في صباح كل أربعاء أتوجه لمعهدي الذي أدرِّس فيه، مادتي البلاغة وعلوم القرآن، وكالعادة أقصد أولا مجلس المعلمات فأضع عباءتي وأتصفح ما معي ريثما يحين موعد الدرس، في أحد الأيام دخل ابنُ المديرة، عمره –حينها- لا يزيد عن أربع سنوات ونصف تقريبا، وهو طفل يتكلم غالبا بالفصحى، هكذا عودته أمه، وهو يعرفني وأعرفه، لكن لم تأتِ فرصة لنتبادل الحوار كهذا اليوم المميز؛ فقد كان الجوُّ جميلا والهواءُ باردا والشمسُ ضاحيةً بلا حرارة، ويبدو أن هذه الجواء الخلابة ألقت بظلالها على الطفل.
جاء الطفل وكبَّ نفسه على المقعد الذي بجانبي، ورأى معي مشروبي المفضل (حليب الشكولاتة) وبدأ هذا الحوار الطفوليّ الفصيح:
- نعم، كثيرا كثيرا. وأنت ؟ أتحبه؟
فقطب جبينه الناعم وقال وعيناه تنضحان براءة:
- أمي لا تشتري لي وأبي لا يشتري لي وإخوتي لا يشترون لي !.
ناولته من مشروبي فشرب ثم قام من مجلسه وقال:
- الشمس (الثمث) اليوم جميلة والهواء بارد.
- نعم هي كذلك. والجو جميل كجمالكَ.
- هل تستطيع أن تضع عينك في الشمس؟
وهنا دخلت إحدى الإداريات وقالت مداعبة له:
- قال وقد صوب نحوها نظرات الغضب الطفولية: أنا لست مدللا! أمي تقول: لا تكن مدللا.
ثم أخذ يتنقل في الحجرة يمينا ويسارا، ثم اقترب مني مرة أخرى وجلس بجواري على نفس المقعد وقال:
- قربي أذنك؛ أريد أن أقول لكِ سرا.
- تفضل، وقربت أذني من فمه، فهمس بأحرف عِذاب قائلا:
يا لله ! غزتني مشاعر جعلت الجوَّ البارد دافئا، والشمسَ بدرا، نظرت في عينيه وقلت له: وأنا أيضا أحبك. فقام يكمل لعبه هنا وهناك.
حقيقة لم أشعر بعجز عن الكلام كما شعرت حينها، والآن أيضا وأنا أكتب الموقف أشعر بعجز لوصف تلك المشاعر. فالطفل يبوح بما في قلبه من مشاعر حب أو غضب كيفما اتفق.
وبدأ موعد الدرس فقطع عني تلك المشاعر، فأخذت كتاب البلاغة وازدلفت للفصل، وبعد السلام جلست على مكتبي وبدأت استفتاح الدرس، وفجأة طُرِق البابُ فإذ بالطفل يدخل متوجها نحوي فقبض يدي وقال:
فدنوت منه وفي سرعة خاطفة لم يعطني فرصة لأسأله ماذا ستقول؟ إذ به يطبع قبلة على خدي !.
وقال هامسا: أريد أن أبقى معك.
هنا فقط تحوّلت كل خلية فيني إلى طفل صغير، تصوبت أعين الطالبات نحوي وسرت رعشة من خجل في كياني، فقمت من مكاني وأخذت يده وقلت:
-سأجلس معك لاحقا؛ لأن لدي درس مهم ولابد أن أقوم بواجبي.
فقبّلته ومسحتُ على رأسه وخرج راضيا مبتسما من الفصل.
تمنيت أن أحوّل الحصة إلى حصة لعب معه فقط، لأتلذذ بطهر الطفولة وبراءة الروح، وعذوبة المنطق.
بقيت هذه المشاعر تعاركني حتى وصلت البيت، حاولت إخراجها شعرا فلم أُجِدْ، حاولتها نثرا فلم أُطِقْ، حاولت العبث بالكلمات يمنة أو يسرة فـــــ:
يتيه بالفصحى كأنه طير على ورد يسير
أسرت فؤادي حينما بُحت لي بالسر الخطير:
وأنا أحبكَ، فالحبّ لديك شيء يسير
وتخطو إلى الفصل لتهديني قبلة !
أخجلتني يا ذا الطفل الصغير
لا أجد نفسي عاجزة عن الكلام إلا أمام الصغار، تضيع حينها لغتي، ويأسرني العيُّ، أكتفي فقط بأن أدوّن هذه المشاعر ليشاركني غيري فيها.
لن أستنبط من القصة فوائد تربوية ونحوها؛ إنما كتبتها لأصيد مشاعر القلب في صفحات الذكرى.
القصة القادمة: الطفلة التي قابلتني بالأحضان.