* * *
ثالثًا: الإخلال بالأمن
أ- استساغة الجريمة واعتيادها:
دَرَجَت معظم القنوات الفضائية على عرض أفلام الجريمة، المسماة بالأفلام «البوليسية» وتكرار هذه المناظر للجريمة على أنظار الناس بمختلف طبقاتهم وأعمارهم يجعل الجريمة في أنفسهم أمرًا اعتياديًا، حتى يصبح المجتمع ويمسي وروح الجريمة يدب فيه وتكون بماثبة الأحداث اليومية من حياة الناس.
ب- تمكين المنحرفين من ارتكاب الجريمة المنظمة:
والمراد ها هنا أن الجرائم منها ما يكون عرضًا من غير احترافٍ لها، وإنما تحت تأثير وقتي ولغرض محدد، فهذا نوع.
وثَمَّة نوع ثانٍ وهو الأخطر وهو: الجريمة المنظمة، بحيث تصير الجريمة حرفة أو مهنة يمتهنها الشخص، فيرتب لها وينظم خطواتها، بحيث يحكم تنفيذها لينال بغيته ويَنْفَذ بجلده من القبض عليه.
* فمما تبثه تلك الشاشات فيما يسمَّى الأفلام «البوليسية» عرض كيفيات الخطف، خطف النساء... خطف الأطفال.. وخطف عموم الأشخاص.
* ومن ذلك: السرقة وكيفية التخطيط لها، وكيفية الوصول للأماكن المستهدفة، والأدوات المستخدمة.
* ومن ذلك: إعداد السموم والمواد المكونة لها، وكيفية دسِّها على الشخص المستهدف.
* ومن ذلك: توضيح إعداد المتفجرات وإعدادها من المواد الأولية القريبة من الأشخاص في حياتهم اليومية، وكيفية وضعها ونشرها للغرض المستهدف.
* من ذلك: توضيح الخطوات المتبعة لإخفاء معالم الجريمة والتخلص من أدواتها وإتلاف كل ما يدل عليها أو على الجُناة.
* ومن ذلك: عرض كيفية التهرب والوسائل المتبعة للتعمية على التفتيش.
* ومن ذلك: التشجيع على تعاطي المخدرات وإظهار المتعاطين بمظهر البطولة والقوة والذكاء، وتوضيح وسائل وطرق تعاطيها.
وكل تلك المشاهد لها متابعوها من مختلف الشرائح والأعمال ليصيروا فيما بعد عصابات مدربة تدريبًا عاليًا من خلال المشاهد التي حفظوا خطواتها، فسعوا إلى تطبيقها في ممارساتهم.
دعاوى مرفوضة
بقي أن نشير ها هنا إلى أن عددًا من الناس اعتذروا لأنفسهم في جلب الأطباق الفضائية وأجهزة المتابعة للقنوات الفضائية العالمية – اعتذروا – ببعض الأعذار التي لا تسلم لهم.
* فمن قائل: إنه يتابع أخبار العالم ونشرات الأخبار والاكتشافات العلمية وما دار في فلك ذلك.
وهؤلاء: لم يكلفهم الله هذا العَنَت، ولن يسألهم يوم القيامة عن تركهم متابعة الأخبار، ولكن سيسألهم عما سمعوا وما رأوا وما أنفقوا فيه أموالهم.
وإنك لواجدٌ أن الواحد من أولئك لم يتحمس ولم يَسْعَ لتعلم ما خفي عليه من لوازم دينه في العقيدة والعبادة كتحمسه وحرصه على متابعة ما تنفثه الفضائيات من السوء والفحشاء.
* ومن قائل: إنه يجد في متابعته لبرامج القنوات الفضائية متعة وترويحًا عن النفس وانفتاحًا على العالم يبعده وأهل بيته عن الكبت والانغلاق.
وتالله إن هؤلاء قد وضعوا أقدامهم على طريق الكبت الحقيقي الذي لا يفيقون منه إلا إلى أعظم منه، يوم يوافون ربهم بذلك العمل الذي يسوِّد صحائفهم ووجوههم. {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}([1]).
وإن في حال الغرب الذين أطلقوا لأنفسهم العنان فركبوا كل ما اشتهته أنفسهم من الشهوات المحرمة، لهم فيهم أعظم معتبر.
فإن ذلك لم يزدهم إلا حسرة وضيقًا ونكدًا، فكثر اكتآبهم وتتابعت عندهم الأزمات النفسية، وزادت نسب الانتحار.
