قال إبراهيم بن أبي عبلة: أراد هشام بن عبدالملك أن يولِّيني خراج مصر، فأبيتُ، فغضب حتى اختلج وجهه، وكان في عينه الحول، فنظر إليَّ نظر منكِر وقال: لتأتينَّ طائعًا أو لتأتين كارهًا، فأمسكتُ عن الكلام حتى سكن غضبه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتكلم؟ قال: نعم، قلت: إن الله قال في كتابه العزيز: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ﴾ [الأحزاب: 72]، فوالله يا أمير المؤمنين ما غضب عليهن إذ أبَيْنَ، ولا أكرههن إذ كرِهْنَ، وما أنا بحقيق أن تغضب عليَّ إذ أبيتُ، وتكرهني إذا كرهتُ، فضحك وأعفاني [2] .
• وكان الوجيه بن الدهَّان أعمى قد أتقن العربية، وحفظ شيئًا كثيرًا من أشعار العرب، وسمع الحديث، كان حنبليًّا ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة، ثم إلى مذهب الشافعي، وكان يحفظ الكثير من الحكايات والملح والأمثال، ويعرف العربية والتركية والعجمية والرومية والحبشية والزنجية، وكان له يدٌ طولى في نظم الشعر.
وكان لا يغضب، وتراهن اثنان على إغضابه، فصار أحدهما يسأله ويسيء إليه، فتبسَّم ضاحكًا وقال: إن كنتَ راهنتَ فقد غُلبت، وإنما مَثَلُك مثل البعوضة، سقطت على ظهر الفيل، فلما أرادتْ أن تطير، قالت له: استمسك؛ فإني أحب أن أطير، فقال لها الفيل: ما أحسستُ بكِ حين سقطتِ، فما أحتاج أن أستمسك إذا طرتِ.
• الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي: من أئمَّة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، أخذه من الموسيقا، وكان عارفًا بها، وهو أستاذ سيبويه النحْوي.
ولد ومات في البصرة، وعاش فقيرًا صابرًا، كان شعث الرأس، شاحب اللون، قشف الهيئة، متمزِّق الثياب، متقطِّع القدمين، مغمورًا في الناس، قال بعضهم: أبدع الخليل بدائعَ لم يُسبق إليها، فمن ذلك تأليفه كلام العرب على الحروف في الكتاب المسمى بكتاب العين، فإنه هو الذي رتب أبوابه، وتوفي قبل أن يحشوه، وهو الذي اخترع العروض، وأحدث أنواعًا من الشعر ليست من أوزان العرب[3].
قيل: لما دخل الخليل البصرة لمناظرة أبي عمرو بن العلاء، جلس إليه ولم يتكلم بشيء، فسئل عن ذلك فقال: هو رئيس منذ خمسين سنة، فخفت أن ينقطع، فيفتضح في البلد. وقال الواحدي في تفسيره: الإجماع منعقدٌ على أنه لم يكن أحدٌ أعلمَ بالنحو من الخليل[4].
قال النضر بن شميل: أقام على خص بالبصرة لا يقدر على فلس، وعِلمُه قد انتشر وكسب به أصحابه الأموال، قال: وسمعته يقول: إني لأغلق بابي علي ما يجاوزه همِّي.
• نفطويه: قال الثعالبي: لقب نفطويه؛ لدمامته وأدمته، تشبيهًا بالنفط، وزيد "ويه" نسبة إلى سيبويه؛ لأنه كان يجري على طريقته، ويدرس كتابه.