أحدهما العمل به؛ فمن عمل بما علم حفظ عليه علمه وأثابه علماً آخر ما يعرفه، لأن التعطيل ينسي التحصيل، فإذا عمل الإنسان بعلمه، بأن حافظ على فرائض الله، ولازم السنن الرواتب والوتر وتلاوة القرآن والاستغفار بالأسحار، وأعزر نفسه ساعة يجلسها في المسجد للذكر، وأحسن ما يكون بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، فقد تسبب للعمل بعلمه. كذلك يجتنب مجالس اللغو والغفلة، ويعادي مجالس أهل الغيبة وساقط الكلام، ويحفظ لسانه مما لا يعنيه.
ثم أقبل على تذاكر العلم وقيده بالكتابة؛ وحرص على تحصيل الكتب والنسخ أعظم من حرص أهل التمر عليه وقت الجذاذ، وأعظم من حرص أهل العيش على جمعه وقت الحصاد.
فهذا يسمى طالب علم، وهو على سبيل نجاة، إذا كان مخلصاً في ذلك لله; وأكثر علامات ذلك أن يكون لصاحبه حال يتميز بها عن الناس، حتى يستشهد حاله وتميزه بانفراده عن الناس، إلا من دخل معه في طريقه. وأما إذا تسمى الإنسان بالقراءة، فإذا تأملت حاله إذا هو مثل أهل بلاده، ولا فيه خاصة عن أهل سوقه، فحاله عند الصلوات الخمس والرواتب مثل حالهم، ولا محافظة على ذلك، فقد نام جميع ليله وجميع نهاره، وصار له مع كل الناس مخالطة، وليس هناك إلا أنه بعض المرات يأخذ الكتاب ويقرأ في المجلس؛ ولو سألته عن بابه الذي قرأه ما عرفه، ولو طلبت منه مسألة مما يقرأ لم يجب عنها، وربع الريال أحب عنده من كتابين، قد خلا منه المسجد وامتلأت منه مجالس الغفلة، وعطل لسانه من الذكر، وسله في الخوض في أحوال الناس، وما يجري بينهم وتعرف دنياهم، فهذا من العلم النافع بعيد، ولا يفيد ولا يستفيد، من حكمة الرب سبحانه أن مثل هذا لا يوفق.
وأدلة هذه الأمور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها كثيرة معروفة، ومن تأمل أحوال العالم وجد ما يشهد لذلك؛ فتجد من يشب ويشيب وهو يقرأ ولم يحصل شيئاً، لمانع قام به وحائل من نفسه، لا من ربه، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 49] ، {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [سورة القمر آية: 5] .