عَذَابُ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ:
والَّذي أَمَرَ بِقَتْلِ الْحُسَيْن عُبَيْدُ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَلَكِن لَمْ يَلْبَثْ هَذَا أَنْ قُتِلَ، قَتَلَه الْـمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ انْتِقَامًا لِلْحُسَيْنِ، وَكَانَ الْـمُخْتَارُ مِمَّنَ خَذَلَ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ.
فَكَانَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّهُم أَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِمُوا مِن أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنّهُمْ أَوَّلًا: خَذَلُوا مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ حَتَّى قُتِلَ وَلَم يَتَحَرَّكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَثَانِيًا: لَـمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ لَمْ يُدَافِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْحُرِّ بْنِ يَزيدَ التَّمِيمِيِّ وَمَنْ مَعَهُ، أَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِفَإِنَّهُم خَذَلُوهُ، وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ يَضْرِبُونَ صُدُورَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ تِلْكَ الْخَطِيئَةِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا آبَاؤُهُمْ كَمَا يَزْعُمُونَ
عَنْ عُمَارةَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَـمَّا جِيءَ بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَأَصْحَابِهِ نُضِّدَتْ (أَيْ: صُفَّت) فِي الْـمَسْجِدِ فِي ( الرَّحْبَةِ ) يَقُول: فَانْتَهَيْتُ إِلَيهِمْ وَهُم يَقُولُونَ: قَدْ جَاءَتْ قَدْ جَاءَتْ، فَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ جَاءَتْ تَتَخَلَّلُ الرُّءُوسَ حَتَّى دَخَلَتْ فِي مِنْخَرَيْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ زِيَادٍ فَمَكَثَتْ هُنَيْهَةً ثُمَّ خَرَجَتْ فَذَهَبَتْ حَتَّى تَغَيَّبَتْ، ثُمَّ قَالُوا قَدْ جَاءَتْ قَدْ جَاءَتْ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَهَذَا انْتِقَامٌ مِن اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِن هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي سَاهَمَ مُسَاهَمَةً كَبِيرةً فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ.
عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: لَا تَسُبُّوا عَلِيًّا وَلَا أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ، فإِنَّ جارًا لَنَا مِنْ بَلْهُجَيْمِ قَالَ: ( أَلَمْ تَرَوْا إِلَى هَذَا الْفَاسِقِ الْحُسَيْنِ بن عَلِيٍّ قَتَلَهُ اللهُ ، فَرَمَاهُ اللهُ بِكَوْكَبَيْنِ فِي عَيْنَيْهِ فَطَمَسَ اللهُ بَصَرَهُ )
مَنْ قَتَلَ الْـحُسَيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ؟
قَبْلَ أَنْ نَتَعَرَّفَ عَلَى قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ دَعُونَا نَرْجِعْ سَنَوَاتٍ قَلِيلَةٍ إِلَى عَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ مَعَ شِيْعَتِهِمَا:
1- عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
يَشْتَكِي مِنْ شِيعَتِهِ (أهلِ الْكُوفَةِ) فيَقُولُ: ( وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا، وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي. اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا، وَأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُكُمْ سِرًّا وَجَهْرًا فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا. أَشُهُودٌ كَغِيَابٍ، وَعَبِيدٌ كَأَرْبَاب! أَتْلُوا عَلَيْكُمُ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا، وَأَعِظُكُمْ بِالْـمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا، وَأَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ الْقَوْلِ حَتَّى أَرَاكُمْ مُتفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا، تَرْجِعُونَ إِلى مَجَالِسِكُمْ، وَتَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ، أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً، وَتَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً كَظَهْرِ الْحَيَّةِ، عَجَزَ الْـمُقَوِّمُ، وَأَعْضَلَ الْـمُقَوَّمُ. أَيُّهَا الشَّاهِدةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عُقُولُهُمْ، الْـمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، الْـمُبْتَلَى بِهمْ أُمَرَاؤُهُمْ، صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، لَوَدِدْتُ وَاللهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَني بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ! يَاأَهْلَ الْكُوفَةِ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَثٍ وَاثنَتَيْنِ: صُمٌّ ذَوُوأَسْمَاعٍ، وَبُكْمٌ ذَوُوكَلَامٍ، وَعُمْيٌ ذَوُوأَبْصَارٍ، لاَ أَحْرَارَ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلاَ إِخْوَانَ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلاَءِ! تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ يَا أَشْبَاهَ الاِْبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا! كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ ) وَلَمْ يَقِفِ الْأَمْرُ عِنْدَ هَذَا الْحدِّ بَلِ اتَّهَمُوهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ بِالكَذِبِ:
رَوَى الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ عَنْ أَمِيرِ الْـمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ( أمَّا بَعْدُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَالْـمَرْأَةِ الْحَامِلِ، حَمَلَتْ فلمَّا أَتَمَّتْ أَقْلَصَتْ، وَمَاتَ قَيِّمُهَا، وَطَال تَأَيُّمُهَا، وَوَرِثَهَا أَبْعَدُهَا، أَمَا وَاللهِ مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِيَارًا، وَلَكِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ سَوْقًا، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: عَلِيٌّ يَكْذِبُ قَاتَلَكُمُ اللهُ! فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ ؟ ).
