الألم معنى غير محبب للنفوس، لكن من نظر في بعض المواقف التي حفظتها كتب السُنّة وكتب التراجم وبعض قصص المعاصرين، وجد أن الألم يمكن أن ينتقل إلى معنى شريف، وحالةٍ يرجى لصاحبها المكانة العالية عند مولاه.
والمعنى الجامع لهذا الألم مردّه إلى الحسرة على فوات طاعة، أو الألم على وقوع ذنب!
يصور لنا القرآن مشهداً من مشاهد الألم الذي يعتصر القلوب على فوات طاعةٍ هم فيها معذورون، إنهم الذين جاءوا في ساعة العُسرة، راغبين في أن يحملهم النبي على أي راحلة أو أي دابة! لكن الحال لم تكن لتسعف بشيء من ذلك .. هنا يأتي دور الدموع؛ لتعبر عما يختلج في النفوس، ويتردد في الصدور من حسرةٍ على فوات هذه الفرصة: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92]! موقفٌ لا تصنّع فيه، بل هو موقف صدقٍ وإيمان، سجّله علاّم الغيوب، المطلع على ما في الضمائر، وما تكنّه الأفئدة! هذا عمر بن الخطاب ـ ـ جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش، قال: يا رسول الله ما كدت أصلي العصر، حتى كادت الشمس تغرب، قال النبي : «والله ما صليتها» ... الحديث ([1]).
تأمل في هذا المشهد الذي يوضح لك الألم والحزن الذي اعتصر قلبه، والذي ترجمه الفاروق ـ ـ بسبّ الكفّار الذين تسببوا في تأخير الصلاة عن وقتها([2])، مع أن عمر لم يكن إلا في شغل شاغل، وجهدٌ وجهادٍ في معركة وصف علاّم الغيوب حال أهلها بقوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]، فيا ترى، ما الذي يحدث لمن يؤخرون الصلاة عن وقتها والشغل الشاغل لهم دون هذا بمراحل! هذا إن سلم من محذور شرعي!
ومشهد آخر له صلة بالتحسر على فوات الطاعة، في ترجمة سعيد بن عبدالعزيز ـ إمام أهل الشام في زمانه ([3]) ـ الذي كان إذا فاتته صلاة الجماعة بكى. ومن المتألمين المعاصرين، من ظلّ يبكي من الفجر حتى المغرب لأن صلاة الفجر جماعةً فاتته.
ويأخذ الألم والتحسر صورةً أخرى، فثمة ألمٌ شريف الغاية، حسنُ العاقبة، وهو التألم على الوقوع في المعصية، والتحسر على ارتكاب الذنب، وفي قصة الغامدية ـ ا ـ نموذج ناصع على ذلك! إنك لتعجب من استمرار جذوة الألم في قلب الغامدية مدةً تقارب ثلاث سنواتٍ ـ وهي مدة الحمل والفطام ـ وهي تعلم أن عاقبة هذا الاعتراف الموتُ رجماً!
جاءت هذه المرأة التائبة النادمة، فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله، لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى! قال: «إمّا لا، فاذهبي حتى تلدي»، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه»، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ... الحديث([4]).
وثمة أسئلة تتبادر هنا: على ماذا نبكي نحن؟ وما الذي يوجب هذه الحال؟ ولماذا لا نجد هذه الحال الإيمانية ـ إلا من رحم الله ـ ونحن الذين نخطئ كثيراً؟
لعل الأسباب التالية تكشف عن الجواب:
1. ضعف العلم بالله: وقد قيل: من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وإن من أعظم الأبواب التي تعرّفنا بربنا أكثر: التدبر في كتابه، والتأمل في معاني أسمائه وصفاته، والنظر في ملكوته الكوني، يوضح هذا السبب الثاني، وهو وثيق الصلة بهذا السبب:
2. ضعف التدبر للقرآن، فإن تدبره كفيل بملء القلب من خشية الله، والاطلاع على أسرار وأسرار من معاني كلام الله، وحقائق أسمائه وصفاته، ودلائل العبودية، التي تقود القلب إلى الانكسار، فما الذي يتوقعه المؤمن من تدبر أمثال هذه الآيات؟ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60، 61]، {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } [المعارج: 27، 28]، {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } [الطور: 26].
3. الإصرار على الذنب، وعدم الاقلاع عنه، حتى تتراكم عليه أوضار السيئات، وتبعات المعاصي، وفي الصحيح: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز، مجخيا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه»([5]).
4. ضعف المحاسبة: فإن المحاسبة دليل على حياة القلب، وقائدةٌ لتمحيصه مما علق به من أوضار الذنب، وبقايا المعصية، فكم من دمعة سالت من قلبٍ نادم غسلت ذنوباً كثيرة! فعاد القلب مصقولاً كأنما خلق اليوم! يقول أبو داود الحفري: دخلتُ على كرز بن وبرة بيته فإذا هو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ قال: إن بابي مغلق، وإن ستري لمسبل، ومنعت حزبي أن أقرأه البارحة، وما هو إلا من ذنب أحدثته([6]).
5. الغفلة عن استحضار أثر الصلاة، التي قال الله فيها: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، فلو صحّت لنا صلاتنا على الوجه الذي يريده الله، لبكينا على ما يفوتنا من بركتها وخيرها، والله المستعان.
-------------------------------- ([1])البخاري ح(596) مسلم ح(631). ([2]) لم تكن صلاة الخوف شرعت حينئذ. ([3]) تنظر ترجمته: سير أعلام النبلاء ط الرسالة (8 / 32). ([4])مسلم ح(1695). ([5]) مسلم (231). ([6]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5 / 79).