آراء المستشرقين ( 1 )
ومما يلوع النفس بالحسرة، والقلب بالأسى أن يدرك المستشرقون
– على عداوتهم للإسلام – هذا الحق،
ويظل الصوفية – ومنهم أحبار كبار يختالون أنهم أئمة الإسلام –
مصرين في جحود أصم على عداوة ذلك الحق.
يقول نيـكـلسون :
"إذا بحثنا في شخصية محمد،
في ضوء ما ورد عنه في القرآن من آيات،
وما أُثر عنه من الحديث في الصدر الأول،
وجدنا الفرق شاسعًا بين الصورة التي صُوِّر بها في ذلك العهد،
وبين الصورة التي صَوَّر بها الصوفية أولياءهم،
أو تلك الصورة صور بها الشيعة إمامهم المعصوم.
وظهر من المقارنة أن صورة شخصية الرسول
لا تـَفْضُل عند الموازنة صورة الولي الصوفي،
أو صورة الإمام الشيعي،
إن لم تكن دونهما،
ذلك أن الولي الصوفي والإمام المعصوم،
قد وُصفا بجميع الصفات الإلهية،
بينما وصف الرسول القرآن بأنه بشر
فيه كل ما للبشر من صفات،
وأنه ينزل عليه الوحي من ربه بين آنٍ وآخر،
ولكنه لا يتلقاه مباشرة عن الله،
بل بواسطة الملَك،
وأنه لم ير الله قط،
أو يطلع على أسراره،
وأنه لا يتنبأ بالغيب،
ولا يفعل المعجزات، أو خوارق العادات،
بل هو عبد من عباد الله ورسول من رسله " ( 2 )
ثم يتحدث الرجل عن محمد عند الصوفية،
فيقول :
" فمحمد إذن ليس المصدر
الذي يستمد منه جميع الأنبياء والأولياء علمهم بالله،
فحسب،
بل هو الحقيقة الإلهية السارية في الوجود بأسره،
كما أنه العلة الأولى في خلق كل ما هو مخلوق،
والعقل الكلي الذي يصل ما بين الوجود المطلق "الله"
وبين عالم الطبيعة،
وليس العالم إلا صورة الحقيقة المحمدية،
كما أن الحقيقة المحمدية ليست إلا صورة الله" ( 3 )
ويقول جولدزيهر:
"إن صورة النبي كما صورتها السنة،
قد أصابها التعديل والتحوير،
لكي تتلاءم مع تقديس الأولياء،
حتى نجم عن ذلك أن العقائد الشعبية،
وضعت صورة للنبي تتعارض تماماً مع البيانات البشرية
التي صَوَّر بها القرآنُ والسنة مؤسسَ الإسلام الأول " ( 4 )
ويقول هنيرش بكر :
"من الثابت أن الغنوص ( * ) قد أثَّر في إيجاد هذه الصورة
التي صورتها العصور الوسطى الإسلامية المتأخرة لمحمد،
وكان سببًا في إيجاد ما يشبه عبادة محمد،
وهذه العبادة، وتلك الصورة
مخالفتان لما كان عليه الإسلام الأول كل المخالفة،
أما أولياء الله في الإسلام،
ففي مقابل الأرواح القدسية في الهيلينة
"هم الكائنات الروحية الوسيطة
بين الذات الإلهية وبين المادة عند الغنوصية"
حتى أن محمداً – وهو نموذجهم الأعلى –
ينتهي بأن يصبح هو العقل الموجود منذ الأزل،
وأن يكون الرحيم المُخَلِّص القدير،
وعن طريق هذا المذهب، انقلبت فكرة الوحي
التي كانت موجودة في الإسلام الأول إلى ضدها " ( 5 )
ويقول فيليب حتى :
"والعقيدة الثانية في باب الإيمان
هي أن محمداً رسول الله، وخاتم النبيين،
وفي علم الإلهيات القرآني
ليس محمد إلا بشراً
لم يُتم الله على يده من العجائب غير إعجاز القرآن،
إلا أن التقاليد والأساطير التي اصطنعتها العامة، من بعد،
نسجت حول هامة الرسول هالة من النور الإلهي " ( 6 )
وهكذا يدرك يهود ومسيحيون حقائق من الإسلام
يتعامى عنها أحبار الصوفية،
لقد تجرد أولئك المستشرقون قليلاً من التجرد،
ولكنهم فهموا كثيراً من الفهم الصائب،
فوصفوا الحق ببعض صفاته،
ولولا أنك على بينة من عقائدهم الأسطورية الباطلة،
لظننتهم في قولهم هذا مسلمين
يتهجدون في المحاريب في نور من القرآن!.
أوَ يرضيك أن يصدع بذلك الحق،
قوم لم تلن قلوبهم لدين الحق،
وأن يسجد الصوفية للباطل،
يعبدون خرافاته،
ويمجدون أساطيره،
ويزعمون أنهم أئمة الدين وأعلامه!.
لقد تزعمتَ يا سماحة الشيخ
هذه الجماعة التي دَوَّخها الباطل،
فَهَلَّا ذَكَّرتهم بهدي الله،
وجاهدتهم؛ لتحملهم عليه،
فيؤمنوا به، وتخبت له قلوبهم ؟!
******************
( 1 ) لا أذكر رأي هؤلاء احتجاجاً به،
وإنما هو لبيان أن هذا الحق، قد أدركه هؤلاء المستشرقون على عدواتهم، فقرروه.
على حين يعاديه الصوفية ويكفرون به
( 2 ) ص 158 في التصوف الإسلامي ترجمة الدكتور عفيفي
( 3 ) ص 160 المصدر السابق
( 4 ) ص 234 العقيدة والشريعة لجولد زيهر
( 5 ) ص 12 التراث اليوناني ترجمة الدكتور بدوي
( 6 ) ص 177 جـ 1 تاريخ العرب العام لفيليب حتى
==============
( * ) الغنوصية هي ، في الأساس ، مذهب تأليفي أو توفيقي يُراد به تذويب جميع التيارات الفلسفية والدينية لمزجها فيه ، سواء كانت وثنية أو مسيحية .
وهذا المذهب ، الذي يسعى الى إنقاذ الإنسان وخلاصه بواسطة المعرفة ،
محصورة بقلة من البشر يُدعون "الماريّن" أو "المدرّبين" ،
أو "المطلعين"من دون سواهم على أسرار هذه المعرفة
وهو يشبه ، الى حدّ بعيد ، "ديانات الأسرار الخفيّة " التي نجدها عند اليونانيين والشرقيين.
البدع والهرطقات في القرون الأولى للمسيحية
الجزء الخامس / الكاتب نافع البرواري
هذه الحاشية نقلها أبو فراس السليماني