك الفتن، وسعوا فيها، ما أقاموا دينًا، ولم يُبقوا دُينا: لأنَّ الفتنة إذا ثارت يقع القتلُ، ويكثر الهَرْجُ، ويموج الناس، وتحصُل الفتن، والعواقب السيئة، ولا يحصِّلُ مُثِير الفتنة أيَّ خيرٍ.
ومَرَّ قريبًا معنا قصَّةُ النَّفر الذين لم يَعْبَؤوا بنصيحة الإمام أحمد، وكذلك قصة النفر الذين لم يعبؤوا بنصيحة الحسن البصري، وكانت النتيجة عند هؤلاء وعند هؤلاء أنَّهم ما أقاموا دينًا، وكانت مآلاتهم: إما إلى حبس أو إلى قتل أو هروب أو غير ذلك من المآلات والنِّهايات، وهذا متكرِّرٌ في التَّاريخ.
وفي المجلد الثامن من (سير أعلام النبلاء) – في ترجمة الحكم بن هشام الدَّاخل الأموي- كان أمير الأندلس-: يقول الذّهبي في قصةٍ طويلة لا يَسَعُ المقام لذكرها، ولكن يمكن أن تُراجع في ( سير أعلام النبلاء) (2)، بدأها الذهبي رحمه الله بقوله: ( كَثُرَت العلماء بالأندلس في دولته –أي دولة الحَكَم- حتَّى قيل: إنه كان بقرطبة أربعة آلاف مُتَقَلِّس مُتَزيِّن بزيِّ العلماء – يعني: كَثُرَ أهل العلم وطلبة العلم المتزيِّين بزيِّ أهل العلم- قال : فلما أراد الله فناءهم: عزَّ عليهم انتهاك الحَكَم للحُرمات، وائتمروا ليخلعوه، ثم جيَّشوا لقتاله، وجرت بالأندلس فتنة عظيمة على الإسلام وأهله فلا قوَّة إلاَّ بالله )، ثمَّ سرد القصَّة رحمه الله، وفي نهايتها أنَّ كثيرًا من هؤلاء قُتلوا ومنهم مَنْ فَرَّ، ومنهم من سُجِنَ دون أن يقيموا دينًا بمثل هذه الفتن التي تُشعل وتُؤجَّج، والسَّعيد – كما يُقال- مَنِ اتَّعظ بغيره.
بل إن عددا كبيرا ممن شاركوا في الفتن ودخلوا فيها كانت نهايتهم فيها النَّدم وتمنِّي أن لو لم يدخلوا في تلك الفتن.
وسُطِّر من ذلك شيءٌ كثير في كتب التاريخ والتراجم، أخبارٌ لأولئك الذين شاركوا في الفتن كانت نهايتهم النَّدم على ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله: ( وهكذا عامَّة السَّابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال ) (3).
ويقول أيُّوب السَّخْتِيَانِي رحمه الله، ذكر القرَّاء الذين خرجوا مع ابن الأشعت: فقال : ( لا أعلم أحدًا منهم قُتِلَ إِلَا قد رُغِبَ له عن مصرعهِ، ولا نجا منهم أحدٌ إلا حَمِدَ الله إلي سلَّمه ) (4) وندم على ما كان منه.
ومن الأخبار المفيدة واللَّطيفة في هذا الباب قصة زُبيد ابن الحارث اليامي، وهو من رجال الكتب السِّتَّة، ومن علماء الإسلام، وهو ممَّن دخل في فتنة ابن الأشعت، ولكنَّه سَلِمَ منها، وسَلِمَ من القتل، قال محمَّد بن طلحة: ( رآني زبيد مع العلاء بن عبد الكريم ونحن نضحك، فقال : لو شهدتَ الجماجم ما ضَحِكْتَ! )، و (الجماجم) التي يشير إلها: جماجم المسلمين ورؤوسهم تتساقط بأيدي المسلمين أنفسهم، يقتل بعضُهم بعضًا ثم قال زبيد: ( وَلَوَدِدْتُ أنَّ يدي –أو قال: يميني- قُطعت من العَضُد ولم أكن شهدت ذلك ) (5).
ثم جاءت فتنة بعد ذلك ودُعِيَ إلى المشاركة فيها لكنه رأى الآثار والعواقب وانْتَبَه، فتأمل جوابه الطَّريف اللطيف الذي هو جواب مجرِّب، جاء في بعض الرِّوايات أن منصور ابن المعْتَمِر كان يختلف إلى زبيد، فذكر أهل البيت يُقتلون، ويريد زبيد أن يخرج مع زيد بن عليٍّ في فتنة أخرى، فقال زبيد رحمه الله: ( ما أنا بخارج إلاَّ مع نبيٍّ، وما أنا بواجِده ) (6)، أي : لن أجد نبيًّا أخرج معه، هذه قالها عن معرفةٍ وتجربةٍ ومعاينةٍ للآثار الَّتي حُصدت من تلك الفتن.
___________
1. منهاج السنة (4/527-528 ).
2. (8/253-260).
3. منهاج السنة (4/316).
4. أخرجه خليفة بن خياط ف ((تاريخه)) (ص76).
5. تاريخ خليفة (ص76).
6. أخرجه يعقوب بن سفيان في ((تاريخه)) (3/107)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (19/473).