هذا جواب الشيخ عبد الرحمن السحيم حفظه الله عندما سئل عن هذه القصة حيث قال : الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ووفّقَك الله لِمَا يُحِِب ويرضى . هذا مِن فِقْه المجانين ! وقريب مِنه فِقه الصوفية ! وقول الصوفية : ما عبدت الله شوقا إِلى الجنة ، ولا خوفا من النار ، وإنما أعبده حُبًّا له ؛ قَوْل باطل . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ مُجَالَسَةَ أَقْوَامٍ يُكْثِرُونَ الْكَلامَ فِي الْمَحَبَّةِ بِلا خَشْيَةٍ ؛ وَقَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حروري ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ . وَلِهَذَا وُجِدَ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ مَنْ انْبَسَطَ فِي دَعْوَى الْمَحَبَّةِ حَتَّى أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الرُّعُونَةِ وَالدَّعْوَى الَّتِي تُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ ، وَتُدْخِلُ الْعَبْدَ فِي نَوْعٍ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لا تَصْلُحُ إلاَّ لِلَّهِ . وَيَدَّعِي أَحَدُهُمْ دَعَاوَى تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ، أَوْ يَطْلُبُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَصْلُحُ - بِكُلِّ وَجْهٍ - إلاّ لِلَّهِ ، لا يَصْلُحُ لِلأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ . وَهَذَا بَابٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ . وَسَبَبُهُ ضَعْفُ تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا الرُّسُلُ ، وَحَرَّرَهَا الأَمْرُ وَالنَّهْيُ الَّذِي جَاءُوا بِهِ ، بَلْ ضَعْفُ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُ الْعَبْدُ حَقِيقَتَهُ ! وَإِذَا ضَعُفَ الْعَقْلُ وَقَلَّ الْعِلْمُ بِالدِّينِ وَفِي النَّفْسِ مَحَبَّةٌ انْبَسَطَتْ النَّفْسُ بِحُمْقِهَا فِي ذَلِكَ ، كَمَا يَنْبَسِطُ الإِنْسَانُ فِي مَحَبَّةِ الإِنْسَانِ مَعَ حُمْقِهِ وَجَهْلِهِ وَيَقُولُ : أَنَا مُحِبٌّ فَلا أُؤَاخَذُ بِمَا أَفْعَلُهُ مِنْ أَنْوَاعٍ يَكُونُ فِيهَا عُدْوَانٌ وَجَهْلٌ ؛ فَهَذَا عَيْنُ الضَّلالِ ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى : (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) ، فَإِنَّ تَعْذِيبَهُ لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مَحْبُوبِينَ وَلا مَنْسُوبِينَ إلَيْهِ بِنِسْبَةِ الْبُنُوَّةِ ، بَلْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مربوبون مَخْلُوقُونَ . فَمَنْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ مَحْبُوبُهُ ، لا يَفْعَلُ مَا يُبْغِضُهُ الْحَقُّ وَيَسْخَطُهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ، وَمَنْ فَعَلَ الْكَبَائِرَ وَأَصَرَّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ مِنْهُ ذَلِكَ ؛ كَمَا يُحِبُّ مِنْهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْخَيْرِ ؛ إذْ حُبُّهُ لِلْعَبْدِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لا تَضُرُّهُ لِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّهُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَنَاوُلَ السُّمِّ لا يَضُرُّهُ مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ تَدَاوِيهِ مِنْهُ بِصِحَّةِ مِزَاجِهِ . اهـ . ودعوى عدم الخوف مِن النار دعوى كاذبة ، بل هي خِلاف ما جاء به الرُّسُل عليهم الصلاة والسلام ، فإنه أنذروا أقوامهم النار ، وخوّفوهم العذاب الأليم ، ورغّبوهم بِما عند الله مِن النعيم المقيم . بل إن أفضلهم وخاتمهم محمد أنذر قومه النار . ودعا رسول الله قومه ورهطه .. فصاح بهم يوما على الصفا وهو بمكة ، فجعل يُنادي : يا بني فهر .. يا بني عَدي - لبطون قريش - حتى اجتمعوا ، فجعل الرَّجُل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، فقال رسول الله : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تُريد أن تغير عليكم ، أكنتم مُصَدِّقي ؟ قالوا : نعم ، ما جَرّبنا عليك إلاّ صِدْقا . قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب : تَبًّا لك سائر اليوم . ألهذا جمعتنا ؟ فَنَزَلت : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) . رواه البخاري ومسلم . وقال النعمان بن بشير ا : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب ، فقال : أنذرتكم النار ، أنذرتكم النار ، أنذرتكم النار ، فما زال يقولها حتى لو كان في مَقامي هذا لَسَمَعِه أهل السّوق ، وحتى سَقَطَت خَميصة كانت عليه عند رِجليه . رواه الإمام أحمد والدارمي ، وصححه الألباني ، وقال الأرنؤوط عن إسناد أحمد : إسناده حَسن . وخوّف أمته مِن النار ، رِجالا ونساء ، فقال عليه الصلاة والسلام للنساء : يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار . رواه البخاري ومسلم . وقال عليه الصلاة والسلام : ما رأيت مثل النار نام هارِبها ، ولا مثل الجنة نام طالبها . رواه الترمذي ، وحسّنه الألباني . والقرآن حافِل بالتخويف مِن النار ، وذِكر ما فيها مِن العذاب . وكذلك سُنة النبي وآثار السلف . وما ذلك إلاّ ليكون العبد على وَجَل مِن النار ، فيعمل ما يُباعِده عن النار ويُقرّبه إلى الجنة . وعلى هذا كانت تدور أسئلة الصحابة ، فيسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يُقرّبهم من الجنة ويُباعدهم من النار ، كما في حديث معاذ أنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم في سَفر ، فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير ، فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يُدخلني الجنة ويُباعدني مِن النار ، قال : لقد سألتني عن عظيم ، وإنه ليسير على مَن يَسّره الله عليه ؛ تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتُقيم الصلاة ، وتُؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتَحُجّ البيت ، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جُنّة ، والصدقة تُطْفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار ، وصلاة الرَّجُل مِن جوف الليل ، قال : ثم تلا : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حتى بلغ (يَعْمَلُونَ) ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر كُله وعَموده وذروته وسنامه ؟ قلت : بلى يا نبي الله ، فأخَذ بِلِسانه ، قال : كُفّ عليك هذا . فقلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون مما نَتَكَلّم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلاّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ . رواه الإمام أحمد والترمذي ، وصححه الألباني والأرنؤوط . وحدّث أبو أيوب أن أعرابيا عَرَض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سَفَر ، فأخذ بِخطام ناقته أو بِزمامها ، ثم قال : يا رسول الله ، أو يا محمد ، أخبرني بما يقربني من الجنة ، وما يباعدني من النار . قال : فَكَفّ النبي ، ثم نظر في أصحابه ، ثم قال : لقد وُفّق ، أو لقد هُدي . قال : كيف قلت ؟ قال : فأعاد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتَصِل الرحم . رواه البخاري ومسلم . وعن أبي هريرة أن أعرابيا أتى النبي ، فقال : دلّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة . قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان . قال : والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا . فلما ولّى قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة ، فلينظر إلى هذا . رواه البخاري ومسلم . وذِكْر النار أقَضّ مضاجع الصالحين . قرأ قد عمر بن عبد العزيز ليلة في صلاته سورة الليل ، فلما بلغ قوله : (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) بَكى فلم يستطع أن يُجاوزها ، ثم عاد فَتَلا السورة حتى بلغ الآية فلم يستطع أن يجاوزها مرتين أو ثلاثا ، ثم قرأ سورة أخرى غيرها . ولمزيد مِن الآثار يُراجَع كتاب " التخويف من النار " لابن رجب رحمه الله . والمسلم يحيا بين الخوف والرجاء والحب . قال ابن القيم : القلب في سَيْرِه إلى الله عز وجل بِمَنْزِلة الطائر ؛ فالْمَحَبّة رأسه ، والخوف والرجاء جَنَاحَاه ، فمتى سَلِم الرأس والجناحان فالطير جَيّد الطيران ، ومتى قُطِع الرأس مات الطائر ، ومتى فَقد الجناحان فهو عُرْضة لكل صائد وكاسِر ، ولكن السلف اسْتَحَبّوا أن يَقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء ، وعند الخروج من الدنيا يَقوى جناح الرجاء على جناح الخوف . اهـ . وأوصى أبو بكر عمر فكان مما قال : ألم تر أن الله عز وجل أنزل آية الشدّة عند آية الرخاء ، وآية الرخاء عند آية الشدة ؟ ليكون المؤمن رَاغِبا رَاهِبا ، ولئلا يُلْقِي بِيدِه إلى التهلكة ، ولا يتمنى على الله أُمْنِية يتمنى على الله فيها غير الحق . رواه الربعي في "وصايا العلماء عند حضور الموت " . ويظهر أن هذه الخرافة المذكورة مِن حوار المجنون مأخوذة مِن كُتب الرافضة ، فإنه هم الذين إذا ذَكروا أئمة آل البيت قالوا عنهم ( ع ) اختصار لـ ( ) . وِمن باطل تلك الحكاية قولهم عن المجنون : ( فموسى ذهب لإحضار جذوة من النار ليتدفأ بها فرجع بالنبوة .. وأنا ذهبت لأرى جمال ربي فرجعت مجنونا ) فهذا كلام مجانين الرافضة ، وليسوا مجانين أهل السنة ! والله تعالى أعلم . المجيب الشيخ/ عبدالرحمن السحيم عضو مكتب الدعوة والإرشاد