2 ـ وداعه ووصيته لأمته في عرفات:
قال جابر
:
حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له
فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال:
”إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم
كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا،
ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع([1])
ودماء الجاهلية موضوعة،
وإن أول دمٍ أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث
كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل،
وربا الجاهلية موضوع،
وأول رباً أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب
فإنه موضوع كله([2])
فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله،
واستحللتم فروجهن بكلمة الله([3])
ولكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم([4]) أحداً تكرهونه
فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرِّح([5])
ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف،
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله([6]),
وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون“؟
قالوا:
نشهد أنك قد بلغت، وأديت, ونصحت.
فقال بإصبعه السبَّابة
يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس:
”اللهم اشهد، اللهم اشهد“
ثلاث مرات([7]).
وقد كان في الموقف جمٌّ غفير لا يُحصي عددها إلا الله تعالى([8]).
وأُنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم
في يوم عرفة يوم الجمعة قوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}([9])
وهذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة
حيث أكمل تعالى لهم دينهم
فلا يحتاجون إلى دين غيره,
ولا إلى نبي غير نبيهم صلّى الله عليه وسلّم؛
ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء,
وبعثه إلى الجن والإنس
فلا حلال إلا ما أحلَّه،
ولا حرام إلا ما حرَّمه،
ولا دين إلا ما شرعه,
وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق,
لا كذب فيه ولا خلف,
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}([10])
أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي,
فلما أكمل الله لهم الدين تمت عليهم النعمة([11]).
وقد ذُكر أن عمر بكى عندما نزلت هذه الآية في يوم عرفة,
فقيل له: ما يبكيك؟
قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا,
فأما إذا أُكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص([12]),
وكأنه
توقع موت النبي صلّى الله عليه وسلّم قريباً.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
([1]) والمعنى أنه أبطل كل شيء من أمور الجاهلية وصار كالشيء الموضوع تحت القدمين فلا يعمل به في الإسلام، فجعله كالشيء الموضوع تحت القدم من حيث إهماله وعدم المبالاة به. انظر: شرح النووي 8/432، وشرح الأبي 4/255، وفتح الملك المعبود 2/18.
([2]) والمعنى الزائد على رأس المال باطل أما رأس المال فلصاحبه بنص القرآن، انظر: شرح النووي 8/433.
([3]) قيل: الكلمة هي: الأمر بالتسريح بالمعروف أو الإمساك بإحسان، وقيل: هي لا إله إلا الله، وقيل: الإيجاب والقبول، وقيل: هي قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ}، سورة النساء، الآية: 3. قال النووي 8/433، وشرح الأبي 4/256، وفتح الملك المعبود 2/19.
([4]) والمعنى لا يأذن لأحد من الرجال أو النساء تكرهون أن يدخل منازلكم، وليس المراد من ذلك الزنا؛ لأنه حرام سواء كرهه الزوج أو لم يكرهوه؛ ولأن فيه الحد. شرح النووي 8/433، والأبي 4/257, وفتح الملك المعبود 2/20.
([5]) غير المبرِّح: لا شديد ولا شاق، انظر: فتح الملك المعبود 2/19، وشرح النووي 8/434.
([6]) والمعنى قد تركت فيكم أمراً لن تخطئوا إن تمسكتم به في الاعتقاد والعمل وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه، وسكت عن السنة؛ لأن القرآن هو الأصل في الدين، أو لأن القرآن أمر باتباع السنة كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}. سورة النساء، الآية: 59. وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}. سورة الحشر, الآية: 7. انظر: فتح الملك المعبود 2/20، وقد جاء عند الحاكم من حديث ابن عباس
ا الوصية ب "... كتاب الله وسنة نبيه.." وصححه الألباني في صحيحه الترغيب برقم 36.
([7]) أخرجه مسلم برقم 1218.
([8]) قيل: مائة وثلاثون ألفاً. انظر: فتح الملك المعبود 2/105.
([9]) سورة المائدة, الآية: 3, والحديث أخرجه البخاري برقم 45, ومسلم برقم 3016, 3017.
([10]) سورة الأنعام, الآية: 115.
([11]) تفسير ابن كثير 2/12.
([12]) ذكره ابن كثير في تفسيره 2/12 وعزاه بإسناده إلى تفسير الطبري. وهذا يشهد له قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريبًا كما بدأ...“.