كَرَّةٌ من الحق على الباطل أما محمد خاتم النبيين، فيهدينا الله إلى حقيقته بقوله : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أَفَإِنْ مات، أو قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم ؟ ). في قوله سبحانه " خلت من قبله الرسل " حجة من الحق تزهق الباطل الصوفي كله. وأما اعتقاد المسلمين في نبيهم الحق، فهو أنه "بشر مثلنا يوحى إليه" فالقرآن – وهو كلام الله وهداه ورحمته – يفرض عليهم الإيمان بذلك، فلا مناص من الإخبات له بالقلب والفكر والشعور، ويزيدنا القرآن هدى؛ إذ يقرر أن بشرية الرسول الأعظم مثل بشريتنا، في أسلوب من القول مشرق الإعجاز في بلاغة البيان وفصاحته، في أسلوب يفرض على الفكر الإيمان بمعناه البيِّن دون أن يشتبه معناه الحق حتى على الأمي الجاهل، وذلك في قوله : ( قل: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إِلَيَّ أنما إلهكم إلهٌ واحد ) كلامٌ هو الحق والحكمة والهدى في أسلوب جَليٍّ جَليٍّ مُحكَم مُحكَم، لا يأذن حتى لخاطرة واهية من ظنٍّ أن تقتحم عليك قُدْسَ يقينك، أو أن تحوم خُفْيَةً حوله أو تفسد عليك شيئاً ما من فهمك لمعنى الآية. ومن تدبر " بشر مثلكم" لرأى أشعة الهدى الإلهي الأعظم تغمر حوله الوجود كله، وتهديك إلى الحق الذي يجب أن تؤمن به. ألا تراها تجعل بشريتنا هي المقياس الذي به نَقيس بشرية رسول الله الكريم، حتى لا يفتننا حب هذه البشرية الطهور، فنظنها خلقاً آخر، أو نوعاً من البشرية يغاير في حقيقته بشريتنا، فلا ندرك كنهها، ولا شيئاً من خصائصها؛ لأنها لم تتحقق إلا في فرد واحد ؟ لقد كان يكفي في الدلالة على المعنى أن يقال : "قل: أنا بشر" أو"أنتم بشر مثلي" ولكنه سبحانه – وهو الحكيم العليم الخبير – شاء أن يعرفنا بشرية محمد بما نعرفه نحن من خصائص هذه البشرية التي فطرنا عليها، وبما نبتليه من قِيَمِها ومُقوِّماتها، وبما نعالج من غرائزها وعواطفها ( 1 ) وبما نعلمه- عن الله – من حقيقة بدئها. وغاية منتهاها، وبما نتجاوب به مع رُوَّاد الوجود من حب أو كراهية. ولذا طَعِم ، وشرب، وتزوج، ونَجَل خير البنين. وذاق الشبع والجوع والمرض، ومست قلبه الأحزان، وذرفت عيناه الدموع، وجاشت نفسُه برحمة البكاء، وغير ذلك مما قضاه الله على البشرية من أقدار في هذه الحياة، ثم جاءه ملك الموت الذي وُكِّلَ بنا. غير أن بشريته آمنت حق الإيمان بما هداها الله إليه، وأنعم عليها به، فأدت حق الله كاملاً من الحق والشكر، وحلَّقت فوق قمة السمو الإنساني الأعظم، فكانت وحدها هي النجم الأرفع الأسمى، وتألقت بعبوديتها الخالصة فوق أعلى أفق للتوحيد الخالص، فما زلَّت بها عاطفة لإثم، ولا هفت بها غريزة إلى ذنب؛ لأنه اتخذ الله وحده رباً له، وجعل رضاه غايته والدعوة إليه هدف كفاحه وجهاده. والغاية العظمى لدنياه، والفلك الأعظم الذي تدور فيه حياته. ثم تدبر ما حكم الله به على المشركين الذين قالوا : ( ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) إنه جلَّ شأنه حكم عليهم بأنه ضلوا فلا يستطيعون سبيلاً! لتعلم أن هذا الذي استنكره المشركون ليس إلا قدر الله العدل الحكيم الذي قضاه على البشرية، وقسطاً من أقساطها في الوجود. وأنه لا يمس مقام النبوة بأثارة من ضِعَةٍ، إذ النبي – قبل كل شيء – بشر، والبشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق!. وتدبر ما وصف الله به رسله جميعاً ( وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ) ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق ) تدبر هذه الآيات؛ لترد بها فرية الوثنية التي تزعم أن محمد نجم الحياة الأبدية الخالدة في الدنيا، وأن فضلاته كانت مقدسة طاهرة وإشعاعاً من أضواء الربانية!. لماذا – إذن – كان يتوضأ ، ويتيمم، ويغتسل؟. وتدبر خطاب الله لنبيه ( إنك ميت، وإنهم ميتون ) ذُكِرَ موتنا عقب ذكر موته؛ لنهتدي إلى أن الموت الذي قُضِيَ علينا هو عين الموت الذي قُضِيَ على نبيه ! ورغم هذا – على ما فيه من وَضَحٍ وجلاء – وُجِدَ من يزعم أن موت محمد معناه الحياة السرمدية، وُجِدَ من يضع للفظ نقيض معناه، أو يضع للفظ إسفاف الشهوة من هواه!. يقول الصوفية: "إنه يحضر كل مجلس، أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف، ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته، لم يتبدل منه شيء " ( 2 ) . وتدبر تلك الآيات التي يعاتب الله فيها سبحانه نبيه : ( وإن كادوا ليفتِنُونَكَ عن الذي أوحينا إليك؛ لتفتري علينا غيره، وإذاً لاتخذُوك خليلا، ولولا أن ثبَّتناكَ، لقد كِدْتَ تركن إليهم شيئاً قليلاً، إذا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وضِعْفَ الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيراً ). وَعِيدٌ جليل الكبرياء، أَحَدِيُّ القهر والجبروت، أفتدرك منه وعيدَ ربٍّ لمثله، أو لنفسه، أم وعيدُ قادر قهار متعال له ملكوت السموات والأرض لأشرف عباده، وخاتم رسله ؟! أفلو كان محمد رباً يشرك الله في ربوبيته وإلهيته – كزعم الصوفية – أكان يبتليه الله بمثل ذلك الوعيد الذي يغمر النفس خشيةً ورهبة، ويقهر عبوديتها قهر الرضى والحب على أن تُخبِتَ لله وحده، وعلى ألا تتعدى حدوده قَيْدَ لحظة، أو خاطرة !؟. وهل أشد على نفس المؤمن من أن يتوعده الله بفقدان النصير، وبعذاب يتجرعه ضعف الحياة، وضعف الممات ؟! أفي قضايا العقل – ودينكم يؤمن بربوبية محمد – أن يتوعَّد الربُّ نفسه، وينذرها بعذاب الحياة والموت تصلاه ضعفين، وبالوحدة الصَّمَّاء تقتل في النفس الشعور بالحياة ؟! ****************** ( 1 ) غرائز البشرية الصالحة وعواطفها نفس غرائز البشرية الطالحة وعواطفها في الفطرة والفرق أن صاحب الأولى وجهها وجهة الخير، ووجهها الآخر وجهة الشر ( 2 ) ص 219 جـ 1كتاب رماح حزب الرحيم لعمر بن سعيد الفوني ط 1345
بهجة قلوب الأبرار