يكثر الحديث عن الحملة الشرسة التي وجهها الاستعمار وأذنابه من العرب المستغربين إلى اللغة العربية. ولاشك في أن هذه الحملة قد خف أوارها وفقدت بعض زخمها وبريقها بعد الخمسينات, ولكنها لما تنته بعد, فلا زال الرماد ساخناً, ولا يعدم بين الحين والحين من يحاول النفخ فيه لعله يخرج منه ناراً ينال بها من اللغة العربية مبتغى ومقصداً , لكنها في الأخير ترتد عليه -بفضل الله– ويتطاير شررها في عينيه, ومن النافخين في هذا الكير- قبل سنوات- دعي من أدعياء الكتابة أفسحت له إحدى صحف الخليج المشهورة مجالاً واسعاً من صفحاتها وأخذ ينفث فيها سموماً تعم وتخص, وكان للغة العربية نصيب كبير من زفراته المحمومة, ونفثاته المسمومه, وقال في اللغة قولاً عجيباً ووصفها بأوصاف كان من سبقه من المستشرقين يتوارون حياءً وخجلاً من الوصول إليها. ولكنه لم يعدم – بفضل الله – من أبناء هذه اللغة البارّين بها من يملأ فاه بالتراب, وأصابه – بحمد الله – شؤم معاداة هذه اللغة فأزيح عن مكانه وأبعد من الصحيفة على إثر تلك المقالة والردود عليها, فأصابه –كما ذكرنا- شرار ذلك الرماد الذي حاول أن ينفخ فيه. ولعل من ذيول تلك الحادثة وإفرازاتها تلك القصيدة التي بين أيدينا والتي نظمها الأخ الزميل حمد العسعوس , واختار لها عنوان (السجينة ), ويريد بها اللغة العربية, وكأنه يشير إلى أن سجننا لها جرأ عليها بعض المتطاولين, وأن سبيل خلاصها هو أن نعتقها ونحاول أن نمدها ببعض أسباب القوة التي تهيئ لها أن تصول وتجول في إعلامنا من صحافة وإذاعة وتلفاز , وفي منتدياتنا, وفي قاعات الدرس في مدارسنا وجامعاتنا. وهي أهل لأن ترفع رأسها وترفع رؤوسنا معها برفعتنا لها. وهي بلا شك مرتفعة برفعة الحكيم العليم لها حينما اختارها لساناً لكتابه الكريم, ولرسوله الأمين, وتعهد بحفظ كتابه وحفظها في قوله سبحانه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون), فهي مرفوعة ومحمية ومحفوظة, فهل نحظى نحن بشرف تمثلها لكي نرتفع بها , أو نترك هذا الشرف لغيرنا . إنه لميدان للمتسابقين والمتنافسين , فهل نحن فاعلون؟!. ولنعد إلى قصيدتنا ( السجينة ) :
بدت على النهر ترمي طرفها الأحور **** تزيح عن ساقها فستانها الأخضر
بدت على النهر في وقت الأصيل فلم **** تكن هي الشمس بل كانت هي الأنضر
طفت على صفحات الماء صورتها **** توقف الماء, حيّــا لونها الأسمر
سنابل القمح غارت من أناملها **** وغادرت سوقها فاحتلت البيدر
رفيقتي ليس أحلى من أساورها **** إلا سنا معصم أنقى من المرمر
قال المحبون نفنى في محبتها **** فقلت تفنى الدنا في حبها أكثر
(رفيقتي البحر في أحشائها درر **** فمن يغوص لكي يهدي لنا الجوهر)
رقيقة في حواشيها وفي يدها **** لآلئ حلوة سحرية المنــظر
مات الأوائل في ترتيب زينتها **** وعرض فتنتها في عرسها الأكبر
وأشرقت في نواحي الأرض حاملة **** هدياً له الكون لما جاءه كبّـــر
واليوم آلت إلى كنز نغادره **** إلى ( معاطن ) أنباط بها نفخر
مسكينة هذه الحسناء أرهقها **** وجودها بين قوم عشقهم أشقر
يستهزئون بها جهلاً وتأسرهم ***** رطانة ذوبوا في مائها السكر
حتى الصحافة خانت عهدها معها **** وحالفت لهجات الجهل كي تظهر
في الجامعات توارت عن قواعدها **** و (جعجعت) لغة الأمي في المنبر
وفي الإذاعة آذاهـا وضايقها **** علج بأخطائه في أرضها يجهر
إلى متى يا رجال الحي نهجرها **** إلى متى سوف تبقى الضاد في المحجر
مسجونة في قواميس ممزقة **** على رفوف بركن باهــت أغبر
يا خائفين علينا من شواطئها**** *ما مــات جوعاً مع الأيام من أبحر
إن كان منكم عقوق نحوهـا فلقد**** يذوب فيها أناس من بني الأصفر
لها الخلود برغم الهجر فانطلقوا**** إلى مرابعها فالليل قد أدبر
ورفرفت في سمـاء الغرب رايتها**** وأقبل الشرق نحو المسك والعنبر
رفيقتي كنز مجد في توهجها **** فتاة قصر منيف حسنها يبهر
من كان يجهل هذا المجد في لغتي **** فليلتفت نحوه في سورة ( الكوثر )
وقد أحسن شاعرنا الكريم في تصوير حال اللغة العربية بيننا, وقد جد بعد نظم قصيدته أمور منها تباري بعض مثقفينا ومسؤولينا في هجر اللغة العربية , وإلقاء كلماتهم في منتدياتنا الداخلية باللغة الإنجليزية.