وما زالَ العلماءُ يكرَهونَ تغييرَ شعائِرِ العربِ حتّى في المُعاملاتِ وهو «التّكلُّمُ بغيرِ العربيّة» إلاّ للحاجَةِ، كما نصّ على ذلك مالِكٌ والشّافعيّ وأحمدُ، بل قال الإمامُ مالكٌ: «
من تكلَّمَ في مسجِدِنا بغيرِ العربيّةِ أُخرِجَ منه»، مع أنّ سائرَ الألسنِ يجوزُ النّطقُ بها لأصحابِها، ولكن سوّغوها للحاجةِ وكرِهوها لغيرِ الحاجةِ، ولحفظِ شعائرِ الإسلامِ؛ فإنّ الله أنزلَ كتابَه باللّسانِ العربيِّ، وبَعثَ به نبيَّه العربيَّ،
فصارَ حفظُ شعارِ العربيّةِ من تمامِ حفظِ الإسلامِ(3).
وفصاحةُ الحديثِ النّبويِّ سنّةٌ عَمَلِيّةٌ لا تقتصِرُ على عهدِ النّبوّةِ، ولكنّها تمتدّ إلى مساحاتٍ شاسعةٍ من تاريخِ العربيّةِ في تطوّرِها عبرَ العُصورِ إلى يومِنا هذا، وتجدُ مهدَها في القرآنِ الكريمِ الذي هو كتابٌ معجزٌ في بلاغتِه ونظمِه وفصاحتِه، ولكنّه مقياسٌ عالٍ و نموذجٌ سامٍ و الْتِحاقٌ لِمَلَكَةِ المتكلِّم اللّغويّةِ بفصاحةِ القرآنِ الكريمِ في صورِها وملامِحِها المتنوِّعةِ، وهي البابُ المفضي إلى إدراكِ الأحكامِ وتمثُّلِ المعاني والمبادئِ التي نزلت بلسانِ العربِ. فينبغي للمتكلِّمِ من هذا الوجهِ أن يحملَ نفسَه على ممارسةِ تلاوةِ القرآنِ الكريمِ باللّسانِ الذي به أنزِل وبالفصاحةِ العاليةِ التي بها نطقَ الأوّلونَ؛ فقد جاءَ عن النّبيّ
وعن أصحابِه وتابعيهم
مِن تفضيل إعرابِ القرآنِ والحضِّ على تعليمِه وذمِّ اللّحنِ وكراهيتِه ما وجَبَ به على قرّاءِ القرآنِ الكريمِ أن يأخذوا أنفسَهم بالاجتهادِ في تعلّمِه؛ فقد رويَ عن أبي هريرةَ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمَ قال:
«أعرِبوا القرآنَ والْتمِسوا غرائبَه»(4)، ورويَ عن عُمَرَ
أنّه كتبَ
"أن تَعَلَّموا الفرائضَ والسّنّةَ واللّحنَ كَما تَعَلَّمونَ القرآنَ"، واللّحنُ هو انْتِحاءُ سمتِ العربِ في كلامِها(5)، ورُويَ عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ أنّه قالَ:
جرِّدوا القرآنَ وزيِّنوه بأحسنِ الأصواتِ وأعرِبوه فإنّه عربيّ، واللهُ يحبُّ أن يُعرَبَ(6)، وقيلَ للحسنِ في قومٍ يتعلّمونَ العربيّةَ، فقالَ:
أحسَنوا، يتعلّمونَ لغةَ نبيِّهم صلّى الله عليه وسلّم .
