ارتقى المنبر العالي مثلما ارتقاه السابقون، واشرأَبَّت له الأعناق انتباهًا واستماعًا، وأنا مِثْلُهم، فمطلوبٌ الإنصاتُ والانتباهُ، وجرى الحديث عن صحابِيٍّ جليلٍ، ابْتُلِي بكفر أبويه.
فقال الخطيب مُجَلْجِلاً باحة المسجد: (وكان أبواه كافران)
فنهضْتُ من سكوني مظْهِرًا الامتعاضَ، أنظر في وجوه كثيرة عَلِّي أجدُ القوم قد لاحظوا تلك الزَّلَّة اللُّغوية الفادحة: أنَّى للفعل الناسخ أن يرفع خبَرَه؟!
رجعْتُ لنفسي أعَنِّفُها، وبرَّرْت لشيخنا زلَّتَه، والتمسْتُ له العذر في أن ارتقاء المنابر، وحضور الملائكة للاستماع، وتحوُّل الحضور إليه انتباهًا، كل هذا مدعاةٌ للوقوع أحيانًا في زلّاتِ النحو والصرف.
وقلْتُ: لكل جواد كبْوَة، ولكل عالِمٍ هفْوَة، فهَبْ أن تلك زلتُهُ وكَبْوَته، وسينهض بعون الله.
لزمْتُ السكون ثانية، ولم أتحرك، مرة أخرى قال بصوت عال: وأيضًا (كان أبواه كافران) وكررها مرات عديدة أخذتني الْحَمِيَّة والغَيْرة على العربية، ونظرتُ لنفس الوجوه، ونفس العيون، فلا حِرَاك ولا امتعاض، ولا حتى خائنة أعين، تدين الحدَث، رضيت بما يقال على سبيل تأدية الصلاة.
فلما قُضِيَت الصلاة، وأوشك الناس على الانتشار يبتغون من فضل الإله، دنوتُ من خطيب الجمعة أصافحه، وقلت له: كم أنت رائعٌ، فقال مبتسمًا: في خطبة اليوم؟ قلت: بل في انتقاء جمهور المستمعين لك، فتغيَّر وجهُهُ، فلم أَدَع لرأسه فرصة التفكير، وقلْتُ: "وكان أبواه كافرين"، خبر الفعل الناسخ يُنْصَبُ، ثم انصرفْتُ، وقلتُ لنفسي، ولا يسمع بي أحد:
من يكون الخاطئ؟
الخطيب - بما كسر قاعدة نحْوية، لو كنا في أَوْج عصور الفكر العربي لقامت الدنيا ولم تقعد، أم الذين درَّسوا له ولم يتحرَّوا علمه واستيعابه، قبل أن يمنحوه شهادةً يرتقي بها منبر الدعوة؛ ليتفوه في الناس، أم أن خروج الناس على العربية خروجَ الخوراجِ على الإمام عليٍّ، والتماسَهم رضا الغَرْب، هو ما أنساهم أوَّلِيَّات قواعد النحو؟
لم أجد جوابًا غيرَ: نحن أضعنا العربيةَ!
مع خالص التعازي لـ"كان" وصويحباتها اللواتي يرفعن المبتدأ، وينصبن الخبر.