5) فصل [في أنَّ اللَّه هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه]
قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }
بيَّن سبحانه في هذه الآية أنَّ فقرَ العباد إليه أمرٌ ذاتيٌّ لهم لا ينفك عنهم، كما أنَّ كونَه غنيًّا حميدًا أمرٌ ذاتيٌّ له.
فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمرٍ أوجبه، وفقرُ من سواه إليه أمرٌ ثابت لذاته لا لأمرٍ أوجبه.
فلا يعلَّل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان، بل هو ذاتي للفقير، فحاجة العبد إلى ربه لذاته، لا لعلَّة أوجبت تلك الحاجة؛
كما أنَّ غنى الرب عزَّ وجلَّ لذاته، لا لأمرٍ أوجبَ غناه.
6) والمقصود أنَّه سبحانه أخبرَ عن حقيقة العباد وذواتهم بأنَّها فقيرة إليه عزَّ وجلّ، كما أخبر عن ذاته المقدَّسة وحقيقتِه أنَّه غنيٌّ حميد.
فالفقرُ المطلقُ من كلِّ وجهٍ ثابتٌ لذواتهم وحقائقهم من حيث هي،
والغنى المطلق من كل وجهٍ ثابتٌ لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي.
فيستحيل أن يكون العبدُ إلا فقيرًا، ويستحيل أن يكون الربُّ تعالى إلا غنيًّا، كما أنَّهُ يستحيل أن يكون العبدُ إلا عبدًا والربُّ إلا ربًّا.
7) الفقرُ فقران:
فقرُ اضطرارٍ وهو فقرٌ عامٌّ لا خروج لِبَرٍّ ولا فاجر عنه.
وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ومصنوعًا.
والفقر الثاني فقرٌ اختياريٌ هو نتيجة علمين شريفين:
أحدهما معرفة العبد بربه، والثاني معرفته بنفسه؛
فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجا له فقرًا هو عينُ غناه وعنوانُ فلاحه وسعادته.
8)وتفاوتُ النَّاسِ في هذا الفقرِ بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين
فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق،
ومن عرف ربه بالقدرة التامَّة عرف نفسه بالعجز التام،
ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة،
ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل.
ص 12-13