والحديثُ النبويُّ الشّريفُ وجهٌ عمليّ للقرآنِ الكريمِ، وتطبيقٌ متفوِّقٌ لبلاغتِه وفصاحتِه ونسَقِه وبيانِه، وله قدرَة عاليةٌ على الوضعِ والتّشقيقِ للألفاظِ، وهو يغترِفُ من معينِ القرآنِ، ويستجيبُ للحاجاتِ اليوميّةِ المتجدِّدةِ ومطالبِ الحياةِ ومثاراتِ المقامِ. فينبغي للمسلِمِ أن يُغلِّبَ الفصاحةَ النّبويّةَ في سُلوكِه الكلامِيِّ على لهجتِه المحلّيّةِ، ويقوِّيَ إحساسَه بها، ويُجاوِزَ واقعَ الضّعفِ و الاسْتِغْراقِ في الخصائصِ المحلّيّةِ ؛ فإنّ إحساسَ الفرْدِ اليومَ باللّغةِ ضعيفٌ بالفطرةِ، والنّاسُ لا تقرأُ إلاّ عَناوينَ الأخبارِ في الصّحُف السّيّارةِ والمقالاتِ الشّاردةِ، إنّه إحساسٌ أجنبيّ مشوبٌ بِلُوثَةِ العُجمةِ والعامّيّةِ ، وما زالَ الإحساسُ بالفصاحةِ يتراجعُ حتّى حُصِرَت اللّغةُ في دائرةٍ ضيّقةٍ ، و حلّت في المحلِّ الأدنى بعدَ أن كانت لُغَةَ الأمّةِ الأمَّ و رِباطَها الوثيقَ الذي يمنعُ عنها التّفكُّكَ.
فاللّغةُ العربيّةُ الفُصحى تستطيعُ أن تكونَ لغةَ التّخاطُبِ اليوميِّ في البلادِ العربيّةِ بدلاً من اللّهَجاتِ العامّيّةِ؛ لأنّ فيها ما يقرِّبُ بين المتكلِّمينَ، بل هي لغةُ القرآنِ الكريمِ و لغةُ الحديثِ النّبويِّ المُبينِ عن القرآنِ الكريمِ، ولفظُ القرآنِ مرتبطٌ أشدَّ الارتباطِ بعقيدةِ المسلمِ وعباداتِه وتشريعِه واقتصادِه وعِلمِه وسائرِ أعمالِه ومُعاملاتِه، فلا يكادُ يوجدُ شيءٌ في حياةِ المسلِمِ إلاّ وله في القرآنِ الكريمِ هديٌ يُتَّبَعُ وأحكامٌ تُستنبَطُ، وله في الحديثِ تفصيلُ ما أُجمِلَ في القرآنِ، وبيانُ ما أُبْهِمَ، وإيضاحُ كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في حياةِ الفردِ والجماعةِ .
و هُناكَ أَحاديثُ كَثيرَةٌ لا تَكادُ تُحْصى جَمَعَتْ بَيْنَ الإيجازِ والجَمْعِ في الكَلِمِ،
بَلاغَةً، و بَيْنَ الدّلالَةِ عَلى مَواقِفَ مِنَ الحياةِ الاجْتِماعِيَّةِ النّابِضَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ ،
دلالَةً ، وبَيْنَ تَنَوُّعِ أَنْماطِ الْجُمَلِ ،
لُغَةً و تَرْكيبًا . و كُلُّ هذِهِ الْمَزايا الْبَيانِيَّةِ و الْبَلاغِيَّةِ ، والدّلالِيَّةِ الْمَقامِيَّةِ ، و اللُّغَوِيَّةِ التَّرْكيبِيَّةِ التي يَزْخَرُ بِها الْحَديثُ قِيَمٌ عالِيَةٌ تَحْمِلُها اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ ويَنْفَعِلُ بِها الْمُتَكَلِّمُ ، و تَدُلُّ عَلى أَنَّ الْحَديثَ النَّبَوِيَّ نُصوصٌ شَرْعِيَّةٌ يَحْتَكِمُ إِلَيْها الْمُسْلِمونَ لِلْقِيامِ بِما يَحْتاجُهُ التَّشْريعُ ، و كَلامٌ بَليغٌ فَصيحٌ هُوَ
« سُنَّةٌ شَريفَةٌ تَقْتَضي مِنَ الْمُسْلِمينَ اتِّباعَها، تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ الْكَريمِ»(7)، الذي لازَمَت كَلامَهُ الْفَصاحَةُ في جَميعِ مَواقِفِهِ.
