وهذا ثابت في سائر الأمور فان الطبيب مثلا يحتاج الى تقوية القوة ودفع المرض والفساد أداة تزيدهما معا فانه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافا للمرض وعند ضعف القوة فعله لان منفعة ابقاء القوة والمرض إولى من اذهابها جميعا فان ذهاب القوة مستلزمة للهلاك ولهذا استقر فى عقول الناس انه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمه وإن كان يتقوى بما ينتبه أقوام على ظلمهم لكن عدمه اشد ضررا عليهم ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان كما قال بعض العقلاء ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحد بلا سلطان
ثم السطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق مع التمكن لكن اقول هنا اذا كان المتولي للسلطان العام او بعض فروعة كالامارة والولاية والقضاء ونحو ذلك اذا كان لا يمكنه اداء واجباته وترك محرماته ولكن يتعمد ذلك مالا يفعله غيره قصدا وقدرة جازت له الولاية وربما وجبت وذلك لان الولاية اذا كانت من الواجبات التى يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو وقسم الفىء واقامة الحدود وامن السبيل كان فعلها واجبا فاذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق واخذ بعضى مالا يحل واعطاء بعض من لا ينبغي ولا يمكنه ترك ذلك صار هذا من باب مالا يتم الواجب او المستحب الا به فيكون واجبا اومستحبااذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب او المستحب بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم ومن تولاها اقام الظلم حتى تولاها شخص قصدة بذلك تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره كان ذلك حسنا مع هذه النية وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو اشد منها جيدا
وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد فمن طلب منه ظالم قادر والزمه مالا فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم واخذ منه واعطى الظالم مع اختياره ان لا يظلم ودفعه ذلك لو امكن كان محسنا ولو توسط اعانه للظالم كان مسيئا وانما الغالب فى هذه الاشياء فساد النية والعمل اما النية فبقصده السلطان والمال وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات لا لاجل التعارض ولا لقصد الانفع والاصلح
ثم الولايه وان كانت جائزة او مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها اوجب او احب فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحابا أخرى
ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر بل ومسألته أن يجعله على خزائن الارض وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالى (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم فى شك مما جاءكم) به الآية وقال تعالى عنه( يا صاحبى السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) الآية ومعلوم أنه مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسنة فى قبض الاموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكون يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فان القوم لم يستجيبوا له لكن فعل الممكن من العدل والاحسان ونال بالسلطان من اكرام المؤمنين من أهل بيته مالم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك وهذا كله داحل فى قوله ( فاتقوا الله ما استطعتم )
فاذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر فى هذه الحال واجبا ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب فى الحقيقة
وكذلك اذا اجمتع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما الا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما فى الحقيقة وان سمى ذلك ترك واجب وسمى هذا فعل محرم باعتبار الاطلاق لم يضر ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو لضرورة أو لدفع ما هو أحرم وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها إنه صلاها فى غير الوقت المطلق قضاء
هذا وقد قال النبى (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها فان ذلك وقتها لاكفارة لها الا ذلك )
لا زال كلامه