وقَالَ أَيْضًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ( قَاتَلَكُمُ اللهُ! لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحًا، وَشَحنْتُمْ صَدْرِي غَيْظًا، وَجَرَّعْتُمُوني نَغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاسًا، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلَانِ )
2- الْـحَسَنُ بْن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ( أرَى وَاللهِ مُعَاوِيَة خَيْرًا لِي مِنْ هَؤُلَاءِ، يزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لِي شِيعَةٌ ابْتَغَوْا قَتْلِي، وَانْتَهَبُوا ثَقْلِي، وَأَخَذُوا مَالِي، وَالله لَئِنْ أَخَذَ مِنِّي مُعَاوِيَةُ عَهْدًا أَحْقِنُ بِهِ دَمِي وَأُؤَمَّنُ بِهِ فِي أَهْلِي خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَقتْلُونِي، فَيَضِيعُ أَهْلُ بَيْتِي وَأَهْلِي، وَلَوْ قَاتَلْتُ مُعَاوِيَةَ لَأَخَذُوا بِعُنُقِي حَتَّى يَدْفَعُونَني إِلَيْهِ سِلْمًا )
وقَالَ أَيْضًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِشِيعَتِهِ: ( يَا أَهْل الْعِرَاقِ إِنَّهُ سَخِيَ بنَفْسِي عَنْكُمْ ثَلَاثٌ: قَتْلُكُمْ أَبِي، وَطَعْنُكُمْ إِيَّايَ، وَانْتِهَابُكُمْ مَتَاعِي )
غَدْرُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَكَوْنُهُمْ قَتَلَةَ الْـحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ :
لَقَدْ نَصَحَ مُحَمَّدُ بْن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْـمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَخَاهُ الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَائِلًا لَهُ: يَا أَخِي إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ عَرَفْتَ غَدْرَهُمْ بِأَبيكَ وَأَخِيكَ.وَقَدْ خِفْتُ أَن يَكُونَ حَالُكَ كَحَالِ مَنْ مَضَى).
وقَالَ الشَّاعِرُ الْـمَعْرُوفُ الْفَرَزدْقُ لِلْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَما سَأَلَهُ عَنْ شِيعَتِهِ الَّذِينَ هُوَ بِصَدَدِ الْقُدُومِ إِلَيْهِمْ: ( قُلوبُهُمْ مَعَكَ وَأَسْيَافُهُمْ عَلَيْكَ وَالْأَمْرُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء وَاللهُ يفْعَلُ مَا يَشَاءُ ). فَقَالَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
( صَدَقْتَ للهِ الْأَمْرُ، وَكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، فَإِنْ نَزَلَ الْقَضَاءُ بِمَا نُحِبُّ وَنَرْضَى فَنَحْمَدُ الله عَلَى نَعْمَائِهِ، وَهُوَ الْـمُسْتَعَانُ عَلَى أَدَاءِ الشُّكْرِ، وَإِنْ حَالَ الْقَضَاءُ دُونَ الرَّجَاءِ فَلَمْ يَبْعْدُ مَنْ كَانَ الْحَقَّ نِيَّتُهُ وَالتَّقْوَى سَرِيرَتُهُ ).
وعِنْدَمَا خَاطَبَهُمْ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَشَارَ إِلَى سَابِقَتهِمْ وَ فَعْلَتهِمْ مَعَ أَبِيهِ وَأَخِيهِ فِي خِطَابٍ مِنْهُ: ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، فَلَعَمْرِي مَا هِيَ لَكُمْ بِنُكْرٍ، لَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا بِأَبِي وَأَخِي وَابْنِ عَمِّي مُسْلِمٍ، وَالْـمَغْرُورُ مَنِ اغْتَرَّ بِكُمْ ).