فَلَوْ دَخَلَتْ لُغَةُ الْحَديثِ و نَظْمُهُ و بَلاغَتُهُ لُغَتَنا، وقَفَزَتْ عَلى أَلْسِنَتِنا وتَوَضَّعَتْ في أَنْماطِ تَعْبيرِنا، مِثْلَما دَخَلَتِ السُّنَّةُ حَياتَنا الْعَمَلِيَّةَ وأَثَّرَتْ فيها، لارْتَفَعَ شَأْنُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْيَوْمَ ، ولارْتَفَعَتْ دَرَجَةُ فَصاحَتِها، ولَكانَ لِلسُّنَّةِ حُضورٌ و شَيْعوعَةٌ في اسْتِعْمالِنا اللُّغَوِيِّ بِكافَّةِ وُجوهِهِ ومَيادينِهِ، وخاصَّةً الْمَيْدانَ الْعِلْمِيَّ والأَدَبِيَّ، وما يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ تَأْليفٍ وإِبْداعٍ و نَقْدٍ و بَحْثٍ عِلْمِيٍّ، ولَتَوارى أَثَرُ اللَّهَجاتِ الْعامِّيَّةِ والدَّوارِجِ الْمَحَلِّيَّةِ. فَالْعَرَبِيَّةُ الْفُصْحى سُنَّةُ النَّبِيِّ
وسُنَّةُ الْخُلَفاءِ الرّاشِدينَ الْمَهْدِيّينَ ، كَباقي السُّنَنِ الْفِعْلِيَّةِ الْمَأْثورَةِ عَنِ النَّبِيِّ
والصَّحابَةِ، بَلْ هِيَ مِنْ آكَدِ السُّنَنِ .
أمّا ما يُثارُ من شُبُهاتٍ معاصرَةٍ حولَ اللّغةِ العربيّةِ مثل شبهةِ «اللّغة الدّينيّة»(8) في مقابلِ «اللُّغةِ العصرِيّة»، وشبهةِ «الجُملة القرآنيّة» في مُقابلِ «الجُملةِ الإنجيليّة»(9) فمصدرُه الاستعمارُ الذي وجَد النّاسَ يحفظونَ القرآنَ الكريمَ منذ طفولَتِهم و إن لم يفهموه ولم يتّخذوه لِسانَهم، فظنّوا أنّ الفصحى لغةٌ دينيّةٌ، مثلما عدّوا اللّغةَ اللاّتينيّةَ لغةً دينيّةً، وكأنّه لا يقترِن بالدّينِ إلاّ كلُّ ما آلَ أمرُه إلى الموتِ والزّوالِ، فعمِلَ الاستعمارُ منذ استيلائه على بلادِ العربِ على الاستهانةِ بالعربيّةِ وتنزيلِها منزلةَ الأجنبيّةِ في عُقرِ دارِها، تُدَرَّسُ في غربةٍ شديدةٍ على نفوسِ النّاشئةِ، ويُدفعُ بها إلى الانحِلالِ والتّراجعِ، ولكنّ اجتهادَ الاستعمارِ منذ دخولِه وما أثمرَه من ثمارِ التّمكينِ لثقافتِه ولغتِه على حسابِ لغةِ البلادِ العربيّةِ و ثقافتِها، لا ينبغي أن يثنِيَ العزائمَ، بل يجبُ أن يكونَ حافزًا للعودةِ إلى إحياءِ اللّغةِ والذّاتِ والرّجوعِ إليها والاعتقادِ الجازمِ بأنّ الأمّةَ تمرُّ من امتحانِ الغربةِ في اللّغةِ، مثلَما مرّت وما زالت تمرّ من امتحانِ الغربةِ في الدّين .