* ومهما اعتذر معتذر فإنه ما دام مخالفًا لشريعة الله متبعًا لشهوات نفسه، فإنما يختار حتف نفسه، ويسلك سبيل شقائه.
أَلاَ فليتق الله، وليرجع إلى ربه ما دام في الزمن مهلة، وما بقي في الأجل فُسحة.
* * *
كيف المخرَج وما البديل
لدى إدراك الأخطار الناجمة عن بث القنوات الفضائية وعموم شبكات التلفزة، يرد على الذهن مباشرة: كيف المَخْرَج ما البديل؟ خاصة وأن متابعة ما يُعرض عبر الشاشات بات أمرًا لصيقًا بالحياة اليومية لجميع الناس على اختلاف أعمارهم وأجناسهم وثقافاتهم.
أقول: لا شك أن معالجة مثل هذا الأمر ليست سهلة ميسورة، فلو أن الشخص رعى الأمور في بيته وتابع من تحت يده فلن يسلم من آثار الخلطة بمن له بهم صلة من جيرة أو رحم أو غير ذلك.
لكن ثَمَّة أمور مُسَلَّمَة أجملها فيما يلي:
أولاً: أن جلب أجهزة متابعة القنوات الفضائية المختلفة وشراءها وإحضارها للمسكن خطأ فادح لِمَا يترتب عليه من الأضرار الحاضرة والمستقبلية، ولذا أفتى أهل العلم بتحريم اقتناء تلك الأجهزة، كما أفتى بذلك سماحة شيخنا الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله وأفتى بذلك أيضًا صاحب الفضيلة الشيخ العلاَّمة محمد بن صالح بن عثيمين.
وقد يتعلل بعض الناس بعلل لا تسلم لهم كقولهم: إنهم يحضرون تلك الأجهزة حتى لا يذهب أولادهم لبيوت الآخرين.
أو قولهم: إنهم يحددون القنوات التي يمكن متابعتها ويحذفون ما لا يناسب.. أو غير ذلك من الأعذار.
ومهما يكن، فليتصور الواحد من أولئك لو هجم عليه الموت بين لحظة أو أخرى أيسره أن يكون ضمن ما يورثه لمن بعده جهاز فيه حرب الله ورسوله والمحادة لدينه.
ثانيًا: أن التربية والتأصيل الشرعي تزداد أهميتها في مثل هذه الأحوال، فلابد من الحرص على تنمية المدارك الشرعية وتقوية الإيمان، والخوف من الله ومراقبته في قلوب الناشئة، مع الحرص على تعظيم الشريعة في نفوسهم، وملاحظة جلسائهم وحسن اختيارهم.
لا كما يقول بعض الناس: دع الشاب يطرق كل الأبواب حسنها وقبيحها ثم يختار هو ما شاء عن قناعة ودراية!!
ثالثًا: يوجد من البدائل الثقافية والترفيهية اليوم ما لا حصر له، وذلك عبر برامج «الكمبيوتر» النافعة والمفيدة ما يمكن أن يملأ به فراغ الناشئة من غير إضرار بهم، بل بما ينفعهم ويوسع مداركهم العلمية، وتلك البرامج تتناسب مع جميع أفراد الأسرة ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا.
هذه بعض المسلمات، أو لنقل المقترحات، وكل شخص يدرك ما يتناسب مع ميوله، وما به سلامته، وبُعده عن المزالق.
ولعلَّ للمتخصصين في هذه المجالات مزيد عناية بما يناسب حل هذه المعضلة وإيجاد البدائل النافعة.
* * *
خاتمـة
وبعد أيها القارئ الكريم:
فحقيقٌ بكل مكلَّف أن يبادر بأخذ الأسباب؛ لينجو بنفسه، فإن النُّقلة عن هذه الحياة الدنيا وشيكة، وذلك أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا، والله جل وعلا قد عزَّانا جميعًا في أنفسنا فقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}([2])، وقد حذر جل وعلا من الغفلة والتمادي في المنكرات، وأن عذابه وعقوبته قد تحل بمن عصاه بين لحظة وأخرى، كما قال سبحانه: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}([3]) وقال سبحانه: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}([4])، وقال سبحانه: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}([5]).
وصح عن المعصوم r أنه قال: «إنما الأعمال بالخواتيم» رواه البخاري ([6])، وقد تقرر أن دسائس السوء والإقامة على المعاصي والإصرار عليها توجب الخاتمة والعياذ بالله.
نسأل الله حسن الختام، والأمن يوم الفزع الأكبر، والسعادة يوم العرض عليه جلَّ وعلا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
* * *
منقول للفائدة