لقد كان سماحة الإمام ابن باز أنموذج فريداً في حرصه على نفع الأمة وقضاء حوائجهم والإجابة على إشكالاتهم ومسائلهم.
ففي إحدى الليالي المباركة يوم الجمعة وبينما كنا نستعد للتسجيل مع الشيخ داخل مكتبته إذا بباب المكتبة يقرع، وإذا بأحد المشايخ يدخل وهو فضيلة الشيخ محمد الموسى.. يهمس في أذن الشيخ قائلاً: إن هناك امرأة كبيرة في السن، جاءت من مكان بعيد في شمال المملكة، وتريد أن تسأل سماحتكم عن موضوع رضاع، لأنها ستسافر في هذه الليلة، فاستأذن سماحة الشيخ رحمه الله قائلاً: أرجو أن تأذنوا لنا دقائق.
ثم قام سماحة الشيخ وقضى حاجتهم، ثم رجع إلينا قائلاً: هذه امرأة جاءت من مكان بعيد فأفتيناها وأجبناها على أسئلتها.
رحمك الله يا عَلم الأمة على هذا التواضع الجم والخلق الرفيع.. إن هذه الأعمال تذكرنا بمواقف السلف الصالح.
وفي موعد آخر مع سماحته أصر ابني خالد على الذهاب معي للتسجيل وهو في الصف الثالث الابتدائي، وأثناء سلامنا على الشيخ وتقبيل رأسه قلت: هذا ابني خالد يريد السلام عليك، فسلم خالد على الشيخ وقبل رأسه. وسأله الشيخ: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأجابه خالد على الأسئلة، فدعا له الشيخ بالتوفيق والهداية.
وهذه دروس في التعامل مع الصغار ومؤانستهم.
* الشيخ صالح بن غصون رحمه الله:
في أيام حرب الخليج وفي ذروتها كنا نسجل البرنامج مع فضيلته ليلاً، وكان لسانه قبل التسجيل وبعده لا يفتر عن ذكر الله، والدعاء لهذه البلاد المباركة بالنصر والتمكين والعزة والرفعة، وأن يحفظها الله من كيد الأشرار والأعداء، وقد سمعته يلح بالدعاء كثيراً بأن يحفظ الله هذه البلاد.. قبلة المسلمين ومأوى أفئدتهم ومنطلق رسالة التوحيد.
لا أذكر أن الشيخ رحمه الله اعتذر يوماً عن التسجيل، أو سوف، أو تراخى على مدى 14 سنة، إنما هي همة الرجال -دعوة وعمل- في بذل الخير ونفع المسلمين، رجال عاهدوا الله على المضي في الطريق الصعب، فإشتروا الآخرة وعملوا لها.
كان الشيخ رحمه الله محباً لإذاعة القرآن الكريم، فكان قبل كل تسجيل يسأل عن الجديد في إذاعة القرآن الكريم، وعن برامجها ومواعيدها، وكان فضيلته رحمه الله يخصص لي أسبوعين كاملين عدا يوم الجمعة في بعض الأحيان، لأنه يجتمع بأولاده وأسرته، فكان يسجل حلقات الدورة الإذاعية كاملة 24 حلقة دون كلل أو ملل.
وقد تعلمت من الشيخ رحمه الله كيف يكون المسلم حريصاً على الدعوة إلى الله وعلى أهمية الوقت في حياة المسلم واحترام المواعيد والدقة فيها.
* الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
كان سماحته رحمه الله مضرب في ضبط الوقت والإعتناء به، فقد كان صادق الوعد، حافظ العهد، دقيق الموعد.
وقد كانت حياته جداً وجهاداً، وعلماً وتعليماً، ودعوة وإفتاء، وفقهاً وتأليفاً، وما هذا العلم المبثوث في الأشرطة والإذاعات والكتب والرسائل إلا ثمرة استغلال الوقت والدقة في الإنتفاع به، فرحم الله الشيخ كم كان حريصاً على نفع الأمة بوقته.
كنت أقرع الباب الساعة التاسعة تماماً فيفتح سماحته الباب فأسلم عليه ويرد بأحسن منه، وأقبل رأسه، ويأذن لي بالدخول، ثم يخرج ساعة من جيبه وينظر إليها ويقول: على الموعد يا أبا خالد.. جزاك الله خيراً.
كان حريصاً على هذا البرنامج وحلقاته وعدم إنقطاعه، فكان لا يتوانى في نشر الخير وتبليغ العلم والدعوة إلى الله.
واستمر سماحته رحمه الله مواصلاً لتسجيلاته الإذاعية في منزله القديم.. في مجلس كبير جداً فرش بقطع من الزل المتواضع، حيث كان سماحته رحمه الله إماماً في الزهد والتواضع، فكان يجلس في ركن من أركان المجلس ويقرب هذا الركن موقد نار توضع حوله أواني الشاي والقهوة فأجلس قريباً منه.
ومن المواقف مع سماحته رحمه الله أنه كان حريصاً على تطبيق السنة ناصراً لها ذاباً عنها، محارباً للبدعة محذراً منها، فكان من تطبيقه للسنة: البشاشة والمصافحة والتبسم لمن قابله، آخذاً بالحديث: «تبسمك في وجه أخيك صدقة» فكان حريصاً على إدخال السرور على المسلمين.
وكنا إذا تناولنا طعام الغداء بعد التسجيل فكان الشيخ رحمه الله يلعق الصفحة آخذاً بالحديث الوارد ويشرب الماء ثلاثاً.